Next Page  57 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 57 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

57

2016 )9(

العدد

من الواضح إذن أنّ حالة الطبيعة لدى لوك ليست عارضاً

ينبغي تجاوزه بالضرورة، كما أنّا ليست وضعية متنافية مع الطبيعة

الإنسانية، بل على العكس إنّا ما يسمح ببناء تصور حول حسّ

حضاري أولي يمكن العودة إليه باستمرار في كلّ مرّة يفشل فيها

الكيان السياسي الذي يشتغل من خلال توكيل سياسي لتدبير

شؤون القضاء والتشريع، بما يتناسب مع هذه المرجعية الأخلاقية

السابقة. ولذلك يستطيع لوك، بخلاف هوبس وغيره، تبرير

الثورة على الحكومات الفاسدة؛ من جهة لأنّ العلاقة معها لا

تقوم على أساس عقد نائي وإنّما تخويل سلط مشروطة، ومن

جهة أخرى لأنّ العودة إلى حالة الطبيعة لا يمثل انياراً تاماً

للحضارة الإنسانية، فهو على العكس قد يكون حلاً حينما تتطرف الأنظمة السياسية في فسادها، وانزياحها عن جادة أخلاق البراءة التي

ينبغي حمايتها باستمرار، لا باسم نظام سياسي بعينه، لكن باسم أمن وسلامة الإنسانية جمعاء. وهذا يسمح بتبرير أفعال عقابية تتجاوز

الشرعيات السياسية المحلية، لكي تنبني على شرعية كونية تضع كلّ من يعادي أمن الإنسانية وسلامتها موضع الهمجي المجرم، الذي

يحتاج إعادة تأهيل، أو عقاباً صارماً قد يصل حدّ القتل.

إنّ مثل هذا المنطق هو ما يبرّر التدخل خارج إطار القوانين المحلية في شؤون جماعات بشرية غريبة عن الكيان السياسي لبلد ما، وذلك

في الحالة التي تظهر فيها حقوق الإنسان الأساسية التي تُعدّ الصياغة المعاصرة للحقوق الطبيعية عرضة للخطر. وهو أيضاً ما يسوّغ

معاقبة الغريب باسم قوانين لم يساهم في تشريعها، ذلك أنّ حالة الطبيعة لامّة لكلّ بني البشر في نظامها الإلزامي، الذي يفرض على

المتعاقدين سواء في «سلدانيا أو بينسويسي وهنديفي أدغال أمريكا الوفاء بعهدهما، لأنّ الوفاء بالعهد من واجبات الإنسان من حيث

.

6

هو إنسان، لا من حيث هو عضو في مجتمع ما وحسب»

بل يمكن القول إنّ غريب الإنسانية المتمثل في «المذنب» يستحق في كلّ الحالات أن يهدر دمه، وأن يقتل نظراً لنكوصه عن الآصرة

. إنّ همجيّة

7

البشرية، مثلما يقتل «الأسد والنمر أو سواهما من الوحوش الضارية التي يستحيل على البشر أن يعيشوا معها بسلام ووئام»

جذرية لا تكتفي بأن تجعله يعاني من اضطرابفي الاندماج، بل تكس رابطة علاقته مع الجماعة الإنسانية. فهو بهذا امتداد لصورة قابيل

الذي قطع وشيجة الأخوة مع بني آدم حينما قتل أخاه هابيل، لذلك فهو يصبح على إثر فعل القتل هذا، كما في سفر التكوين حسب ما

أورده جون لوك «كلّ من يجدني الآن سيقتلني». إنه القانون العظيم الذي وقر وطبع في قلب البشرية «كلّ من يهرق دم إنسان ما أهرقت

.

8

الإنسانية دمه»

نظريّة الشغل والملكيّة الخاصة: من همجي البشرية إلى همجي الحضارة الصناعيّة

ما جعل الإنسان مضطراً في حالات معينة إلى تجاوز هذا الطور الطبيعي في الوجود الإنساني أمران: أولاً صعوبة تدبير الخلافات

القائمة على أسسحقوقية طبيعية، من خلال اعتماد السلطة الذاتية فقط، حيث إنّ وضعية يكون فيها كلّ شخص قاضياً لنفسه تتناقض

مع مطلب الحياد في أمور القضاء، هذا رغم أنّ الاقتصاص للنفس هو في الأصل حق طبيعي في كلّ مرّة تمسّ حرمة الحقوق الطبيعية،

.146

  ـ مرجع سابق، ص

6

.143

  ـ ص

7

.144

  ـ مرجع سابق، ص

8

جون لوك ... من الهمجيّة فقداناً للبراءة إلى الهمجيّة تخلفاً عن ركب الصناعة

إنّ همجية الطبع الإنساني، حسب هوبس،

لا تقبل الاجتثاث الكامل، لأنّ ذلك سيمثل

غاية غير واقعية في مجال العلم المدني الذي كان

يسعى إلى إنشائه على غرار العلوم الأخرى

المخصوصة بباقي الأجسام غير المدنية، وإنّما

علينا فقط أن نراهن على جعل هذه الهمجيّة في

خلفية محدودة وغير مؤذية للنظام العام