ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
58
2016 )9(
العدد
سواء تعلق بالشخص نفسه، أو بالإنسانية ككل. أمّا الأمر الثاني الذي سيدفع بالجماعة البشرية إلى الانتقال نحو وجود مدني منظم من
خلال مؤسسات، فتتمثل في كون هذه الأخيرة عنوان للحضارة اللائقة بالشعوب غير الهمجيّة، نظراً لغلبة ميلها إلى تحكيم العقل،
والشعوب التي خرجت من طورها الرعوي بحرصها على تشريع قوانينها الخاصة عوض التعويل على الأعراف العامة، التي لا تجسّد
سوى توافقات عابرة ومنسية لتدبير أزمات صغيرة، وهو ما يتجلى بوضوح في واقعة رعي إبراهيم لأغنامه في أرض بعيدة عن موطنه،
دون أن تجعله غرابته الترابية موضع احتجاج، وذلك بكل بساطة لأنّ الأرضفي مرحلة ما قبل الشغل كانتسائبة، وتوجد تحت تصرف
مستعمليها، بل إنّ عملية وضع الحدود التي سيلجأ إليها إبراهيم ولوط لا تمثل أيضاً انتقالاً فعلياً وواضحاً إلى الطور المدني.
لن ينتقل الإنسان إلى الطور السياسي، ومن ثمّة إلى حضارة المؤسسات، إلا حينما سيتحول من مستوى الرعي والالتقاط إلى مستوى
الزراعة التي تمثل أحد أكبر المظاهر التاريخية لفاعلية الشغل البشري. ويتجاوز لوك في هذه الحالة تصوره للأرض في وضعية البراءة
الأولى، التي توجد كلّ الخيراتفي إطارها تحت التصرف الإنساني باسم العطاء الإلهي، إلى تصور الأرضمن حيث هي ملكياتخاصة
تقوم على أساس تفاوتاتشرعية غير مستحقة، باسم العمل الذي يبرّر الملكية الثانية للأرض، بعد الملكية الأولى التي تخصّ كلّ البشرية.
مع ظهور الشغل ستنفلت هذه الملكية الأولية نحو وضعيات فارقية، يقول لوك: «إنّ شغله يميز ويعزل الفواكه التي يجمعها عّ
جمعه الآخرون، رغم أنّا في الأصل واحدة ومشتركة، إنّه يضيف إليها شيئاً ما أكثر ممّا وضعته الطبيعة، الأم المشتركة بين الجميع، ومن
. ولأنّ الأمر لا يتعلق بلحظة انطلاق مشتركة أو بوضعية كونية، وإنّما بجهد خاص تنجم عنه
9
خلال هذه الوسيلة تصبح خيره الخاص»
وضعياتجديدة، فإنّ الثنائية التي ستحكم هذه المرحلة المدنية، ليستهي ثنائية الإنسان الخّ والمجرم الهمجي المعتدي على حق الحياة،
بل سيتعلق الأمر بالإنسان المشتغل والمتملك بفعل هذا الشغل نفسه لملكياتخاصة، وبين من يسعى إلى المساسبهذا الحق، أي المعتدي
بدلالته القانونية، وأيضاً من يقوم بتعطيل آلية الشغل من خلال أنماط وجود خاملة، تسعى فوق الأرضفي استلاب، عوضأن تستغلها
على أحسن وجه، وهو ما تمثله كلّ الأشكال الثقافية البدائية التي لم تصل بعد إلى هذا النمط من مفهوم الملكية الخاصة.
إنّ همجي الطور الثاني من الوجود المدني لا يدخل فيصراع مع الإنسانية، وإنّما مع الحضارة العقلانية الصناعية، لذلك فإنّ طبيعته
قبل المدنية لن تبرر عملية استدماجه داخل الجماعة الحديثة، بل سيمثل وجهاً مستبشعاً ومنبوذاً من طرف الفلسفة اللوكيّة، لأنّه يقف
أمام مسار تطور الحضارة الصناعية القائمة على تحويل الخيرات الطبيعية إلى ثروات يمكن مراكمتها، عبر اكتشاف المال، أو «تلك القطعة
الصفراء» كما يدعوها لوك، الاكتشاف الذي سيفصل بشكل نائي بين الحضارات ما قبل المدنية وبين الحضارات المدنية، التي تتجاوز
مرحلة استهلاك ما تجود به العناية الإلهية، إلى مرحلة إنتاج الخيرات التي يمكن تأجيل التمتع بها على مستوى الزمن، من خلال تحويلها
إلى قيمة مالية سهلة الحفظ والحيازة.
ورغم ما يبدو من طابع تجريدي لهذه العبارات، فإنّا تخفي في الواقع وجهاً صادماً لفيلسوف الحريات، أقصد حماسته الزائدة لتفعيل
، بينت أنّ
10
وأجرأة وتبرير النزوعات الاستعمارية لأرستقراطية بريطانيا. وهو وجه آخر يظهر بوضوح كامل من خلال دراسات عديدة
حالة الطبيعة كما صورها لوك ليست مجرد وضعية نظرية استحدثها لأجل دوافع استدلالية فلسفية فقط، وإنّما هناك ما يتصل بوضعية
إلى أنّ الحل الذي
11
B. ARNIEL
جيوسياسية محددة، يحاول لوك أن يجد لها أفضل التخريجات وأكثرها مردودية، وكما تنبّه باربرة أرنيل
.124
ـ مرجع سابق، ص
9
10- Cf. L`Amérique de John Locke : L›expansion coloniale de la philosophie européenne, Editions Amsterdam (21 octobre 2014).
11- BARBARA, ARNIEL, JOHN LOCKE AND AMERICA the defence of englishe colonialism, CLARENDON PRESS, OXFORD, p.7
محمد هاشمي




