ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
54
2016 )9(
العدد
*
محمد هاشمي
مدخل
إنّ عمق الكيان الأخلاقي لكلّ حضارة يجد قوامه ومرتكزه في القدرة على الوسم الثقافي، وعلى خلق أحياز منتظمة ومتراتبة، بحيث
تتحدد في إطارها، وعلى نحو قيمي معياري، مواقع وأشكال الأنا والآخر، والقريب والغريب. ولذلك فإنّ روح أيّة حضارة لا يتمثل
في مدى قدرتها على التأكيد والإيجاب، وإنّما أيضاً، بل ربما على شاكلة أقوى، بقدرتها على النفي والاستبعاد، ممّا يعني أنّ تصور الهمجي
والغيرية الحضارية على العموم لا يُعدّ مجرد مفهوم عرضيلجوهر الحضارة، ولا بعضاً من لواحقها التي يمكن الاستغناء عنها، بل هو
قطب مركزي ورئيسفي بناء الهويّة والتوازن الحضاريين. وتُعدّ فلسفة جون لوك إحدى أهمّ المساهمات التي اعتمدتفي بناء الحساسية
الحضارية الليبرالية الحديثة، وذلك من خلال نحتها لمجموعة من المفاهيم التي سطّرت في الوقت نفسه سمات الرجل «الإنجليزي»
، وملامح الهمجي البريء والفاسد الذي يمثل أحياناً لحظة ما قبل الحضارة، وفي أخرى صورة لما هو مضاد
1ً
والإنسان الشهم عموما
لها. نحاول في هذا المقال أن نعرض لبعض المفاهيم التي سمحت بترسيم شبكة التمايز والتداخل بين الحضاري والهمجي في فلسفة لوك
فيلسوف الحريات الشهير، ووزير الاقتصاد والمستعمرات الأقلّ شهرة.
حالة الطبيعة والحضارة الثاوية
تعتبر فرضية حالة الطبيعة مفصلاً مركزياً في جميع نظريات العقد الاجتماعي، فهي توفر لحظة حياد قبل ـ حضاري، يتم انطلاقاً منه
البناء النظري لمقتضيات الاجتماع المدني، واستخلاص نسق الواجبات والحقوق التي تُعدّ مدار الحياة السياسية للمجتمعات الإنسانية.
لكنّ توصيف هذه الوضعية الافتراضية لم ينجز دائماً على المنوال نفسه؛ فهناك فلسفات جعلتها مقابلاً لوضعية ما بعد الخطيئة، ومن ثمّة
فقد صورتها على شاكلة تدينها من حيث المبدأ، حيث أبانت من خلالها مدى فساد الطبع الإنساني، وقوة تحكم الميولاتضدّ الحضارية في
نزوعاته الفطرية. كما أنّ هناك فلسفات أخرى قدمتها في وضعية تقابل المرحلة الفردوسية السابقة للسقوط، ومن هنا أسست نظرية أكثر
إعلاء وتمجيداً وثقة في هذه الطبيعة الإنسانية.
يمكن مثلاً أن نعدّ فلسفة هوبس نموذجاً للتصورات الأولى، على اعتبار أنّ صورة العدوان التائه والدموي في إطار حالة حرب الجميع
ضدّ الجميع، الذي اشتهر صاحب الليفايتن ببلاغته السوداوية في توصيف تفاصيلها، تمثل مظهراً لغلبة المنازع الإناينة والانفعالية المضادة
للعقل الذي ينبغي أن يميز الكائن البشريفيحالة تمدنه؛ فهناك حسبهوبسهمجيّة أصيلة في الوجود الإنساني تمثل الحضارة محاولة لكبح
اندفاعها، وتأطير وتوجيهسريانا الدائم في الجسم المدني منخلال القوة العقابية للدولة. لذلك يمكن القول حسبهوبسإنّ همجية الطبع
الإنساني لا تقبل الاجتثاث الكامل، لأنّ ذلك سيمثل غاية غير واقعية في مجال العلم المدني الذي كان يسعى إلى إنشائه على غرار العلوم
الأخرى المخصوصة بباقي الأجسام غير المدنية، وإنّما علينا فقط أن نراهن علىجعل هذه الهمجيّة فيخلفية محدودة وغير مؤذية للنظام العام.
أكاديمي من المغرب
*
عن فكرة العبودية».
gentelman
ـ تعريض بالجملة التي افتتح بها جون لوك نقده لروبرت فيلمر«يصعب أن تتخيل دفاع الإنجليزي، ناهيك عن الرجل الشهم
1
جون لوك
تخلفاً عن ركب الصناعة
إلى الهمجيّة
فقداناً للبراءة
من الهمجيّة




