Next Page  56 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 56 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

56

2016 )9(

العدد

وهكذا فإنّ استحقاقَ المُخّل بالواجبات الطبيعية للعقاب، ينجم عن انزياحه عن مطلب المحبة المتبادلة بين بني البشر في أفق حفظ

النوع الإنساني، وحفظ الخيرات الكفيلة بأن تضمن له حق الاستمرار. إنّه يغفل أن ما يتمتع به منحرية يتوازىضرورة مع فكرة المساواة

التي تُعدّ نتيجة لافتراض الجميع مخلوقاً إلهياً. لذلك فالتفوق على مستوى الكفاءات الطبيعية لا يبرر على أي حال استعماله لأجل خلق

سطوة خارجة عن الطبيعية الأخلاقية قبل المدنية، وهو ما كان ليصبحشرعياً لو أنّ حالة الطبيعة تشكلت فقط من مكونات مادية قابلة

للمقايسة والمزايدة الكونية. لكن حين نفترض أن وجود قيم غير مادية داخل هذه الحالة، فحينها يصبح الأصل هو المساواة إزاء إلزامية

هذه القيم، بغض النظر عن أيّ تفوق مادي، وهذه المساواة في الإلزام تتحول بدورها إلى نوع من «الأخلاقية التبادلية» التي تجعل كلّ

علاقة بينشخصين تقوم على أساس أنّ القيمة الأخلاقية تلعب دور قانون، وليسمشيئة فردية. ولذلك فهي لاتبرّرُ من أي طرف بعينه،

وإنّما من خلال منطق عقلاني يتجاوز المصالح الشخصية، ممّا يجعل المساوة تمثل مفتاحاً للوفاق والتعاون لأجل حفظ النوع البشري

.

right of self-preservation

انطلاقاً من حق حفظ الذات نفسه

Right of preserving all Mankin

إنّ هذا التصور الوفاقي للوجود البشري في حالة الطبيعة يتغذى من دون شك بتصور مسيحي عميق، ينطلق من وجود عناية إلهية

تصاحب الإنسان من خلال رسمها له معالم توجيهية تعطيه مرتكزات قوية، وذلك من فكرة القوانين بمعناها الثيلوجي الذي وردت

الذي ظلّ حاضراً بشكل قوي ومحترم داخل كتابات لوك. حيث يحيل إليه إحالة طويلة في

Richard hooker

3

به عند ريتشارد هوكر

بداية «البحث الثاني في الحكومة المدنية»، مظهراً بذلك مدى أهمية الخلفية المسيحية في فهم حالة الطبيعة في صورتها اللوكيّة، يقول هوكر

في نبرة تذكرنا صراحة بمطلب محبة القريب الشهيرة في الأخلاق المسيحية: «إنّ رغبتي في محبة نظرائي في الطبيعة لي قدر طاقتهم يفرض

عليّ واجباً طبيعياً هو أن أضمر لهم مثل تلك العاطفة نفسها، ولا يجهل أحد القواعد والقوانين المختلفة التي يستنبطها العقل الطبيعي

.

4

من هذا التساوي»

إنّ البعد الاجتماعي لحالة الطبيعة يفيد أنّ ما يمثل دور الغريب داخلها، هو من لا يلزم نفسه بواجب المحبة والحفظ، ومن يمارس

تمثل خطراً على البشرية، وعلى سلم البراءة التي تمثل الأصل في الوجود الإنساني، إنّ هذا

5

criminal offences

اعتداءات إجرامية

الإخلال يجعل من لا يحترم الحياة البشرية همجياً يقف وجهاً لوجه أمام الإله، وضدّ البشرية، لذلك فجرمه ليس مجرد إخلال بقوانين

أيضاً. إنّ هذه العبارة الثيلوجية تفيد أنّ المذنب بالدلالة المسيحية القوية، يمثل التشوه الأول الذي ينتج

trespas

وضعية بل هو «خطيئة»

عنه «الإنسان المفتقد لإنسانيته»، أي المفتقد لمجموعة من ضوابط سابقة عن أي تعاقد أو موافقة، هي ما يمثل الحد الأدنى من الأخلاقية

التي تسمح بتأهيل الإنسان لكي يكون متعاقداً، ومن هنا تصبح الحضارة الإنسانية التي من المفترض أن يدافع عنها الجميع ضد المذنب،

هي تلك الجماعة الكبرى التي تسعى إلى إلزام نفسها بقوانين العقل التي تُعدّ وحياً غير مباشر، تحقق من خلاله الذات الإلهية الحضور

في هذا العالم. فالحضارة المدنية التي ستتشكل انطلاقاً من مبدأ الملكية الخاصة القائمة على الشغل، تظلّ مسبوقة بحضارة اجتماعية قبل-

مدنية، لا تتعلق بالملكية الصناعية، بل بمجرد الانتماء إلى النوع البشري من حيث هو تحت طائلة إلزامات البراءة التي خلق عليها.

ولعل هذا مثلاً ما يفسّ الموقف المتشدد البالغ العدوانية من الملحد، الذي يرى لوك أنّ عدم أحقيته من الاستفادة من مبدأ التسامح،

مردّه إلى أنّ إنكاره للخالق يجعله يتحلل من كلّ ما من شأنه أن يلزمه أو يضمن وفاءه بأيّ تعاقد. إنّ الملحد حسب منطق لوك هو أيضاً

غريب عن الجماعة البشرية وعن حضارة البراءة، لأنّه يتخلى عن تلك الأخلاقية الثاوية في قوانين الطبيعة، ويبدّد كلّ ما يمكن أن يدمجه

في الجماعة البشرية في صورتها الاستخلافية.

133-127

، ص

2016 ،

ـ انظر ما خصصناه لمؤثرات هوكر على لوك في كتابنا «جون رولز والتراث الليبرالي»، دار توبقال، المغرب

3

.140

ـ مقالتان في الحكم المدني، مرجع سابق، ص

4

5. Locke, John, Two Treaties Of Governement, Cambridge University Press, 2003, p.274.

محمد هاشمي