Next Page  62 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 62 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

62

2016 )9(

العدد

*

حاتم أمزيل

«إنّ إقامة استعمار حقيقي أمر يقتضي معرفة إثنولوجية مُعدّة بإحكام». هذه الحكمة السائرة زمن حركات الاستعمار، التي تختزل

الحمى الإثنوغرافية للقرن التاسع عشر، دفعت الأوروبيين إلى ركوب السفن والجمال والجياد نحو أعماقصحارى إفريقيا وما وراء جبال

آسيا من أجل دراسة البنيات الثقافية والاجتماعية وأشكال التمثل الدينية والأسطورية والبنيات اللغوية والذهنية وتكنولوجيا الزراعة

والصيد المنتشرة في التجمعات البشرية لهذه المناطق.

كما تختزن العبارة الاستعلاء النظري المهيمن على العلوم التي اتخذت المجتمعات البدائية موضوعاً لها، ليس من أجل توسيع وتعميق

الرصيد المعرفي للبشرية عن ذاتها، وإنّما لاستخدام كمّ المعلومات بهدف إحكام الهيمنة والسيطرة، المتدثرتين بالرغبة في نقل التجمعات

البشرية البدائية من الهمجيّة والتوحش إلى الحضارة والتقدم، ورفعها إلى مصاف الدول المتحضرة.

غير أنّ الأبحاث في مجال الإثنولوجيا جاءت بغير النتائج المنتظرة منها، بعدما توالت الأبحاث التي أكدت أنّ التقدم والعمليات

العقلية وبناء الأنساق كلها خصائص بشرية كونية مشتركة، وأنّ مسارات التحول والتغير مختلفة ومتعددة، وبالتالي ليس هناك مسار

وحيد يجب على المجتمعات البشرية كلها قطعه، بعدما ظهرت الثقافاتفي صورة خطوط متوازية.

تغير تماماً التصوّر الذي انطلقت منه الأبحاث الإثنوغرافية، الذي كان يصادر على وجود ثنائية الحضارة والتوحش، وعلى ضرورة

انتقال المجتمعات المتوحشة إلى مصاف المجتمعات المتحضرة، وأنّ المجتمعات البدائية هي الماضي الضروري للمجتمعات المتحضرة،

وأنّ النموذج الغربي هو المستقبل الحتمي لمجتمعات أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا. لقد أدرك الإثنولوجيون أنّ المسارات الحضارية

مختلفة، وأنّه في مقابل مفهوم «الحضارة» هناك «حضارات متعددة».

الهمجيّة والحضارة: ثنائيّة ميتافيزيقية في قلب فكر الأنوار

اتهام فكر الأنوار بتقديم الأساس الإيديولوجيلحركة الاستعمار الأوروبي دعوى رائجة ومعروفة. فقد نظرت الدول الأوروبية حينها

إلى نفسها بأنّا الحامل الحضاري للقيم الكونية التي طالما دافع عنها فلاسفة الأنوار، ومن ثمّ اعتقدت هذه الأمم أنّ الرسالة التاريخية

الملقاة على عاتقها تكمن في نقل هذه القيم إلى المجتمعات «البدائية» الثابتة ثقافياً، والباردة إبداعياً، والتي لم تتوقف عن الاستغراق في

ماضيها من خلال استعادته وتكراره. ولإنجاح المشروع، كان لا بدّ من الانتقال إلى أرض هذه الثقافة والإقامة بين سكانا لتلقينهم

مبادئ الحضارة وأسسها. فتمّت إعادة تأويل عبارات أنوارية مثل «النقل الحضاري» و«التربية» لتعني «واجب المساهمة فيتحضرالأعراق

.

1

المتخلفة»

* باحث من المغرب

1 - Jules Ferry, cité par T. Todorov, L’esprit des lumières, Robert Laffon, 2006, p. 31.

الهمجيّة والحضارة:

آليّة إصلاح الطبيعة البشريّة في الثقافة الغربيّة الحديثة