Next Page  63 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 63 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

63

2016 )9(

العدد

ظهر لفظ «الحضارة» في تاريخ الثقافة الغربية في وقت كانت فيه هذه الثقافة في أمسّ الحاجة إليه، أي إبّان بدء مرحلة إثمار النمو

العلمي الذي افتُتح مع كوبرنيك وغاليلي ونيوتن، وسايره النقاش الفلسفي منذ بيكون وديكارت، وصولاً إلى عمق حركة الأنوار ومع

روادها.

» في حضن الفكر السياسي الأنواري، وهو يتأسس على مسلمتين:

civilisé

نشأ مفهوم «متحضر

ـ الطبيعة الإنسانية واحدة وكونية ومشتركة.

1

ـ كلّ الحضارات الإنسانية بمثابة لحظات تاريخية في سبيل التطور الإنساني الكوني الشامل.

2

بناء على هاتين المسلّمتين، فإنّ النعت «متحضر» ُل على الإنسان في حالتين: حالة الفرد الناشئ في حضن مجتمع يمتلك قيماً مشتركة

وإلزامية، وأنماطاً من السلوك الأخلاقي، وعلى درجة من درجات الاستخدام التكنولوجي للأدوات والآلات مقارنة بإنسان الطبيعة، أو

حالة الفرد المنتمي إلىمجتمع متقدم على مسار الحضارة مقارنة بأفراد التجمعات البشرية الأقرب إلىحالة الطبيعة فيسلم الرقي الحضاري.

، وقد ظهر في الفترة التاريخية نفسها، أي القرن الثامن عشر، وفيجلّ لغات أوروبا ( فرنسية وإنجليزية

civilisation

أمّا مفهوم التحضر

وألمانية)، فقد استخدم للدلالة على عملية وسيرورة تقدم المجتمعات وتحسن شروط العيش داخلها. فهل حضرطرفا الثنائية المفهومية

همجي/ متحضرمنذ الينابيع الأولى للفكر الأوروبي الحديث؟

يجب أن ننبه إلى أنّ الإجماع لم يكن سائداً حتى داخل الفكر الأنواري، فهذا روسو لم يبنِ تصوره الفلسفي الملهِم للحركة السياسية على

الثنائية المشار إليها، لكنّ تفكيك تصوره الفلسفي يكشف عن أمر غاية في الأهمية بالنسبة إلى فرضية مقالنا، وهو أنّ ما يمكن اعتباره

إرهاصات الثنائية المفهومية بدأت تظهر رويداً رويداً، وصولاً إلىتحوّل جذري (سنفصح عنه فيما يأتي منتحليل) نشأ مع العصرالأنواري.

فعلى عكس منحى التصور الأنواري، لم تصدر نظرية روسو في الموضوع الذي نحن بصدد مناقشته، عن أحكام قبلية أو قيمية، حيث

نجد في نص روسو: «مقال في أصل وأسس التفاوت بين الناس» الإشارة إلى حالة طمأنينة عامة تنعّم الإنسان فيها، وذلك في مرحلة لم

يكن الناس فيها يحتاجون إلى بعضهم بعضاً، لأنّ كل واحد كان يستطيع الاعتماد على نفسه في بناء بيته المتواضع وحياكة أسماله وتزيين

. ففي هذه

2

بشرته بالأصباغ الطبيعية وصناعة رماح الصيد أو آلات الموسيقى وصناعة المراكب البسيطة بالحفر على جذوع الأشجار

المرحلة التي لم يكن فيها لأفراد البشر علاقات أخلاقية تربط بينهم أو واجبات تفرض عليهم، لم يكن للفرد لا أن يكون خ ّاً ولا أن

يكونشريراً. وبالنظر إلى عدم وجود اجتماع بشري حقيقي مبني على قوانين وواجبات، فإنّ غياب أسس ومعايير يتمّ بناء عليها التمييز

بين الفضائل والرذائل كان أمراً طبيعياً.

لقد كان الناس أحراراً ينعمون بالسلامة الجسدية والخيرات المادية والغبطة، ولا يعني هذا الوضع غياب أدنى أشكال الاجتماع، فمن

الممكن جداً أن يكونوا قد عاشوا في تجمعات، وليسهناك ما يمنع ذلك غير الحفاظ على الحريّة، كان بإمكانم التبادل، لكنّ هذا التبادل

لم يكن يتنافى مع الحرية والاستقلالية. وربما تبادلوا الأدوات والخدمات، لكن دون تبعية أو خضوع أو إكراه.

لقد أحسن توكفيل الردّ، حين كان نائباً بالجمعية العامة، وهو يسخر من ادعاء أحد الماريشالات بكونه يدافع تحت نفس القبة على قتل الجزائريين، بدعوى أن حب

الوطن بالنسبة إليه خير من التعبير عن أحاسيس حب الإنسانية، حيث قال له النائب: «إن المريشال يحسن الدفاع عن الوطن فوق أراضي الأغيار.»

Tocqueville, cité par T. Todorov, ibid, p. 32.

2 - Rousseau, Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes, Cérès, Tunis, 1994, pp. 9192-.

الهمجيّة والحضارة: آليّة إصلاح الطبيعة البشريّة في الثقافة الغربيّة الحديثة