ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
64
2016 )9(
العدد
حاتم أمزيل
جسّد روسو بهذه التصورات النقيض التام للتصور الأنواري الذي أعلى من شأن الحضارة. ورحّب هذا الفيلسوف بحالة الطبيعة.
وعكس ما يروج من أنّ نظرية حالة الطبيعة كانت حالة مفترضة، فإننا نعتقد أنّ حالة الكائن الطبيعي و«المتوحش» كانت متجسدة في
سكان العالم الجديد، تماشياً مع نظرة فلسفة التاريخ المؤطّرة لنظرة الأنواريين عموماً، وقد استفاد روسو من كتب ومؤلفات وتقارير
. ولا نرى أيّ ضرر في أن نغامر ونقول: إنّ روسو كان معجباً
3
الرحالة في ذلك العصر ليبني تصوره عن المراحل الأولى لبدايات البشرية
بسكان العالم الجديد لكونم حافظوا على تجمعات بسيطة، غير معقدة من ناحية التنظيم السياسي والديني، أفرادها متقاربون اجتماعياً
لا تفصلهم طبقات ولا تباعدهم الأديان عمودياً (لا وجود لطبقة رجال الدين)، أو أفقياً (لا صراع حول المعتقدات والمقدّسات بين
التجمعات البشرية)، كما أنّ علاقتهم بمحيطهم الطبيعي يملؤها الانسجام والدنو والقرب، ومسكنهم ولباسهم وغذاؤهم مستمد من
الطبيعة، بل إنّه امتداد لها.
يمدّنا تاريخ الأفكار بدليل يكشف لنا أنّ الثنائي المفهومي متحضر/ همجي ليس ثنائياً مفهومياً بنيوياً في الثقافة الغربية، فهذا مونتيني
يورد مفهومي الهمجية والوحشية في مقابل مفهوم العادة، بحيث يعني مفهوم الوحشية في هذا السياق ما لم يعتدْ عليه
Montaigne
الكائن الإنساني في إطار المجتمع الذي نشأ فيه. يقول: «ليس هناك ما هو بربري ووحشي لدى هذه الأقوام (البدائيون)، بحسب ما
بلغني. وسيكون كلّ شيء واضحاً، إذا ما انتبهنا إلى أنّ كلّ شخص يطلق نعت «همجية» على ما هو مخالف لعاداته. فالحق هو الأفكار
سكان العالم الجديد-أمريكا) متوحشون وفق المعيار نفسه
(
والآراء المتداولة في بلدي، وفيه أيضاً الدين الحق، والقانون الأمثل. إنم
)، والحال أنّ الثمار المألوفة لدينا قد هجناها وتدخلنا في إنباتها، أي
Les fruits sauvages
الذي نستخدمه لنعتبر ثمار الطبيعة ثماراً بريّة (
.
4
أننا في حقيقة الأمر أفسدنا طبيعتها»
لقد اعتمدنا نصين مؤسسين للوعي الأوروبي الحديث لكي نثبت أنّ ثنائية متحضر/همجي لم تكن دائماً حاضرة في المخيلة والذهنية
الأوروبيتين، وهذا يعني أنّ لهذه الثنائية زمن ميلاد محدداً، يجب علينا كشف توقيته، وكشف التغيرات الفكرية التي دفعته إلى سطح
التفكير والنظر، وكذلك نتائجه.
في الخط الممتد من مونتيني إلى روسو لا نصادف إعلاء للحضارة على حساب الطبيعة، بل هناك اتفاق على أنّ الثقافة تفسد طبيعة
الإنسان مثلما تفسد الزراعة طبيعة النباتات البرية، وعلى المنوال نفسه يفسد المجتمع طبيعة الفرد، لأنّ دين المجتمع يلقن الفرد كراهية
الديانات الأخرى، وثقافة طبقته تعلمه ازدراء أفراد الطبقات الأخرى، كما تلقنه تقاليد وعادات مجتمعه النظر باستغراب لتصرفات
أفراد المجتمعات الأخرى. لكن ننبه في هذا المستوى من التحليل إلى نشوء الإرهاصات الأولى للثنائي المفهومي همجي/ متحضر بنبرته
العنصرية الاستعمارية المعاصرة (بداية من القرن التاسع عشر)، وهو ثنائي ناقصبالنظر إلىحضور أحد طرفي الثنائي دون الطرف الآخر.
لن نسيرفي اتجاه البحثفي الأسباب المعرفية والنظرية التي قادت الممارسة الاستعمارية ووجّهتها، وهو سلوك يكشفتصوراً لعلاقة الذات
بالغير، بقدر ما يهمنا في هذا المقال الدعوة إلى مراجعة حكم سائد، مفاده أنّ التصورات الفلسفية الغربية في فترة من فترات تطور الفكر
الغربي شكلت الأساس النظري المحرك للسلوك الاستعماري الأرعن تجاه مختلف مجتمعات المعمور الموجودة خارج دائرة الثقافة الغربية.
غرضنا أن نميط الحجابعن تحول مرحلي طرأ على مستوى الثقافة الغربية، وهو تحول لم يكن من نتائجه فقط توجه السياسيين والعسكريين
الغربيين إلى تحديث المجتمعات البدائية ونقل الحضارة إليها، بل إنّ التحول المشار إليه دفع، قبل القرن التاسع عشر، إلى المطالبة بتحديث
.2009 ،
، ترجمة يوسف عاصي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت
1715-1680 ،
- بول هازار، أزمة الوعي الأوروبي
3
4- Michel de Montaigne, Essais, chap. XXXI, des cannibales, Texte établi par Marcel Guilbaud, Société générale de l’Edition, Paris, 1999, pp.
23 - 24.




