ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
79
2016 )9(
العدد
وفي ظل قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ سياسة العالم تبدو
هزيلة وضامرة، وعالم السياسة يبدو متضخماً. والأسوأ من هذا،
هو أنّ مقاومة الشعوب المضطهدة قد وصف بالإرهاب من قبل
مضطهديها. وإنّ (الحرب على الإرهاب) قد أدى إلى قيام تحالف
بين المهيمِنين ضد مقاومة الوطنيين. والأسوأ من هذا، أنّ كلمة
الإرهاب قد أصبحت تخفي إرهاب الدولة حيث يتمّ تطبيق قمع
أعمى على السكان المدنيين في الشيشان وفي إسرائيل (فلسطين)،
وتستعمل الغارات المرعبة للقضاء على المقاومة الفلسطينية.
القطع مع التنمية
ما هي تلك السياسة التي تسمح لمجتمع-عالم أن يتأسس، ليس
بوصفه خلاصة كوكبية لإمبراطورية مهيمنة ولكن على أساس كونفدرالية حضارية؟
لا نقترح هنا برنامجاً أو مشروعاً، ولكن مجموعة مبادئ تسمح بفتح الطريق. إنّا تلك المبادئ التي سميتها السياسة الإنسانية على
المستوى الكوكبي أو سياسة الحضارة. إنّ هذا يؤدي بنا أولاً إلى أن ننفصل ونفتك من كلمة التنمية، بما في ذلك التنمية المعدلة أو الملطفة
في شكل التنمية المستدامة والمدعمة والإنسانية.
إنّ فكرة التنمية تحمل دائماً قاعدة تقنية واقتصادية يتم قياسها بمؤشر النمو والعائد. وتفترضضمنياً أنّ التنمية التقنية والاقتصادية هي القاطرة
التي تجر طبيعياً (التنمية الإنسانية)، وهو ما يظهر جلياً في النموذج المنجز والناجح في البلدان المعروفة بالبلدان المتقدمة، أي البلدان الغربية.
إنّ هذه النظرة تفترض أنّ الوضعية الحالية للمجتمعات الغربية تمثل الهدف والغاية النهائية لتاريخ الإنسانية. ولا تقوم التنمية
(المستدامة) إلا بتخفيف وتعديل التنمية، وذلك بالأخذ بعين الاعتبار السياق البيئي الإيكولوجي، ولكن من دون أن تعيد النظر في
المبادئ. وإنّ كلمة (الإنسان) في ما يُسمّى (التنمية الإنسانية) فارغة من كل محتوى، اللهم إلا إذا كانت تحيل إلى نموذج الإنسان الغربي،
الذي هو بالتأكيد يتصف بملامح إيجابية أساسية ولكن، ولنكرر ذلك، يتصف أيضاً بملامح سلبية أساسية.
كما أنّ التنمية، وهي مفهوم يبدو أنّه عالمي، يشكل أسطورة نموذجية للنزعة الاجتماعية المركزية الغربية، ومحرك للتغريب القوي،
والأداة الاستعمارية للسائرينفيطريق التنمية أي تسيير الجنوبمن قبل الشمال. وكما قال بدقة سارج لتوش: «إنّ القيم الغربية (للتنمية)
.
12
هي التي يجب إعادة النظر فيها حتى نجد الحلول لمشكلات عالم اليوم»
تجهل التنمية ما لا يمكن قياسه وحسابه، أي الحياة والألم والفرح والحب، وقياسها الوحيد للاكتفاء يكمن في التنمية (في الإنتاج، وفي
الإنتاجية، وفي العائد المالي). لقد تم تصميمها بصيغة كمية، وتجهل الصفات النوعية، كالصفات الوجودية، وصفات التضامن، وصفات
الوسط البيئي، وصفات نوعية الحياة، والثروات الإنسانية التي لا يمكن حسابها ولا عدها نقدياً، إنّا تجهل العطاء، والأريحية، والنُبل،
والشرف، والضمير. وتتمثل طريقتها في مسح الكنوز الثقافية، ومعارف الحضارات القديمة والتقليدية، وإنّ المفهوم الأعمى والبائس
للتخلف يستبعد فنون الحياة وحكمة الثقافات التي ظهرت منذ آلاف السنين.
12 .Le Monde diplomatique, mai 2001.
تؤدي التنمية إلى التقدم العلمي والتقني
والطبي والاجتماعي، ولكنها تؤدي أيضاً إلى
تخريب وهدم الوسط البيئي والثقافي، وإلى
أشكال جديدة من التفاوت والاستعباد التي
حلتمحل الاستعباد القديم. إنّ التنمية التي
أطلقت العلم والتقنية قد ضمنتها تهديداً ينذر
بالفناء والإبادة (الحروب النووية والمشكلات
البيئية)، وبسلطة قادرة على التلاعب
في سياسة الحضارة




