ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
80
2016 )9(
العدد
وعقلانيتها الحسابية تصبح لاعقلانية عندما يتحول الإنتاج المحلي الإجمالي إلى مؤشر إيجابي لحساب كل الأنشطة العامة بناء
، وعندما لا تعترف بفائدة الأنشطة التطوعية
1999
على السيولة النقدية، بما في ذلك الكوارث مثل غرق سفينة إريكا، أو عاصفة
والمجانية.
تجهل التنمية أنّ النمو التقني والاقتصادي ينتج كذلك تخلفاً أخلاقياً ونفسياً: التخصص المفرط والمعمم، والتجزئة المفرطة بين
المجالات، والفردانية المفرطة، وعقلية الكسب التي تؤدي إلى فقدان روح التضامن. إنّ التربية المنضبطة في العالم المتقدم قد أدت بالتأكيد
إلى إنتاج معارف، ولكنها أوجدت في الوقت نفسه معارف متخصصة غير قادرة على تعيين المشكلات المتعددة الأبعاد، كما أنّا أظهرت
عدم قدرة فكرية على معرفة المشكلات الأساسية والكوكبية.
إنّ التنمية بقدر ما تحمل في ذاتها كلّ ما هو إشكالي ومشؤوم ومهلك في الحضارة الغربية، فإنّا لا تحمل في ذاتها بالضرورة كل ما هو
مثمر، أي (حقوق الإنسان، المسؤولية الفردية، الثقافة الإنسانية، الديمقراطية).
تؤدي التنمية بلا شك إلى التقدم العلمي والتقني والطبي والاجتماعي، ولكنها تؤدي أيضاً إلى تخريب وهدم الوسط البيئي والثقافي،
وإلى أشكال جديدة من التفاوت والاستعباد التي حلت محل الاستعباد القديم. إنّ التنمية التي أطلقت العلم والتقنية قد ضمنتها تهديداً
ينذر بالفناء والإبادة (الحروب النووية والمشكلات البيئية)، وبسلطة قادرة على التلاعب. وإذا كان في مقدور مفهوم التنمية المستدامة أو
المدعمة أن يهدأ أو يلطف من هذه الحركة، فإنه لن يقدر على تغيير حركة وسير التخريب والهدم. وعليه، فإنّ الأمر لا يتعلق بالتأخير، أو
التخفيف، وإنما بصياغة انطلاقة جديدة.
وأخيراً فإنّ نموذج ومثال هذه التنمية هو الحضارة الغربية. ولكنّ هذه التنمية تجهل أنّ هذه الحضارة فيحالة أزمة، وأنّ حياتها السعيدة
قائمة على الشقاء، وفردانيتها تتضمن مركزية ذاتية منغلقة ومنعزلة، وأنّ ازدهارها المدني (الحضري) والتقني والصناعي يحمل القلق
والاضطراب، وأنّ القوى التي أطلقتها هذه التنمية تؤدي إلى الموت النووي أو الموت البيئي. نحن لسنا فيحاجة إلى الاستمرارية، ولكننا
في حاجة إلى بداية جديدة.
وتجهل التنمية أنّ التقدم الإنساني الحقيقيلا يمكن أن ينطلق ممّا هو قائم اليوم، وإنّما يتطلب بالضرورة العودة إلى الطاقات الإنسانية
النوعية، بمعنى إلى التجديد النوعي. ومثلما يحمل الفرد في تركيبته الجسمية خلايا جذعية قادرة علىتجديده، فإنّ الإنسانية نفسها تحمل
مبادئتجديدها، ولكنها في حالة من السباتوالانغلاقفي التخصصات الفرعية وفي القوالب الاجتماعية المتصلبة. إنّ هذه المبادئ هي
.
14
، وذلك باسم سياسة الحضارة
13
التي تسمح باستبدال مفهوم التنمية بمفهوم سياسة إنسانية سبق أن طالبت به منذ سنوات
من أجلسياسة للإنسانية
إنّ سياسة للإنسانية لها مهمة عاجلة هي التضامن الكوكبي. وعليه، فإنه يجب إنشاء هيئة عاجلة للأمم المتحدة تتوافر على أموال خاصة
للإنسانية المعوزة والمتألمة والبائسة. كما يجب أن تتضمن هذه الهيئة فرعاً للأدوية المجانية لأمراض نقص المناعة والأمراض المُعدية، وفرعاً
للغذاء يقدّم للسكان المحرومين الذين يعانون من المجاعة، مع ضرورة تقديم مساعدة معتبرة للمنظمات الوطنية الإنسانية. كما يجب على
13. Introduction a une politique de l›homme, Seuil, 1999.
.1965
- ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في العام
14. Politique de civilisation, Arelea, 1997.
إدغار موران




