ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
86
2016 )9(
العدد
*
مصطفى بن تمسك
المقدمــــة
عندما نعاين اليوم الحضور المتجدّد للدين خطاباً ورموزاً و«جهاداً» عُنفياً في حياتنا التي شكلتها وتشكلها الحداثة التقنية والعقلانية،
يساورنا شعور عميق بالقلق إزاء أمرين: الأول يتعلق بعدم قدرة معاول الحداثة النقدية على «قتل الإله» كما ب ّت به النيتشوية
والوضعية، بحيث عادت «الآلهة» (الرموز الدينية) أقوى ممّا كانت عليه، ولكن بأشكال مادية ورمزية وإيروسية باتت تصدر حصرياً
عن اقتصاد السوق (الاستبداد الناعم).
الأمر الثاني يتعلق بوضعنا العربي؛ فإذا كان الغربيون قد نجحوا في تغيير عناوين آلهتهم من السماء إلى الأرض(وهذه إحدى أكبر مآثر
الحداثة الفكرية)، فإنّ الشعوب العربية لم تجرؤ على هذا الاستبدال الإبستمولوجي الضخم -لكونا لم تنجز بعد حداثتها المعرفية- بل
نراها مصرّة على الوصل التعسفي بين السلطتينوالمرجعيتين السماوية والدنيوية. وهكذا ظلّ الدين -في أشكاله الفلكلورية تارة والعنفية
طوراً- حاضراً في حياتنا التي انغمست بكليّتها في الحداثة الكونية.
ويبدو أنّ الإصرار علىحشرالمتناقضاتمع بعضها بعضاً، لأجل تفادي التفريطفي المقدّسلصالح المدنّس، هو مصدر التوتر والفصام
.
1
المَرضيالذي تعانيه الشخصية العربية فرداً وجماعة
ونحن نفسّ كلّ تجليات العنف في حياتنا -وخاصة الديني منه- انطلاقاً من كلّ هذه العوامل المركّبة، التي نوجزها في لحظات ثلاث
لم تُنجز بعد: لحظة الحداثة المعرفية (الوعي بالذات وبالزمن): الانخراط في المراجعات النقدية والقطيعة المعرفية مع التراث الفقهي
المحرّض على العنف والتمييز الجنسي والديني. ثم لحظة الدولة المدنية والمواطنة، بما تعنيه من فصل علماني بين السلطات والمرجعيات
الدينية والدنيوية، وما يترتبعن ذلك من تغيير ولاءات المواطنين للقانون والمؤسسات بدل الأشخاصوالقبائل والجهات. وأخيراً لحظة
الكونية، وتقتضيمنا الانخراط في النسيج الإنساني، دون مركبات نقصان أو تفوق ديني مزعوم أو انكفاء هووي، لأجل إحباط المشروع
الصدامي الحضاري الذي انخرطت فيه العولمة النيوليبرالية في مسعى لتغيير عناوين الصراع الكوني ورموزه (نظرية هينتغتون نموذجاً).
العنف مطلقاً والعنف الديني القديم والعنف الديني-«الجهادي» الراهن، ُصلات حالات التصدع العميقة في المبيان الذهني
والتخييلي والسياسيوالكوني للذات العربية.
لم يكن العنف في كلّ تمظهراته سوى نتاج لحالات وأوضاع أفرزته. لذلك ارتأينا التوجه رأساً إلى المقدمات الكبرى أو -إن شئنا-
الأعطاب البنيوية التي تنتج وتعيد إنتاج عقيدة العنف وجماعاته.
أكاديمي من تونس
*
.120
)، ص
1987 ،
ـ محمد أركون، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، هاشم صالح (مترجم)، (بيروت، مركز الإنماء القومي
1
ورهاناته
«العنف الجهـادي»
سياسة




