إمانويل كانط: الإنسانية هي الحرية نقطة نهاية حوار مع الفيلسوف: ميكائيل فوسيل Michaël Fœssel
فئة : حوارات
إمانويل كانط: الإنسانية هي الحرية نقطة نهاية[1]
حوار مع الفيلسوف: ميكائيل فوسيل[2] Michaël Fœssel
نص الحوار:
إمانويل كانط Emmanuel Kant هو الفيلسوف الذي أهدى الأنوار للجنس البشري بامتياز، والرجل الذي انتصر للعقل ضد النزعة الظلامية، وللكوني ضد الجزئي، بيد أن كانط ليس مبعوث العقل فحسب، بل ناقده أيضا. لماذا؟ الجواب مع مُخْتَصٍّ، الفيلسوف ميكائيل فوسيل، الذي يبرز كيف أن الفعل النقدي ثوَّر طريقتنا في تفكر العالم.
سفين أورتولي: كانط رجل النقد، الكلمة المفتاح لإنتاجه الفكري: هل هذا اللفظ جديد في الفلسفة؟
ميكائيل فوسيل: لفظ "النقد" ظهر متأخرا في المسار الفكري لكانط. فالفيلسوف ولد سنة 1724، ونشر كتابه "نقد العقل الخالص" سنة 1781، وهو على مشارف سن الستين. إذ استيقظ، في خريف عمره، مما أطلق عليه "سباته الدوغماطيقي". فالأمر يتعلق في حدود معرفتي بمثال فريد لعملية نضج طويلة إلى حد بعيد. والنقد قبل كل شيء نقد ذاتي: فكانط درّس إلى حدود تلك اللحظة، الفلسفة المستوحاة من ليبنتز Leibniz المهيمنة على جامعة عصره. وهذه الفلسفة كانت، في مجملها، على قدر من السذاجة؛ إذ اعتبرت أن أشكال التقدم المتحققة بفضل العلم النيوتوني من شأنها أن تجد طريقها إلى حقل الفلسفة. ليقوم كانط، من خلال "نقد العقل الخالص"، بمساءلة جذرية لهذه الصورة من النزعة التفاؤلية. وهذه الكيفية للانطلاق من الصفر من جديد في سن متأخرة، والبحث عن أرض صلبة للمعرفة، لا تخلو من حماسة؛ خاصة وأن كانط سيحرر نقدين آخرين في تسع سنين: فمن 1781 إلى 1790، يستكشف فلسفة المعرفة مع "نقد العقل الخالص"، والأخلاق مع "نقد العقل العملي"، وعلم الجمال وفلسفة الأحياء مع "نقد ملكة الحكم". إنه فيلسوف الاستهلالات المتجددة. وفضلا عن ذلك، سيكرس كانط السنوات العشر الأخيرة من حياته لإقامة نسق جديد للحرية، كما لو أن الأمر يتعلق مرة أخرى باستهلال كل شيء من البداية.
س. أ.: هناك حثّ ودأْب كبير على ممارسة النقد، لكن ما الذي ينقده كانط في العمق؟
م. ف.: كتب كانط، في مستهل "نقد العقل الخالص"، أن "قرننا قرن النقد"، مما يشير إلى أنه كان على وعي تام بالانتماء إلى عصر الأنوار. إنه يؤسس الفعل النقدي في الفلسفة، وهو مما لا يبدو بالغ الأصالة، في ذاته، بالنسبة إلى آذان معاصرة كآذاننا. فالفلسفة تتماهى راهنا، على أوسع نطاق، مع نقد السلط القائمة في مجالات المعرفة والسلطة، لكن هذا يبدأ، على وجه الدقة، مع كانط. توجد مقدمات لدى ديكارت، لكننا نَدين لكانط بفكرة أن الفلسفة تكمن وظيفتها ليس في إنتاج معرفة وضعية أو مذهبية عن الله أو النفس أو الحرية، بل في التفكر أو النظر في شروط إمكانية خطاب حول الله أو النفس أو الحرية.
والنقد، كما يشير أصله الاشتقاقي، يتولد عن أزمة. فالنقد ينشأ عما شخصه كانط كأزمة للميتافيزيقا، هذه الأزمة التي تكمن في أن الخطابات المنصبة على الأشياء التي تتعدى حدود التجربة -الله، أو النفس، أو الحرية- تتضارب فيما بينها، دون أن يكون بالإمكان فض تضاربها. فالبعض يزعمون أن النفس مادية، ويدعي آخرون أنها لا مادية، البعض يُثبتون وجود الله، والبعض الآخر ينفون هذا الوجود إلخ. ومن أجل الخروج من ميدان الميتافيزيقا هذا، من هذه الحلبة kampfplatz، على حد تعبيره، حيث يعارض الفلاسفة بعضهم بعضا بكيفية غير مجدية وبلا نهاية، يتعين تلافي الولوج إليه، وبدل ذلك التفكر أو النظر في قواعد اللعبة. فالفعل النقدي يكمن في مساءلة الشروط التي تجعل الخطابات صحيحة. فبأية شروط يكون بلوغ المعرفة الموضوعية ممكنا؟
س. أ.: هل يتعلق الأمر إذن بفحص للعقل بواسطة العقل؟
م. ف.: نعم، فحص العقل بواسطة العقل، مما يفترض بداهة، من أجل ألا تكون العبارة متناقضة، أن كلمة العقل ليس لها المعنى ذاته في الحالتين معا. فالأمر يتعلق بفحص للعقل الدوغماطيقي أو "الخالص"، ذلك الذي يدعي امتلاك معرفة يقينية عن العالم فوق-الحسي le suprasensible؛ أي عما يتعدى حدود التجربة. وهذا الفحص للمعارف الميتافيزيقية يقوم به عقل ابتكر كانط استخدامه هو العقل الفاحص la raison examinatrice. وبعبارة أخرى، إنه عقل نقدي سينشغل بشروط إمكان خطاب صحيح بواسطة منهج سمي المنهج المتعالي la méthode transcendantale.
س. أ.: ما الذي يكمن فيه هذا المنهج؟
م. ف.: المنهج المتعالي لا ينشد المعرفة، بل يسائل شروط إمكان المعرفة. فعلى سبيل المثال، معرفة لا تأخذ بالحسبان الشروط الحسية التي تتجلى ضمنها الظواهر (المكان والزمان) تفقد كل قيمة موضوعية وعلمية. والفلسفة المتعالية يقع على عاتقها أولا حصر مجموع شروط معرفة ما، من جانب الحسي ومن جانب الفهم في الوقت نفسه. وبالنتيجة، فهي تنتقل من المقول (مضمون المنطوقات) إلى القول (صورتها). إنها تصعد مما قيل في الفلسفة والميتافيزيقا، لكن على سبيل التعميم في العلم أيضا، إلى المَلَكات التي تسمح بالقول بصورة مشروعة، وبكيفية تتيح إنتاج معرفة حقة، وليس معرفة وهمية.
س. أ.: ما وجه الجِدة في هذا في علاقة بالشك الديكارتي؟
م. ف.: الوهم ليس، كما هو الشأن لدى ديكارت، وهما للحواس. فكانط يرى أن الإدراك الحسي لا يخدعنا، مادام أنه لا يؤكد شيئا. فعندما أرى شيئا أحمر، فأنا أرى شيئا أحمر، فعلى مستوى الحس، ليس هناك حكم أو إثبات. وإذن نوجد فيما دون الحقيقة أو الخطأ. ويبرز الخطأ بمجرد إصدار حكم: عندما أقول، على سبيل المثال، إن حُمرة معينة هي ماهية هذه التفاحة. والوهم الأعمق؛ ذلك الذي يطلق عليه كانط الوهم المتعالي، يعود إلى العقل، ويكمن في الاعتقاد بإمكانية معرفة ما يوجد فيما يتعدى الحس كما نعرف ما يوجد داخل العالم. إنها الأطروحة الكبرى لكانط التي تُقوض الفكرة الديكارتية التي بحسبها يمكن تطبيق المنهج على ما يمكننا رؤيته وعلى ما نستطيع التفكير فيه على السواء. فبالنسبة إلى كانط، على سبيل المثال، لا يمكن أن يوجد برهان على وجود الله، لأن الله يحيل على كائن مختلف جذريا عن الموضوعات الرياضية المعطاة في الحدس، والتي هي قابلة لأن تكون موضوع برهان.
س. أ.: إحلال النظام محلَّ الفوضى أمر مرحب به وبالأخص راهنا! بماذا يكون كانط راهنيا على الدوام؟ وما الذي بوسعه تقديمه في عصر حيث تخضع الحقيقة والكوني والعقل لتوترات قصوى؟
م. ف.: ينقل كانط موضع الكوني من الموضوع إلى الذات. فالكوني، في نظره، ليس خاصية للموضوعات، ولا يكفي أن نقول "الله" لكي يتأتى لنا بلوغ كائن وجوده يفرض نفسه على الجميع. فالكوني ليس معطى في صورة نظام للعالم، أو عقيدة دينية، أو قيمة ما؛ بل إنه من إنتاج الذوات التي تفكر. والإسهام الرئيسي لكانط، في السجالات المعاصرة بشأن الكوني، يكمن في الخروج من الخيار الثنائي بين النزعة الطبيعانية le naturalisme والنزعة البنائية le constructivisme. فالنزعة الطبيعانية تدَّعي أن الكوني معطى في طبيعة، بينما النزعة البنائية تُضفي طابعا نسبيا على كل مزاعم الكوني باسم الخصوصيات الثقافية والنفسية. أما كانط، فيبرز أن الكوني يمكن أن يُبنى بصورة تامة ويظل كونيا إذا كانت قواعد تكوينه نفسها كونية. فالكوني في المتناول، ومن الممكن بلوغه؛ لأن الذوات الإنسانية حُبيتْ بالمَلَكات نفسها، وبأن هذه الملكات خاضعة لقواعد الاشتغال عينها.
س. أ.: ألا يقول كانط إن حقوق الإنسان يمكنها ادعاء الكونية؟
م. ف.: بالوسع الاعتقاد بأن للإنسان سمات كونية كالحرية، والحق في الملكية، والمساواة أمام القانون وغيرها، فقط من منطلق أنه إنسان. لكن، من الذي نتحدث عنه؟ عن الإنسان الأبيض؟ عن الرجل مع استبعاد المرأة؟ عن الراشد مع استبعاد الطفل؟ عن البورجوازي مع استبعاد الفقير؟ في المقابل، يلح كانط بالأحرى على كونية حقوق الإنسان من حيث كونها "إعلانا". فالكوني هنا خاصية حكم للعقل، بمعنى أنه يحيل على مطالب أو حقوق ذات صلاحية بالنسبة إلى كل الناس؛ لأن العقل هو الذي يحمل هذه المطالب أو الحقوق، وليس لأن هناك كائنا هو الإنسان يحمل في ذاته سمات كونية نابعة من طبيعته. وبعبارة أخرى، الكونية، لدى كانط، معيار ذاتي قبل كل شيء، بالمعنى الذي نكون به جميعا ذاتا، وليس ذاتيا بالمعنى الفرداني للفظ. لنأخذ سؤال كونية الخير: في مجال السلوك أو الأخلاق توجد تعارضات واختلافات ثقافية أو دينية، بيد أن جل هذه التصورات للخير تدعي أنها كونية، وهذا ما يُفضي لزاما إلى صراعات قد تكون دموية. وبحسب كانط، الكوني لا يكمن في تعريف للخير، بل في كونية القانون الأخلاقي، بمعنى قانون للعقل يَتخِذ، بالنسبة إلى الناس، صورة أمر قطعي. ففي العمق، ليس من كوني غير ما يجتاز اختبار الرَّدِّ إلى الكونية: كل المقاصد والمشاريع التي يمكنني إضفاء الكونية عليها دون أن تصير متناقضة. فالأمر يتعلق، إن شئنا، بتصور شامل للكوني.
س. أ.: الكوني إذن، هو إمكانية الرد إلى الكونية؟
م. ف.: كانط ليس مفكرا للكوني على منوال القوانين الإلهية في العهد القديم أو قانون المحبة في المسيحية: الكوني ليس معطى في لحظة من التاريخ، لا في نص ولا في اعتقاد سياسي. لقد اتخِذَ كمعيار للتحقق من مشروعية منطوق ما، وهو صحيح أولا على مستوى العلم. فالكوني منهج أكثر مما هو مجموع من المعارف. فإذا ما أكدتُ أن كل الظواهر الطبيعية لها علة، فقضيتي هذه تدعي الكونية. وبالنسبة إلى كانط، يتعين تأسيس هذا المنطوق. لكن من خلال تأسيسه، فإننا نضع له حدودا: في هذه الحالة، مبدأ السببية ليس ذا صلاحية إلا بالنسبة إلى الأشياء في الطبيعة؛ أي تلك المعطاة في الزمان. ضمن أي شروط بوسعنا القول إن كل شيء له بالضرورة علة؟ هذا سؤال كانطي. والجواب هو أن هذه الشروط هي تلك التي تهم التجربة الحسية. ولا يمكننا القول، على سبيل المثال، إن الله هو علة العالم؛ لأن الله ليس ظاهرة، إذ إنه يتموضع خارج حقل التجربة وخارج الزمان. فكونية مبدأ السببية العلمي مشروطة إذن، ومحصورة في موضوعات الطبيعة. وإذا ما جعلنا هذا المبدأ مبدأ كونيا شاملا، فإننا آنئذ نهدم الحرية؛ لأن ذلك ستترتب عنه حتمية مطلقة.
س. أ.: لقد قلتم إن الكوني منهج، بمعنى سلسلة من الخطوات، أو إجرائية procédure؟ من أجل ماذا؟
م. ف.: في مجال النظرية، الكوني بمثابة منهج. وفي المجال العملي، بمعنى مجال الأخلاق والحق، بمثابة إجرائية. فالكوني الأخلاقي هو الكوني الذي ليس البتة محصورا بشيء، أو موضوع، أو ذات جزئية، أو حالة من الثقافة. فعلى سبيل المثال، منْع الكذب كوني بالمعنى الذي يسري مهما تكن الظروف. لماذا؟ لأن الفرد الذي يجعل من الكذب قانونا كونيا من شأنه أن يهدم كل إمكانية للتواصل. فأي معنى سيكون للكلام في عالم، حيث قصد خداع الغير يعتمل في كل الخطابات؟ فالكذب لا أخلاقي؛ لأن عالما حيث يسود سيكون عالما غير قابل للعيش بقدر ما هو عنيف. ونرى عبر هذا المثال أن الكوني الأخلاقي، بالنسبة إلى كانط، لا يحيل على تصور للخير، بقدر ما يحيل على تفكر أو نظر في ما يجعل العالم قابلا للعيش، والفعل قابلا للتطبيق. فالتصرف بحسب الكوني أكثر أهمية من التصرف بحسب الخير؛ لأن الخير مشتبه على الدوام في أن يحدَّد انطلاقا من مصالح شخصية أو عوائد ثقافية؟
س. أ.: منع الحجاب الإسلامي في المدرسة أو في الفضاءات العمومية، على سبيل المثال، هل يمكن عدّه كانطيا، أم إنه يعطي الأفضلية لتصورنا للخير على تصور آخر؟
م. ف.: يجهل كانط، بكل تأكيد، ما نسميه راهنا، وبالأخص في فرنسا، بـ "اللائكية"، لكن مبادئ الفيلسوف تتيح التمييز بين الأماكن العمومية المنتمية إلى الدولة (كالمدرسة على سبيل المثال)، حيث الحياد الديني يفرض نفسه بالفعل، وبين ما ينتمي عامة إلى الفضاء العمومي. فهذا الأخير ينتمي إلى المجتمع المدني وليس إلى الدولة، ومن المعقول أن تتجلى فيه الاختلافات الدينية شريطة قبول قاعدة المناقشة ونبذ العنف الدوغماطيقي. ومن زاوية النظر هذه، ارتداء الحجاب الإسلامي -أو أي رمز ديني صريح آخر- بالمدرسة ليس له المعنى ذاته مقارنة بارتدائه في الشارع. ففي الحالة الأولى، يضع ذلك موضع مساءلة الحياد العقدي للدولة، أما في الثانية، فيعبر عن انتماء ديني في المجتمع، وهو حق تكفله اللائكية تماما. ومن أجل العودة إلى عملية الرد إلى الكونية، فالأمر يتعلق بجهد للتخلص من نزعاتنا الجزئية. وعندما نقول إن الأنوار نشأت في أوروبا، فإن الأمر يتعلق بواقعة تاريخية. واستخلاص أن الأنوار محصورة بحدود أوروبا، أو ليست لها صلاحية إلا بالكيفية وبالصورة التي عُبِّر عنها في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي، سيكون بمثابة نفي للكوني باسم الكوني، وباختصار سيكون ضربا من التشويه. ولهذا كان كانط مواطنا للعالم، وليس ذا نزعة مركزية أوروبية أو غربية.
س. أ.: ما الذي تعنيه عبارة "مواطن العالم" لدى كانط؟ فالأمر لا يتعلق بداهة بمعنى انتقاصي!
م. ف.: لا بطبيعة الحال. وسأضيف بأن كانط ليس أول مفكر للمواطنة العالمية، مادام أن نزعة المواطنة العالمية le cosmopolitisme تعود إلى العصر الإغريقي القديم. ففكرة أننا مواطنو العالم قبل أن نكون أعضاء مدينة معينة ليست ابتكارا حديثا. فالكلبيون الإغريق والرواقيون، من بين آخرين، يجعلون من المواطنة العالمية مبدأ لإضفاء طابع نسبي على الانتماءات السياسية. وحده كانط تمكن من إضفاء طابع سياسي على نزعة المواطنة العالمية. فبالنسب إليه، الهدف العام للسياسة والحق يكمن في السلم. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، على حد تعبير كانط، لابد من وجود جمهوريات ديموقراطية، لأن السيادة في هذه الأخيرة بيد الشعب، وبما أن الشعب هو الذي يجب عليه خوض الحرب، فإنه سيحاول، قبليا، تلافيها؛ وذلك بعكس ملك يتخذ القرار منفردا، على طريقة بوتين Poutine. وبعد ذلك، لابد من وجود قانون دولي، شيء شبيه بالأمم المتحدة التي لم يكن لها وجود بعد، لكن بوسائل إكراه فعالة تتيح الفصل بين الدول المتحاربة، وذلك بإحلال الاحتكام محل الحرب، والمحكمة محل المبارزة. وأخيرا، يتعين الاعتراف لكل فرد بوضعية مواطن العالم. وكانط يقوم هنا برد فعل إزاء الأشكال الأولى من الاستعمار، إذ يحيل طرحه على الكيفية التي غزا بها الأوروبيون اليابان والصين.
س. أ.: هل ينتقد كانط الاستعمار؟
م. ف.: يقر كانط للأجانب بـ "حق الزيارة" وليس الاستيطان. ولا يتعلق الأمر بالسياحة، بل بالحق الذي لكل مواطن للعالم بأن يعامل بطرائق قانونية وليس بوليسية من لدن الدولة، حيث يوجد. وقد عُوتِبَ كانط أحيانا بكونه لم يذهب بعيدا كفاية في إلقاء الضوء على الحقوق السياسية للأجانب. لكن، يتعين ألا ننسى أنه كتب في عصر، حيث الأجانب في المجمل مُعمرين: ولهذا يرفض بالنسبة إليهم حق الاستيطان الذي يعادل حق الغزو. فالأوروبيون لهم الحق في الذهاب لاستكشاف الأراضي المجهولة، وفي إقامة علاقات مع الشعوب الأخرى، لكن ليسلهم الحق في فرض عوائدهم وتجارتهم على أمم أجنبية. ونزعة المواطنة العالمية تحيل على ما يسميه كانط "حق الاختلاط" «droit à la promiscuité». ويحيل هذا الأخير على حق المرء في التواجد ها هنا حيث وضعته أو قادته صُدَفُ الحياة. ويجعل من المثال الديني لحسن الضيافة مقتضى سياسيا وقانونيا بالأساس، ويتوخى تأسيس حق لمواطني العالم بدافع أن الأرض كروية ومحدودة ومتناهية، وبأننا محكوم علينا، نحن البشر، بالعيش جنبا إلى جنب. فكانط ليس مفكرا ليوتوبيا فوق-أرضية، على عكس بعض كتاب الأنوار مثل فونتينيل Fontenelle. إنه مفكر، لن أقول للأرض، بل لتناهي العالم، وما يترتب عن هذا التناهي بشأن احترام الكائنات الإنسانية التي توجد هنا وليس لها مكان آخر تذهب إليه. فكانط كفيلسوف طالما عُدّ مثاليا، كان يضع رجليه على الأرض إن صح القول.
س. أ.: هل هذا مناقض لما قاله عن الأعراق؟ أليس الأمر مزعج قليلا بالنسبة إلى مفكر ذي نزعة كونية؟
م. ف.: إن الأمر مزعج، كما هو الشأن بالنسبة لكثير من نصوص القرن الثامن عشر. ففي أنثروبولوجيا كانط، بخصوص الأعراق والنساء والممارسات الجنسية، أحكام تعكس الحالة التي يوجد عليها العلم، أو ما يُزعم أنه كذلك، أو الرأي وقد رُفِع إلى مرتبة العلم في عصره. بيد أن كانط قدم الوسيلة الكفيلة بتلافي إضفاء طابع ماهوي على المعارف العلمية أو شبه-العلمية لعصر معطى. فبخصوص الأعراق مثلا، يعتقد كانط بوجود تنوع في الأعراق، فهناك أعراق متعددة ينسب إليها عيوبا وفضائل، ومقاربته ذات نزعة أوروبية متمركزة وثيقة الصلة بالأحكام المسبقة للعصر. لكن إسهامه الفريد يكمن في جعل النوع الإنساني تابعا لفكرة الإنسانية. فعلى افتراض أن تنوع الأعراق أمر واقع (الأمر الذي لم يكن مشكوكا فيه في القرن الثامن عشر)، فإن الأمر الواقع ليس من شانه أن يحدد ما يجب أن يكون بالنسبة لكانط. وفكرة الإنسانية من شأنها أن تكون مبدأ نقديا لما يقوله كانط نفسه بصدد الأعراق. والأمر لا يتعلق بإنقاذ كانط بأي ثمن، بل بالنظر في أن فكرة الإنسانية، بالنسبة إليه، تسمو على الحدود الأنثروبولوجية والتاريخية للإنسانية.
س. أ.: كيف يحدد كانط الإنسانية؟
م. ف.: الإنسانية هي الحرية، نقطة نهاية. فالحرية هي ما تتفرد به الإنسانية في مملكة الطبيعة. والإنسانية هي ما نحن مدعوون إليه، وليست شيئا معطى لنا كخاصية طبيعية. فنحن مدعوون للحرية؛ أي إلى مقتضى يتجاوز كل محدودياتنا الثقافية والتاريخية، وقبل ذلك البيولوجية. وهذا ما يستوجب إقامة مؤسسات تصون الحق، وتأسيس العالم كفضاء سياسي، ومعاملة الغير كغاية وليس أبدا كوسيلة. ففكرة الإنسانية بمثابة أفُقٍ أفسحَ مما يمكن لإنسان معين أو لشعب، أو احتمالا للإنسانية كجنس، تحقيقه. فبالنسبة إلى كانط، أولئك الذين يقولون: "نحن نجسد فكرة الإنسانية بواسطة ثقافتنا، والآخرون متوحشون"، فهؤلاء يخونون فكرة الإنسانية في الوقت نفسه حيث يدعون تجسيدها.
س. أ.: ألا يتعلق الأمر بالإنسانية كنوع معين؟
م. ف.: إنها الإنسانية من حيث كونها لا تقبل الاختزال إلى نوع، بل بوصفها تحمل معها مقتضى وواجبا وكرامة تتجاوز الطبيعة. والانتماء إلى الإنسانية ليس امتيازا، بل مسؤولية، أي مسؤولية إضفاء معنى على التجربة. يوجد مقطع جميل جدا في كتاب "نقد ملكة الحكم"، حيث يقول كانط: "بدون الكائنات الإنسانية، الخليقة بأكملها لن تكون غير محض صحراء، بدون جدوى وبلا هدف نهائي". وكلمة صحراء تعنى، على سبيل المثال، العالم بعد الكارثة النهائية، أي عالم الفناء، حيث لا وجود لدلالة تتعدى العالم. ومن شأن كانط أن يضيف أن هذا العالم قد توجد به حياة، لكن لا أحد لإضفاء دلالة عليها.
س. أ.: هل يجعل كانط منا مانحين للمعنى؟
م. ف.: نعم، إذا فُهم هذا المعنى باعتباره يتعين خلقه، وليس تأويله. ونحن "الإنسانية" تعني أننا كائنات حسية ذات جسم ورغبات ودوافع أنانية. لكننا نحمل أيضا شيئا أكبر منا، وهذا الشيء ليس الله، كما هو الشأن في الديانات التوحيدية. إنه الحرية بمعنى الاستقلالية، وما يرتبط بها من إضفاء الطابع الأخلاقي على أفعالنا والطابع القانوني على علاقاتنا مع الآخرين. وانطلاقا من هذا، فأطروحة كانط هي أن ما يجب علينا القيام به أخلاقيا، نستطيع القيام به مهما تكن النتائج المترتبة عن ذلك بالنسبة إلينا. فالأمر يتعلق بأمر قطعي: يجب عليك لأنه يجب عليك.
س. أ.: ما الأمر القطعي؟ وأي اختلاف عن الأوامر الشرطية؟
م. ف.: الأمر الشرطي يُعبر عنه بالصيغة: "إذا أردت أن تصير سعيدا، فإذن تصرف على هذا النحو أو ذاك". وكانط لا يُدين هذا النوع من تقنيات السعادة، لكنه يرى أن هذه الأخيرة لا شأن لها بالأخلاق. فالأخلاق تكمن في الأمر القطعي الذي يفرض التصرف عبر إخضاع مقاصدنا لمعيار الكونية. ومن خلال الخضوع لهذا القانون فقط يصير فعلي خيّرا. والأكيد أن هذا لا يعني أن الخير يقوم على هذا السلوك أو ذاك أو على معيار ما، على حياة جنسية طبيعية ومخلصة أو على حِمية غذائية خاصة... وبتعبير آخر، صَلِّ بقدر ما تشاء، مارس الرياضة لخمس ساعات في اليوم، انحتْ جسمك مثل عمل فني إذا كان هذا يبهجك؛ فكل هذا يقع ضمن دائرة الإستتيقا. لكن أن تجعل منه معيارا أخلاقيا، وإذن إرادة فرضه على الآخرين، فآنئذ نحن هنا على الحدود الفاصلة بكيفية ما بين السخافة والتوتاليتارية.
س. أ.: لخص كانط، بصورة شهيرة، الفلسفة في أربعة أسئلة: ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ ما الذي يجب أن أفعله؟ ما الذي مسموح لي أن آمله؟ وسؤال رابع يجمل الأسئلة السابقة: ما الإنسان؟ لكن بخصوص الأمل، ماذا كان جواب كانط؟ وما الذي يقترحه؟ هل السعادة، أم قيام الإنسان بواجبه كإنسان؟
م. ف.: إذا لم تكن للواجب صلة بالسعادة، فإن الرغبة في السعادة تظل مرتبطة بتناهينا، وبواقع أن رغبات تحركنا وتُلقي بنا نحو المستقبل. وسؤال الأمل، بهذا الصدد، له مشروعية: وهي معرفة ما إذا كان يوجد أفق للمصالحة أو التوفيق بين الواجب والسعادة. وهذا السؤال تقليديا سؤال الدين، أي الأمل في حياة أفضل بعد هذه الحياة الدنيا. وكانط يجعل منه مقتضى للعقل: فبالنسبة إليه لا وجود لأخلاق لاهوتية (لسنا في حاجة إلى أوامر من الله لمعرفة ما يجب فعله، فالعقل كاف). لكن يوجد لاهوت أخلاقي. ويمكن أن نتصور شيئا مثل دين عقلي يكمن قبل كل شيء في القيام بالواجب والانتظار المشروع لرؤية ذلك مُتوجا بالنجاح. ويسمح دين العقل هذا بإلقاء نظرة نقدية على الأديان القائمة. فهناك باتولوجيات للأمل تريد تحقيق مملكة الله على الأرض، بكل الوسائل بما في ذلك القوة. والتعصب الديني، بالنسبة لكانط، ليس شيئا آخر غير الخلط بين الأمل والتجربة، كما لو كان ممكنا ومرغوبا إرغام الناس على تحقيق خلاصهم هنا والآن. والإيمان بالإكراه، على سبيل المثال، عبث خطير؛ لأنه لا يمكن أن يوجد إيمانٌ حقٌّ إلا بوصفه حرا.
س. أ.: هل هذا يعني أن كانط ليس فيلسوفا للقيم، دينية أو غير ذلك؟
م. ف.: إن كانط فيلسوف للمبادئ، وهذا مختلف تمام الاختلاف. فالقيم، كما يشير إلى ذلك اللفظ، نتاج لتقييماتنا. وكما سيقول نيتشه Nietzsche، الحياة ليست إلا تقييما، فكل كائن حي يُقَيم أو يَحْسب ما هو حسن بالنسبة إليه وبالنسبة إلى بقائه. بيد أننا إذا خلطنا هذ القيم مع المبادئ، أي إذا جعلناها كونية، فإننا سنسقط آنئذ في وهم الأنا الصغير الذي يريد أن يمتد إلى الكون بأكمله. فقيم الجمهورية لا وجود لها، وما هو موجود هو المبادئ القانونية لجمهورية ما، بمعنى سيادة الشعب، والفصل بين السلط، وحقوق المواطنة. وما تَبَقَّى يقع ضمن دائرة المجتمع المدني، حيث كل فرد حر في تقييم ما هو حسن، أي ما هو مفيد بالنسبة إليه. فالقيم، على كل حال، تفضي بالأحرى إلى العدمية، وإلى الصراع غير المجدي لقيم مع قيم أخرى. والأمر القطعي يُطبق على القيم بالضبط، وهذا ليس معناه أن القانون ضد رغباتي الجزئية، بل القانون ضد نزوعي لأن أجعل من رغباتي ومن قيمي قانونا بالنسبة للآخرين.
س. أ.: هناك جملة شهيرة لكانط، إحدى عباراته الأكثر جمالا، حيث يؤكد أن "شيئين يملآن القلب إعجابا وإجلالا متجددين على الدوام ومتعاظمين على الدوام، بقدر ما يتوجه إليهما النظر وينكب عليهما: السماء المرصعة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي في نفسي". فهل يتعلق الأمر بلامتناه مزدوج؟ وما الذي نتحدث عنه على وجه الحقيقة؟
م. ف.: يتعلق الأمر، في العمق، باللامتناهي نفسه، أي الحرية التي تحيل على ما هو مطلق في كل واحد منا. فمع القانون الأخلاقي، هذا اللامتناهي معطى في صورة إلزام داخلي؛ ذلك الذي يهم إضفاء الطابع الأخلاقي على أفعالنا مهما تكن الظروف حيث تضعنا الحياة، ومهما تكن الأعذار التي بوسعنا اختلاقها للتملص من واجبنا. وهذا اللامتناهي معطى في صورة الاحترام الذي نشعر به إزاء ذواتنا وإزاء الآخرين، باعتبار أننا لا يمكن أن نُخْتَزل إلى مجرد أشياء. والسماء المرصعة بالنجوم هي الصورة الإستيتيقية أو الجمالية لهذا اللامتناهي: فشساعتها تعبر عن رِفعة المصير الأخلاقي للإنسانية. وكانط يتحدث بهذا الشأن عن "الجليل": واقعة عدم وجود أي حد معين لحريتنا تتجلى من خلال هذه السماء اللامتناهية، المتاحة على الدوام لرؤى جديدة. وجل الناس راهنا، وبالأخص أولئك الذين يعيشون في المدن، لا يختبرون تجربة النجوم المحجوبة بالأنوار الاصطناعية والتلوث. ومن شأن كانط أن يرى في هذا الاختفاء للنجوم خسارة وإفقارا للتجربة. كما لو أنه لم يعد ممكنا إدراك أفق أكبر من أنفسنا، وكما لو لم تعد هناك دعوة لتجاوز الحدود الضيقة لمصالحنا.
[1]- مصدر النص المترجم:
Philosophie Magazine, Hors-Série « Emmanuel Kant », Hiver 2024, p. 10-17
[2]- ميكائيل فوسيل فيلسوف فرنسي معاصر انصب اهتمامه على فلسفة كانط، من مؤلفاته:
Kant et l’équivoque du monde (2008) ;
Le scandale de la raison, Kant et le problème du mal (2010) ;
Quartier rouge. Le plaisir et la gauche (2022) …