إمكانات وحدود نقد المجتمع: ماكس هوركهايمر (1895-1973م) أنموذجاً


فئة :  مقالات

إمكانات وحدود نقد المجتمع: ماكس هوركهايمر (1895-1973م) أنموذجاً

"(...) إنّ النظرية التي تُؤسّس للتفكير النقدي ليست تلك التي تستند إلى حقائق جاهزة في عملها، بل هي التي تسعى إلى رفع الحجاب عن المخفي والمتواري".

Horkheimer (Max); Théorie Traditionnelle Et Théorie Critique (TRADITIONELLE UND KRITISCHE THEORIE); traduit de L'allemand par: Claude Maillard et Sibylle Muller, Collection TEL, Gallimard, France-paris, 1996. p: 50


ليس غريباً أن يُنجِبَ مطلع القرن العشرين مدرسة فلسفية أخذت على عاتقها تجديد آليات النقد، وإعادة قراءة المجتمع الأوروبي على ضوء متغيرات الواقع الجديد. لقد هيمنت المقاربات الشمولية على الفكر الغربي منذ القرن 19م، ولعل أبرزها هو الموروث الماركسي- Karl Marx(1818-1883م)، وتحديداً كتاب: (L'économie Politique Introduction A La Critique De) الذي ما فتئ يشكل مرجعية نظرية في تحليل الواقع المجتمعي، فكان مقدم مدرسة فرانكفورت إلى الوجود إعلاناً عن تجديد جذري للعقلانية والتنوير الغربيين.

لم تكن أحداث الحروب العالمية التي اندلعت سوى مؤشر على خروج عقل الأنوار عن الحدود المرسومة له، وعن المقصد الذي تأسس لأجله. فبرز دور هذه المدرسة النقدية، بعد مرحلة تجديد الآليات النقدية، كمحاولة لإعادة تشكيل العقل التنويري وفق متطلبات الواقع المعاصر، وعلى أساس ما أريد له منذ حقبة الحداثة.

كانت البداية مع الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت متميزة بنظرتها المتشائمة إلى واقع السياسة والمجتمع والفكر في أوروبا، من جرَاء مآل المشروع الأنواري الذي بات اليوم يستثمر في إبادة العقل؛ وكأنّ هذا العقل الذي أسست له الحداثة منذ ثورة كوبرنيك، ثم مع قَوْعَدَة ديكارت-René Descartes (1556-1650م)، يحمل عوامل نهايته داخله. إنّ ما شهده العالم من عنف، وما يعيشه المجتمع من تناقضات في بنياته، ليس سوى نتاج لانعراج خطير في مسار العقل التنويري ينبغي التفكير في إعادته إلى نهجه الصحيح. ولعل هذا ما دفع أحد الرواد الأوائل لهذه المدرسة النقدية، وهو: "ماكس هوركهايمر -"Max Horkheimer (1895-1973م) إلى إفراد كتاب بعنوان:Théorie Traditionnelle Et Théorie Critique (النظرية التقليدية والنظرية النقدية)، يعيد فيه ترتيب الأدوات المنهجية التي هيمنت على العقل الدارس للمجتمع من وجهة نظر اقتصادية، مبيناً عدم نجاعة الأنساق النظرية والتقليدية المغلقة على نفسها وعلى مجال اشتغالها، وكان نقده موجهاً بالتحديد إلى الفلسفة الماركسية.

ما يلفت النظر بقوة في مشروع الرواد الأوائل لمدرسة فرانكفورت هو سعيهم الدؤوب إلى إعادة التفكير في مفهوم "النقد" ومفهوم "التنظير"؛ فإن كان النقد ينطلق من تصورات ومفاهيم مشكّلة بصور مسبقة في المفهوم التقليدي للنظرية، فإن النقد الجديد الذي أضحت النظرية تتخذه مستنداً، حسب هوركهايمر، يقوم على مساءلة البداهات والمسلمات، وإخراج الأنساق المغلقة من زواياها الضيقة، وإعادة النظر في التفكير ومناهجه وأسسه ومفاهيمه. أما التنظير، فإنه صار أكبر مساحة، حين افترض حصوله استدماج عناصر معرفية عديدة، لتكتمل معالم التشخيص، فيشرع منها للبحث عن فواعل العلاج وإيجاد الحلول.

ومن هنا كان النقد الهوركيمي للماركسية منطلقاً من مسألة اقتصارها على نقد الاقتصاد السياسي، لتجاوز التفاوت الطبقي وأزمات المجتمع والسياسية. فإذا كان الأمر كذلك، فأيّ معنى صار للنظرية النقدية مع هوركهايمر؟ وكيف يمكن تفسير العلاقة التي أضحت تربطها بـ"النقد المزدوج"؟ وهل هذا النقد يسعى فعلاً إلى فهم منطق الفكر والوجود الإنساني من داخل التاريخ، وإذا كان كذلك فما الذي يميزه عن النظرية التقليدية وقد فعلت في لحظات عديدة الأمر نفسه؟

إنّ المعنى الجوهري للنظرية النقدية يمثل رؤية تقدمية، لا تقبل التقوقع داخل دوائر إيديولوجية جاهزة بشكل قبلي- A Priori، ولا تنطلق من مسلمات منفصلة عن الواقع الذي ترتبط به؛ ومن هنا اعتبر هوركهايمر النقد "إماطة اللثام عما هو متوار ومتحجّب"، واعتراف بمدى تعدد القضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية عموماً، ممّا يحتم تعدّد المقاربات كذلك.

يطمح الفكر النقدي إلى إعادة تنظيم عملية تموضع العقل داخل الممارسة التفكّرية، ويجعل من هذا العقل، ليس أداة تستنزف الأفكار وتستهلكها فقط، وإنما فكر يُنتج ويَسْتكشف، ويَتوجس مما هو مسلّمٌ به وبَدَهي. كما أنّ نظرة هذا العقل للواقع تستجمع الأزمنة الثلاثة المكونة للتاريخ (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، وتُفرغ من محتويات (التاريخ) كلّ ما علق بها من أشكال التفكير الاعتباطي والعرضي: إنه سيرٌ ضد تيار العادة، والمألوف والطبيعي والمقبول.

ولمّا كان غرض هوركهايمر هو مراجعة عمليات التفكير والتنظير في المجتمع من خلال التحليل والتفسير الماركسيين، باتَ لِزاماً عليه الكشف عن مواضع الانغلاق والعلموية، ومظاهر الشكلانية في التفكير، والنمطية في التحليل والتفسير، والتي تقول كذلك بالانسجام والوضوح، والاتساق والصدقية... ولعلها الأمور التي صار على العقل النقدي تجنبها.

ومن هذا المنطلق، فإنّ التعريف الجديد للنظرية النقدية ينفي عنها:

أولا- التجذر في الجماعة القومية: ذلك أن التفكير بصورة نقدية داخل جماعة ما، يفترض التحليق فوق مكوناتها الطبقية (حسب هوركهايمر)، إذْ أنَّ هذا الارتفاع عن سطح المجتمع هو ما يسمح بتشخيص عام للعناصر والمشاكل، ومحاولة تحديد المجالات المعرفية التي يمكنها أن تمهّد لتدخّل العقل النقدي، حتى يعالج أزمات وإشكاليات هذا المجتمع أو ذاك.

ثانيا- تَكْبِيلُ العقل: لا ينكر هوركهايمر أنّ عملية التنظير، سواء أكانت سوسيولوجية، أو اقتصادية لا تخلو من هدف سياسي. وليس الفكر الذي يدّعي هذا التنزيه عن الخلفيات والأهداف سوى فكر يخفي إيديولوجيا تحاول القبض على مكوني: العقل، والمجتمع؛ ذلك أنّ النظرية في خلفياتها لا تستند على مرجع سوى مبدأ إلغاء الظلم الاجتماعي الذي جاءت من أجل تحرير الفرد من قيوده.

انتبه النقد الجديد الذي جاءت به النظرية النقدية مع مدرسة فرانكفورت، إلى أهمية الاجتماع الذي يمكن أن يوجد بين المجالات المعرفية، لاغية بذلك تلك المقاربة الأحادية التي رسّختها النزعات الوثوقية - Dogmatique في العلم والفكر الحديثين، وخصوصاً ما ساد منهما في القرن 19م(يقصد بالتحديد النزعة الوضعية-Positivisme مع أوغست كونت - Auguste Conte (1798-1857م)، هذا إلى جانب الفلسفة الماركسية). وبهذا أضحى من اللازم استعارة خلاصات العلوم المتنوعة لدراسة المجتمع الواحد من جوانب مختلفة.

كما أنّ التعامل مع البنيات المفاهيمية قد اتخذ شكلاً مرناً وجدلياً في الآن ذاته، حيث يُتّخذ من مفهوم "الحتمية"ـ مثلاًـ مُنطلقاً مُهماً للتفكير في حدود "الحرية". وإلى جانب هذا، فإنّ للمفاهيم دوراً إبستيمولوجياً مُهِمًّاً أيضاً، يكمن في رصد عمليات الانتقال من بنية أساسية في التنظير إلى مفارقات الواقع وتمايزاته، وهو ما يجعل من المفاهيم أداة فاعلة، ومُحركة لأشكال التتبع والرصد في دراسة وتحليل المُجتمع وأوضاع الأفراد فيه، وهو بالتالي ما يسمح بربط الفرضيات ومعطيات الواقع، لإزالة المسافة بين ما يروج في ذهن العلماء وما يحدث في الواقع: إنها لحذف الهُوة بين ما في الأذهان وما في الأعيان.

إذا كان أمر وعي العلماء والدارسين بالمجتمع وقضايا الإنسان عموماً مسألة ينبغي أن تَتَجاوز الوصف، والتّعالي - Transcendantale والانغلاق، والوثوقية، وادعاء الصدق والحقيقة المطلقة...إلخ، فإن للوعي الفردي داخل المجتمع أيضاً أهميته. فـ"هوركهايمر" يشخّص حالة من الازدواجية في وعي الفرد داخل مجتمعه من خلال استنتاجين اثنين:

أولهما: أنّ الفرد لا يعي تأثيره في المجتمع، ولا يعي قدر انفعاله فيه؛

ثانيهما: أنّ الفرد لا يعي بأنه جزء من هذا المجتمع الذي يتحرك من حوله.

تجسّد، من خلال هذين الاستنتاجين المهمين، العمق النقدي الذي حملته النظرية في حلتها الجديدة، والتي رامت من خلاله مجاوزة حدود الأنساق، للاتجاه نحو رحابة التنويع في أنماط ومناهج وسبل التفكير الموزّعة بين المجالات العلمية والمعرفية الأخرى.

لقد انتقلت هذه النظرية بالعقل نحو أفق جديد للتأويل، ونحو فضاء أكثر اتساعاً لربط ما هو سياسي بما اقتصادي بما هو اجتماعي وفلسفي، وعلمي، وديني...، قصدَ مقاربة كلّ هذه العناصر على شريط زمني يضمها ويؤطرها، مما يطرح أمامنا الآن الإشكال التالي: هل يعتمد نقد الفكر والمجتمع على معطيات التاريخ كحاضن زمني، أم أنّ لهذا النقد قدرة على أن ينشط بمنأى عن التاريخ؟ بمعنى آخر: ماذا يعني أن ينطلق النقد من داخل التاريخ؟ وما طبيعة هذه الانطلاقة؟ وهل تعتمد سبلاً تؤدي إلى قراءة خطيّة لمسار التاريخ على مستوى الأفكار والنظريات والمجتمعات...، دون تأثير أو تأثر، أم أنها تنظر إلى هذا التاريخ بما هو عنصر فاعل بجميع مكوناته، في التحولات التي تطال بُنى وأفكار المجتمعات على مستويات عدة؟

لقد ركّز الأسلوب النقدي الهوركيمي، كما سبق القول، على إخراج التحليل والتفسير من دائرة الجمود إلى سعة الانفتاح على قطاعات معرفية وعلمية أخرى. وغاية ذلك، أن تتكامل صورة النقد وتتكاثف لتحقق أكبر قدر من الفعالية في عملية التنقيب عن مشاكل المجتمع. ولعل الماركسية في تركيزها على الاقتصاد، والاقتصاد السياسي أساساً، في تحليل المجتمعات، قد أغفلت بذلك هذا الجانب، ورسمت للتاريخ صورة قبلية حكمت من خلالها على حركاته ومآلاته.

حين تُطرح نظرية ما بصورة مطلقة، تشتغل من خارج التاريخ، ولا تقبل قوانينه ولا تغيراته ولا صيرورته، فإنها تصير إيديولوجيا. ومهما تعرضت القضايا الاجتماعية للتفسير المنطقي أو الميثولوجي...، فإنّ ذلك لا يكفي، بل ينبغي ربط مكونات القضايا والإشكاليات ببعض عمليات الواقع الاجتماعي الذي يشكل بالضرورة جزءاً من التاريخ الإنساني. ومن هنا تأتي المرحلة التي فصل فيها هوركهايمر بين التنظير الذي يأتي قبل التجريب، والذي يأتي بعده، مُعتبراً أنّ الأول غالباً ما يكون أبعد عن فهم المجتمع، والثاني يكون أقرب نظراً لارتباطه بالواقع، أو بالأحرى انْبِنًاؤُه عليه. وكلّما كان التنظير مُشيّداً على الواقع، وقائماً على شروطه، كان إمكانه التفسيري والتحليلي أقرب إلى السياق التاريخي الذي أنتج الإشكاليات التي تطرّق لها. وبالتالي، فإنّ المعطيات الواقعية التي تُخبرنا بها حواسّنا تخضع لحتمية اجتماعية مزدوجة، من خلال الطابع التاريخي للموضوع المُدرك، والطابع التاريخي للعضو الذي يُدركه، كما اعتبر ذلك هوركهايمر. إنّ جلّ ما تدعيه الإمبريقية من موضوعية في الممارسة العلمية، يحمل في طيّاته شروطاً تقنية ملازمة لمسلسل الإنتاج المادي عبر التاريخ.

يبدو كلّ تباعد إذن، بين الأنساق النظرية والمفاهيمية، وبين تحليل وتفسير الواقع الاجتماعي، لَهْوًا، وعبثاً فكرياً محضًا؛ إذْ لا يُمكن إثبات صحّة (الأنساق النظرية والمفاهيمية) على الواقع، ذلك أنّ قياس صلاحية الواقع النظري مشروطٌ بإنزاله ومطابقته بواقع المجتمع.

وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول: إنّ النظرية النقدية قد ربطت علاقة متينة بالتجربة، وهي، في هذا الأمر، على العكس من التفكير التقليدي الذي يُسقط مقولاته القبلية الثابتة، على واقع متغيّر ومتحول وفي صيرورة دائمة. وهذا عينُه ما وصفه هوركهايمر بـ"التنظير الأعمى" الذي يفتقد إلى المعنى.

تنبغي الإشارة هنا، إلى أنّ وضع اليد على مكمن الجراح والتمزقات في جسد المجتمع، هو بداية عملية لا تتم بشكل فُجائي، بل عبر مراحل سياقية، تختلف باختلاف طبيعة المجتمع، كما هو الأمر كذلك حين نطرح فكرة إصلاح أو تغيير المجتمع، لأنها تحتكم هي الأخرى إلى منطق التاريخ، وخصوصيات ذلك المجتمع أيضاً، حسب المنظور الهوركهايمي، وأنّ النظرية التي تروم إسقاط خُطط التغيير خارج نطاق الفهم السياقي لذلك المجتمع، هو تنظير لن يسهم سوى في الزيادة من سوء الأوضاع التي كان عليها، بل ومضاعفتها أحياناً. ومن هنا، فإنّ النقد الذي يشتغل ضمن إطار التاريخ والمجتمع يستمدّ وجهات نظره من كلّ العمليات التحليلية والتأويلية المستنتجة من داخلهما.

يمكن أن نُجمل القول في ما أوجزه شيخ النظرية النقدية الفرانكفورتية، هوركهايمر، من خلال وقوفه على أهم المعاني الجوهرية للنظرية النقدية التي أبْرَزَها في مقال أجاب فيه زميله "هربرت ماركيوز - "Herbert Marcuse (عنوانه:"الفلسفة والنظرية النقدية -La Philosophie Et La Théorie Critique" سنة 1937م)، وتمثّلت في العناصر التالية:

أولاً: أنّ النظرية النقدية تنظر إلى الأفراد كمنتجين لكل أشكال الحياة داخل المجتمع وعبر التاريخ، مما يعيد للفرد اعتباره؛

ثانياً: أنها تعتبر معطيات الواقع لا تنفصل عن الفعل الإنساني، سواء منه الموعى به أو غير الموعى به؛

ثالثاً: أنها ترى في نمط الإدراك المختلف كشاهد على نشاط إنساني، وعلى قوة مؤثرة يمارسها على واقعه؛

رابعاً: أنها تتوجه بوعي لتنظيم نشاط الأفراد وفقاً للعقل، ومهمّتُها هي توضيح فوائد الوعي بالنسبة إلى الأفراد وإضفاء الشرعية عليه، وتحريره من القيود؛

خامساً: أنها تحافظ على تراث الفلسفة، وتُراجعه باستمرار؛

سادساً: أنّ لها غاية رئيسة تكمن في خلق عالم ملائم لحاجات الإنسان وملكاته، وفي تجاوز عوائق التطور الاجتماعي؛

سابعاً: أنها ترفض كلّ عقل يتحالف مع السلطة القاهرة ضد الشعب؛

ثامناً: أنها تنطلق من التأكيد على أهمية البدء من نقد الاقتصاد، لأنه العلّة الأولى لكلّ شر.