العقلانية النقدية


فئة :  مقالات

العقلانية النقدية

أرغب في هذه المقالة أن أقف على حركة نقدية جذرية تبلورت في ألمانيا خلال النصف الأول من القرن العشرين، وضع أسسها جماعة من المفكّرين أبرزهم: هوركهايمر، وأدرنو، وبنجامين، ثمّ طورها ماركوز بعدهم، واستقامت بوصفها نظرية نقدية على يد هابرماز، لتشمل معظم مجالات البحث الفكري والإنساني. وليس الهدف من هذه الوقفة التعريف بالكيفية التي يمارس بها العقل النقدي نشاطه، فحسب، بل التنبيه إلى حاجتنا الإفادة من مكاسب التفكير العقلاني بما يوافق السياقات الثقافية الخاصة بنا، فأسئلة المعرفة مشتركة غير أن الأجوبة عليها تحتمل التعدد والاختلاف. والحافز المباشر لإعداد هذه المقالة، فضلا عما ذكر، بلوغ هابرماز عامه التسعين، فقد ولد في سنة 1929

شُغل هابرماز، من بين ما شغل به، بكشف تناقضات العقل الغربي ومعطياته على وفق خطة نقدية شبيهة بخطة جاك دريدا في نقد ذلك العقل، ففيما دعا دريدا إلى تفكيك نظم العقل المتمركز حول نفسه، دعا هابرماز إلى تفكيك "العقل الأداتي"، وفيما رأى دريدا أنّ العقل المتمركز على ذاته أنتجته الميتافيزيقيا الدينية ذات الجذر العميق في تاريخ الفكر الغربي، رأى هابرماز أن العقل الأداتي أنتجته العقلانية الذاتية، حينما طورت بنية اجتماعية - صناعية، جعلت من العقل أداة وحيدة لإخضاع الإنسان للمفاهيم التي اتخذت شكل علاقات وقوانين وأنساق ثقافية واجتماعية لا تهدف إلاّ إلى طمس حرية الإنسان نفسه، باعتباره كائنا متنوعا في اختياراته. وفيما دعا دريدا إلى "غراماتولوجيا = علم كتابة" تقوم بإرساء عقلانية جديدة لا تمركز فيها، لأنها تجعل من الخطاب مساحة مشبعة بالدلالات، دعا هابرماز إلى "عقلانية نقدية" توقف طغيان العقل الأداتي الذي أحال فعل العقل إلى فعل مضاد بنتائجه العامة للإنسان، فاقترح عقلا نقديا اتصاليا.

أنزلت النظرية النقدية كثيرا من التصورات والمفاهيم منزلة الواقع، وأخضعتها لشروط التاريخ وجرّدتها من أبعادها الميتافيزيقية

غير أن هذه التماثلات العامة في الأهداف لا تحجب عن الأنظار الاختلافات الجذرية بين الاثنين، فرؤية دريدا المثالية تستمد مقوماتها من نتشه وهوسرل وهيدغر، فيما تتحدر رؤية هابرماز عن أصول مادية تعود إلى ماركس ولوكاش. وينصرف نقد دريدا إلى "العقل" بمعناه الفلسفي الميتافيزيقي-الديني Logos، فيما ينصب نقد هابرماز على "العقل" بمفهومه الإجرائي بوصفه ملكة تحليل وتفكير مباشرة Reason إلى ذلك، فنقد دريدا يُشغل بالمفاهيم والمقولات والرؤى والتصورات التي أفرزتها الميتافيزيقيا الغربية، سعيا وراء تفكيكها وإبطال أثرها في الوعي الحديث. وعلى هذا، فنقد دريدا نقد "خطابي" بالدرجة الأولى. أما هابرماز، فقد شُغل بالعلاقات الاجتماعية، والمؤسسات السياسية والاقتصادية، وأنظمة الحياة الحديثة: كالعمل والإنتاج والرأي العام، والعنف، والثقافة، الأمر الذي خلع على نقده بعدا "واقعيا". والخلاصة التي يمكن الخلوص إليها، أنهما يمثلان، في الثقافة الغربية الحديثة، موقفين نقديين مختلفين في الإجراءات والخطط المنهجية والموضوعات، إلاّ أنهما متقاربان في الأهداف النهائية؛ فكلاهما وجه نقدا لمنظومة القيم التي أنتجها الفكر المتمركز حول ذاته، وطوّر مفاهيمه ضمن أفق محدد من التصورات والغايات، وفاعلية النقد عندهما أخذت دلالتها من أنها تعنى عند دريدا بإشكاليات العقل الغربي ذاته، فيما تعنى عند هابرماز بمعطياته وتجلياته ونتائجه في الحياة الاجتماعية.

يُدرج نقد هابرماز في الإطار العام الذي استحدثته "النظرية النقدية" التي وضعت في اعتبارها نقد العقلانية الذاتية، ومحاولة إعطاء بُعد اجتماعي للممارسة العقلانية بعيدا عن الاختزال الذي مارسته الفلسفة الذاتية، ومن أهم الركائز التي استندت إليها النظرية النقدية: منظورها النقدي للظواهر الفكرية والاجتماعية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ بالانفصال الرمزي عن تلك الظواهر، ووضع مسافة تمكّن المنظور النقدي من ممارسة فعاليته، مطورا موقفا مختلفا، يرتب العلاقات بين الظواهر المدروسة بمعزل عن الخضوع والسيطرة التي تمارسها تلك الظواهر. وعلى هذا، فإن أولى مظاهر الاشتغال النقدي في هذه النظرية تشكلت من خلال نقد المتون الكبرى في تاريخ الثقافة الغربية، وإبراز التناقضات الكامنة فيها، واستنطاق الأبعاد التي ترمي إليها. وأفضى ذلك العمل إلى العثور على بؤر تمركز حول موضوعات معينة، واستقطابات متكتّلة، مارست نفوذا في سياق التفكير العقلاني منذ عصر الأنوار، ولعل أبرز ما وقفت عليه النظرية النقدية، هو نسق التأمل الذاتي-الديني الذي استأثر بمكانة مهمة في الفلسفة الغربية. وطرحت هدفها النقدي، وهو تصفية هذا الضرب من التفكير؛ لأنه الأساس الضمني لمفهوم الحرية المعبّر عن التمركز الذاتي، وقاد هذا إلى نقد العقل وممارساته. باعتبار أنه أداة خاضعة لصيرورة التاريخ وتحولاته، وليس له قوة تعالٍ مطلقة ومجردة.

أنزلت النظرية النقدية كثيرا من التصورات والمفاهيم منزلة الواقع، وأخضعتها لشروط التاريخ وجرّدتها من أبعادها الميتافيزيقية، فطوّرت ضربا من النقد المباشر لتجليات العقل في المؤسسات ونظم الحياة والأيديولوجيا والثقافة، ثم وجهت اهتمامها إلى أصول المفهوم الكلي الذي أرسته فلسفة هيغل ووسَّعته الماركسية، والحال، فإن النقد تشعب فشمل البعد الذاتي للميتافيزيقيا كما قال به ديكارت وغيره من العقلانيين. يكشف هذا سعة المشروع الذي طرحته النظرية النقدية، وبخاصة حينما ربط أصحابها مشروعهم النقدي بإيقاع الحياة وتشعبّاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، لأن الأفكار عندهم لا تنفصل عن أسئلة العلوم الإنسانية، فهذه الفلسفة بحكم كونها نقدية، وتسعى إلى صياغة نظرية في المجتمع، فإنها تتفاعل مع عطاءات العلوم الاجتماعية، والفلسفة عند أصحاب النظرية النقدية، لا تخضع لمفاهيم النسقية والهوية، ولا تنصاع للموجهات المرتبطة بهذه المقولات، ومن هنا جاء رفضهم لفلسفة "الوعي الذاتي"، ولأن فلسفتهم قامت على هدم النسق، فقد عملوا على تفجير الأنساق الفلسفية عند كانت وهيغل وغيرهما. وعموما، فإنهم لا يسعون إلى الاحتماء بسلطة، لأن السلطة تنزع عن الفكر حريته، وتتحايل على النقد لكي تقصيه، ولا يريدون التصالح مع الواقع لأن النزعة الوضعية المحتمية بكل أشكال السلطة تتخذ من الواقع منطلقها ومرماها.

قدمت النظرية النقدية تحليلا نقديا للفلسفة الوضعية، واعتبرتها فلسفة علم مضللة، وعاجزة عن فهم الحياة الاجتماعية، وأنها فلسفة متواطئة مع السلطات التي تمارس قهرا للإنسان

وبما أن الفلسفة لدى هؤلاء المفكرين هي تفكير بالسلب الذي يخلق المغايرة والاختلاف، فإنها تستمد شرعيتها من راهنية السؤال، ومن فشل الجدل في شكلية الهيغلي والماركسي، وهي فلسفة تستفيد من كثير من العلوم الإنسانية لصياغة نص متعدد وجمعي يسعى إلى التحرر في كل شيء، اعتمادا على عقل نقدي لا يكف عن مراجعة مكوناته ونقد عقلانيته وأشكال حداثته.

قدمت النظرية النقدية تحليلا نقديا للفلسفة الوضعية، واعتبرتها فلسفة علم مضللة، وعاجزة عن فهم الحياة الاجتماعية، وأنها فلسفة متواطئة مع السلطات التي تمارس قهرا للإنسان، باعتبار أنها فلسفة الاتجاهات السياسية المحافظة، وأخيرا اعتبروا الوضعية عنصرا مساعدا في خلق أشكال جديدة من التسلّط يمكن تسميته بـ "التسلّط التكنوقراطي"، فالمفهوم الجديد للسلطة لم يعد ممارسة محتكرة من طبقة معينة، بل هو تسلّط يتم من خلال قوة لا شخصية هي "التكنولوجيا". وقد شمل النقد الاتجاهات العقلانية والتجريبية ومن وراء ذلك الفلسفات المثالية والمادية.

وفي الوقت الذي أكّدت فيه النظرية النقدية نزعتها النقدية دون مواربة لكل تجليات العقل الذاتية التي أسرت الموضوع في قبضة الذات سعيا وراء ذات مطلقة، كما هو الأمر في فلسفة هيغل، فإنها اعتبرت العقل نفسه حجتها النقدية، ولكن طبقا لتصوّر مغاير لما أفضت إليه العقلانية الذاتية. وهنا انطلق النقديون في مسألة العقل والعقلانية من ملاحظة أساسية، وهي أن فلسفة الأنوار التي كان هدفها تحرير الإنسان انقلبت إلى ضد ذلك تماما، إذ كرّست العبودية القديمة للإنسان. فإذا كان الإنسان تابعا للطبيعة من قبل، فقد أمسى تابعا للمجتمع، وبهذا استمرت علاقات التبعية المبنية على الخضوع والتفاوت وإقصاء الحرية.

تصبح الحاجة ماسة للعقل النقدي حينما تهيمن على المجتمعات غمامة من الأفكار الهشة، والقيم المتداعية وتستبد بها المسلّمات واليقينيات، وتغيب مفاهيم الحوار والتعايش

أفضت فلسفة الأنوار إلى ما اصطلح عليه هوركهايمر بـ"اختفاء العقل"، فالاستبدال في نمط الخضوع والتبعية، لا يؤدي إلى اختفاء علاقة التبعية، ومن ناحية معرفية، فالخضوع لمجتمع نمطي في حاجاته وتفكيره بوصفه سلطة تمارس هيمنتها على الأفراد، لا يختلف عن خضوع الفرد في الماضي للطبيعة أو لظواهر معينة فيها. وما تريد النظرية النقدية إبرازه هنا، والتأكيد عليه، هو أن فعل العقل الأنواري، لم يأخذ بحسبانه نقد ذاته بهدف تطوير مناخ فكري لا ينتج قوى جديدة تمارس قهرا على الإنسان، باعتبار أنه جاء لنقض هذه الفكرة، لكنّ واقع الحال أثمر هذا العقل في غضون قرن واحد مؤسسة اجتماعية مندمجة في نظم قاهرة، فالعقل سوغ للسلطة بامتلاكها للمعرفة، أن تفرض قوتها على الإنسان، ولما كان كل من العقل والسلطة والنظام والواقع قد انصهر في وحدة كلية لمحاصرة الفرد والجماعة، فإنّ هذا التحالف عبّر عن نفسه في نسقين فلسفييّن، يختلفان في الأسلوب، لكنهما يلتقيان في الهدف، وهما: الوضعية والهيغلية، وكلاهما يعبر بشكل مشوّه عن العقل. الأول فيما يسمى بـ"العقل الأداتي" للعلم والتقنية، والثاني فيما يسمّى بـ"العقل الموضوعي" للعقلانية. وأدّى ذلك إلى أن الإنسان الغربي فقد هويته، وأصبحت اللغة قادرة فقط على أن تلعب دور الأداة لتكريس الأمر الواقع، بدل فعلها النافي، الأمر الذي أدى إلى فقدان ذلك البُعد "الداخلي" للفكر الذي يسعف على الاعتراض والاحتجاج. وضياع هذا البعد الذي من خلاله كان الفكر النقدي يعثر على قوته، يشكّل المقابل الأيديولوجي للعملية المادية التي بواسطتها يقوم المجتمع الصناعي بإسكات، وتحجيم الاعتراضات والاختلافات، ذلك أن التقدم التقني يعمل على إخضاع العقل لوقائع الحياة والاكتفاء بإعادة إنتاجها.

تصبح الحاجة ماسة للعقل النقدي حينما تهيمن على المجتمعات غمامة من الأفكار الهشة، والقيم المتداعية، والاختيارات السلبية، وغموض المصائر، وتستبد بها المسلّمات والمطلقات واليقينيات، وتغيب مفاهيم الحوار والتعايش والشراكة، فليس أمامنا سوى ميراث العقل النقدي نحتمي به، وننهل منه، ونعيد إنتاج إمكانياته لوقف المد الشمولي للأيدولوجيات الشعبوية المتخيلة التي تتلاعب بالتاريخ والإنسان، وبالماضي والحاضر، وتبشر بزمن سحري دائري ينشد إلى نقطة البداية، باعتبارها النقطة المضيئة الصحيحة، ويغفل التطور الخطي للتاريخ، والشعوب، والمجتمعات، والحضارات، ويعود القهقرى إلى ما يعتقد أنها لحظة الانبثاق الشفافة الأولى للحقائق الأبدية، وظنّي أن العقلانية النقدية التي وقفت على جانب بسيط منها، وضعت تحت النظر كثيرا من المفاهيم الخادعة، وأبطلت سحرها، وبها استبدلت قيم الحداثة.