العودة إلى الذَّات: قراءة في الخوف المتقابل بين الشّرق والغرب


فئة :  مقالات

العودة إلى الذَّات: قراءة في الخوف المتقابل بين الشّرق والغرب

الغرب والإسلام: لماذا هذا الخوف الوُجودي؟

يبدو أنّ تناقضات هذا الكائن الإنساني لا تنتهي، فهو يخلق الشّيء ويتنكّر لنتائجه إذا لم يستطع أنْ يتحكَّم في امتداداتها، أو عاكسه الحظّ ليشكّل هذا الوجود وفق مزاجيته. إنّه العقل الإنساني ومسار تشكّله منذ بدْء الحياة على هذه الأرض، لا شيء يحدّ إمكاناته، ولا أفق يرسم سقف توقّعاته. ومن هنا انبثق القلق المزمن عند هذا الكائن لغاية ربّما كانت معرفة الوجود أحد تجليّاتها كما كان يرى هيديجر[1]. ولعل البحث في جذور هذا القلق يوصلنا إلى الإشارة إلى عامل حاسم فيه، وهو الخوف؛ ذلك الشعور الأبدي والتعبير التجريدي نحو شيء ما يهدد حياتنا، أو يجعل توازننا النفسي مرتبكا أو منهارا. ومهْما كان هذا الشّعور، فالخوف ليس شيئا نملكه، بل هو أمر نقوم به[2].

نقول هذا ونحن نقارب موضوع الخوف المتقابل بين الإسلام والغرب، باحثين عن جذور الأزمة، وسياق الحضور المزمن لعلاقة متوتّرة على جميع المستويات ساهم في تشكيلها بوعي أو بغير وعي مجموعة من العوامل الموضوعية والذّاتية. وكأنّ قدرنا أنْ نعيش تحت وطأة هذه الثّنائيات، والجروح النّرجسية التي مزّقت فكرنا، وأثارت فينا كلّ حالات العصاب الثّقافي. فلا ضير ما دُمنا جزءاً من هذا النّسيج الإنساني، خاصّة بعد صدمة الحداثة. وهنا يتبيّن لنا بأن مفهوم التّراث لم يُطرح بالحِدّة التي طُرح بها في الثّقافة العربية المعاصرة، إلا تعبيراً عن هذا الجرح: "فهو ردّة فعل ثقافة ذات، اكتشفت على حين غرّة في مواجهة ثقافة الآخر بأنّها بلا ثقافة... وهكذا يكون الجرح الأنثروبولوجي قد اعتمل على مستوى قطيعتين: قطيعة العرب عن حاضر الغرب، وقطيعتهم عن ماضي العرب أنفسهم"[3].

لم نستطع أنْ نتساوق مع ذواتنا، وننسجم مع طبيعة حجمنا، فشعَرْنا بالخجل؛ ذلك الخجل المعبّر عن عقدة النّقص. والخطير في هذه العقدة أنّ مشاعر النّقص كما يؤكّد آدلر: "ينتج عنها الكثير من الضّغوط، حيث يكون هناك دائما ردّ فِعل في محاولة لتعويض الشّعور بالنّقص عن طريق التّظاهر بالشّعور بالتفوّق، ولكنّ ردّ الفعل هذا لن يكون في اتّجاه محاولة حلّ المشكلة ذاتها[4]".

لم يعد كافيا الاختباء والتخفّي وراء المؤامرة، وصناعة العدوّ الوهمي، والتحجّج بالأسباب الموضوعية مع كثرتها، وإغفال العوامل الذّاتية

لا يتساءل المسلم اليوم عن سرِّ هذا الخوف المزمن تجاهه، وعن دوافعه الثّقافية والسيكولوجية. وإنْ فَعَل كان هاجس المؤامرة هو المتحكّم في هذا العقل. ولا ضير ما دامت بنية عقلنا العربي الإسلامي تسمح بهذا النّمط في التّفكير، وهو الإيمان المطلق، أو التصور المتصلب اتجاه نظرية المؤامرة. وهنا مقتل التّفكير والعقل والرّؤية؛ فكلما تلبّست بنيتنا العقلية بهذا النّوع من التّفكير، كلّما خسِرنا أنفسنا أكثر. وما أشار إليه إيريك فروم يفيدنا في هذا الصّدد: "فلكي نفهم ديناميات العملية الاجتماعية علينا أنْ نفهم ديناميات العمليات السّيكولوجية العاملة داخل الفرد على نحو ما أردنا أنْ نفهم الفرد، فإنّه يتوجب علينا أنْ نراه في سياق الحضارة التي تشكِّله"[5]. لهذه الأسباب، نفهم كيف أنّ العقل الدّيني يخوض صراعات وهمية تصرِفه عن تداعي منظومته الدّينية، أو الإجابة عن الأسئلة الحارقة التي تنتظره. ولن يكون هناك حل لهذه الإشكاليات إلا بالاحتماء بالخطاب المؤامراتي بغية تجييش البشر وحشدهم وصرفِهم عن أيِّ شيء يتبادر إلى ذهنهم، فلا شيء يعلو فوق صوت المعركة[6].

لم يعد كافيا الاختباء والتخفّي وراء المؤامرة، وصناعة العدوّ الوهمي، والتحجّج بالأسباب الموضوعية مع كثرتها، وإغفال العوامل الذّاتية. فنحن لا نعترف بالخطأ أو الفشل، بل لا نتعامل مع هذا الأخير، إلاّ باعتباره عقبة أمام طموحاتنا المشروعة، في حين أنّ الفشل هو الخطوة الأولى نحو النّجاح، أو كما يقول المثل الفرنسي: "من لا يفعل شيئا على الإطلاق هو وحده من لا يخطئ"[7]. كما أنّنا لا نجترئ في الكثير من الأحيان على النّقد وتلك آفة تفكيرنا. ولربّما كان التّشجيع على ثقافة النّقد الذّاتي من أهمّ منجزات العقل الغربي، وأحد أكبر النّكسات التي تواجه مجتمعاتنا المعاصرة، لأنّ ثقافتنا واصلت نظرتها العاطفية الممزوجة بالغضب اتّجاه فعل النّقد، واعتبرته تجريحا ومسّاُ بقداسة الذّات المنزّهة في نرجسية قلّ نظيرها[8]. وهنا نتوافق مع علي حرب بأنّ النّقد مهْما قَسَا ليس غرضه النّفي أو التّجريح. وإنّما هو استراتيجية فكرية تأويلية سلطوية، تتشابك فيها الحوافز والدّوافع، بقدر ما تتداخل الجواذب والمقاصد[9].

إنّ ثقافة شبيهة بكلّ ما قلناه سابقا، لا يمكن أنْ تنتج إلا الصّدام والصّراع، والترقُّب، والحذر، والخوف المزمن مهْما حاول الكثيرون أنْ يبرروا لخطابهم وسلوكياتهم، ويحتموا بالمظلومية ظنّاً منهم أنّها طريقهم إلى الخلاص من المسؤولية؛ لأنّ هذا النوع من الخطاب يصلح للتّعبئة والحشد، لكنّه يفتقد المصداقية والمشروعية على المدى البعيد، خاصّة إذا كان حامله لا يقرأ واقعه ببعدٍ فكريّ وعمق نظريّ. ولعلّ ما يثير الانتباه هنا هو تحوّل المسلم أو القائمين على شؤونه في عالمنا إلى مثّقفين ناطقين باسم جماعتهم وطائفتهم ومذهبهم. وكما هو معلوم، فلقد ميّز غرامشي بين نوعين من المثّقفين: الأوّل يضمّ المثقّفين التقليديين كالإداريين والمتعلمين والكهنة، والثاني: يضمّ من يسمّيهم المثقفين المنسّقين، وهم من يرتبط مباشرة بالطبقات أو المشروعات التي تستخدم المثقفين في تنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة والمزيد من الرقابة[10]. فحسب غرامشي، كلّ مجموعة اجتماعية تنتج بشكل عضوي فئة أو أكثر من المثقفين، مهمّتهم هو إكساب المجموعة تجانسها ووعيها لوظائفها في جميع المجالات. وبالتالي، فما يميّز فئة المثقفين العضويين عن بقية الجماعات الاجتماعية، هو الدور الخاصّ الذي يلعبونه في عالم الإنتاج. وهناك من ذهب أكثر من غرامشي في وصف فئة المثقفين بموظّفي المجموعة المسيطرة كما عبّر عن ذلك بولانتزاس[11].

كل هذه المعطيات تؤول إلى أنّ المسلم اليوم، أو القائمين على شؤونه من مثقفين دينيين، إذا صحّ التعبير تحوّلوا إلى الاشتغال بحراسة الأفكار أو العقائد؛ أيْ التعلّق بالفكرة، وتحويلها إلى أقانيم مقدّسة، يصعب تجاوزها، ونماذج لا انفكاك عنها. وهنا يكمن مقتل الفكرة ذاتها، حين تنقلب إلى ضدّها، وذلك لأنّ: "الأفكار ليست شعارات ينبغي الدفاع عنها، أو مقولات ينبغي تطبيقها، بقدر ما هي أدوات لفهم الحدث، وتشخيص الواقع..."[12].

إنّ كلّ ما نرمي إليه من خلال هذا النّقاش هو محاولة إيقاظ وعي المسلم بذاته، والوقوف أمام هذا الانهيار القيمي والأخلاقي والتّنموي وقفة تأمّل، حيث يجد نفسه متلبّسا شاء أم أبى بتُهَم الإرهاب والإقصاء والعنف والتخلّف. وبدل أنْ تستوقفه هذه الصّورة، ليعيد قراءة الذّات من منظور معرفي يسعى إلى تنقية هذا التّراث والتّاريخ والثقافة - بعيدا عن الرّغبة في الحفاظ على صفاء الذّات -، اختار خطاب المظلومية ليتوارى خلف جرحه النّرجسي، ويقرأ صورته في سياقات المؤامرة، ويضيّع على نفسه من جديد اكتشاف ذاته، وهذه الثقافة الممتزجة بلون الدّم في مسار طويل، بدأ منذ اللّحظة الأولى التي تحوّلت فيها الرّسالة إلى سيف وسلطة، انتهاءً بداء الأصولية المخيف، والتّسويق للدّولة الدينية بأفق يمتح من قاموس الرّعب والتّخويف والموت.

ولكي نفهم مسار تشكّل هذا العقل المسلم وحالة الخوف منه، يكفينا أنْ ننظر في بنائه النظري. فالنّصوص حبلى بما لا مجال للشكّ فيه بالعنف، والعنف المضاد. وهذه خاصية من خصائص الإنسان، فوجوده ضمن الطبيعة يفرض عليه الصراع، ولا صراع دون آليات ووسائل لتنفيذه. وهنا يأتي النصِّ بوصفه الآلية والدّافع نحو استثارة هذه الميولات البشرية، فالنّصوص كما أكّد على ذلك سامي لبيب لا تكون معنية فقط بخدمة المشروع السياسي، ولكن لكي يكون لها الحضور والتأثير، فهي تخاطب نزعات عنيفة وهمجية داخل الإنسان وتفتح لها طريقا للانطلاق... أي أن الإنسان سيقتل أولا لمصلحته الذاتية، وسيتوحش أكثر كون القتل ينسجم مع طبيعة عنيفة ساكنة في داخله تتوسم طريقا للخروج[13].

يتجلّى المنزع النّرجسي في العقل المسلم في مجموعة من الأبعاد كشف عنها علي حرب في معرض نقضه للعقل الأصولي[14]، وأهمها:

- عقدة الاصطفاء: فالعقل المسلم يؤمن بأنّه شعب الله المختار، أو خير أمّة أخرجت للنّاس، بالرغم من أنّه يعارض هذه الفكرة لدى نظيره اليهودي[15]. كما أنّه يؤمن بأنّ طائفته ومذهبه هو الطريق الوحيد المنجي من النّار، وعلى أساسه يكون استحقاق الجنّة، وهنا يكمن داء الاصطفاء وفخّ الاستثناء.

- عقدة امتلاك الحقيقة: أو ما يسمّيه علي حرب باليقين الدّوغمائي، والدّوغمائية ترتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المبادئ العقائدية، وترفض بنفس الشدّة مجموعة أخرى، وتعتبرها لاغية لا معنى لها[16]. والناظر في سلوك المسلم تجاه الآخر يراه يصدر عن هذا النّمط من التّفكير، فهو صاحب الحقّ المطلق، والمالك للحقيقة، والقابض على مفاتيح الهداية والخلاص لهذه البشرية. هذا المنزع المتعالي، والأفق العنصريّ في الكثير من الأحيان يجعل من التّواصل أملاً مستحيلا، ويضع صاحبه أمام شكٍّ أبديّ، لا ينزعه من عقل الآخر شيء، ما دام الخطاب والعمق النظري يسمح بهذه الاستنتاجات[17]. فالنّقد يبيّن لنا كيف أنّ الكلمات ليست بريئة، وبأنّ الخطاب حجاب. ولهذا ليس النصّ نصّاً على المعنى المراد، بقدر ما هو حيّز لممارسة آلياته المختلفة في الحجب والخداع والتّحوير والكبت والاستبعاد، وهذا شأن كلمة الحقيقة، فهي تخفي ما تشير إليه وتتكلّم عنه، وهو أنّ الحقيقة متعالية ومطلقة وثابتة وأحادية، وفي ذلك تأليهٌ لها، وفي التّأليه حجبٌ وتغييب[18].

- المبدأ السكوني: وهو مبدأ يرى أصحابه حسب علي حرب، أنّ الأصل عندهم ثابت، لأنّ مصدره علويّ مفارق، ومتعالٍ عن الزّمان والمكان. ولهذا، فإنّ أصحابه يعتبرون كلّ ما لديهم قد نسخ ما قبله، ويلغي ما عداه[19].

الغرب والإسلام: صراع العقائد غير المتسامحة:

يزعم العقل المسلم أنّه ضحية لكلّ المؤامرات التي يحيكها العقل الغربي ضدّه، ويعبئ ويحشد الفئات المتديّنة بمختلف طوائفها ومذاهبها للقبول بهذه النّتيجة، متناسياً بنياته وقواعده وأصوله التي توفّر الحاضنة الأساسية لفكرٍ عنيف في تركيبته، لا يتواصل إلا في حدود ضيّقة. وإنْ فعل كان ذلك وفق خطوات يحيطها بالمصلحة والمقاصد والضرورة. ومع ذلك ما زال هناك من لا يقبل بحتمية الصّراع، والصّدام في دائرة العقائد غير المتسامحة، حيث إنّ هناك تلازما بين مسمّى الدّين والدّوغمائية. وما دام الفكر الديني يستأثر بالحقيقة المطلقة، ويقدّم نفسه للنّاس بوصفه الحلّ الوحيد للخلاص الإنساني، فمآل هذه العقليات لا يمكن أنْ يكون إلاّ قمع حرية التّفكير بتغليب الأمر على الرّأي، والاشتغال بلغة الإدانة والتّكفير، على سبيل الإقصاء للآخر على المستوى الرّمزي أو الجسدي[20].

إنّ أوّل ما يتبادر إلى الذّْهن ونحن نطالع موضوع التّسامح، هو مسألة المفهوم الذي يحيل في سياقنا التّداولي على التّنازل عن الحق، والحالة التي يتعامل فيها المسلم مع غيره من أصحاب الدِّيانات السّابقة. وكما هو معلوم من خلال النّصوص الدينية، فمسألة التّسامح خاصّة مع ذوي الدّيانات السّابقة مشروطة بما يسمّى بنظام الجزية، وهي في أساسها مقدار مالي يعطيه الذمّي للحكومة الإسلامية مقابل البقاء على دينه. أمّا الردّة وهي الخروج من الدّين فالنّصوص لا تتسامح في هذا المضمار، حيث ترتِّب على ذلك القتل، دون تردُّد مع أنّ النّصوص القرآنية لا تسعف المتشبّثين بهذا الحكم[21].

وبما أنّ الثّقافة الإسلامية تصدُر عما سبق وأنْ أشرنا إليه من عقدة الاصطفاء، وأحادية التّفكير، يصير الحديث هنا عن التّسامح مجرَّد كلام لا يصلح إلا للاستهلاك السّياسي والديني. وبالتالي، فإنّ النّتيجة الحتمية لذلك هو الصّدام والصّراع كما تجلّى في الواقع التاريخي. وبذلك، يكون التّسامح وفقاً لهذا التصوّر هدنة بين توترين أو صدامين، لمصلحة مفهوم الاعتراف الذي ينفتح على التعدّدية الثّقافية والدّينية على حدّ تعبير علي حرب[22].

إنّ سياسة اللاّتسامح هي إفرازٌ لواقع يغذّيها نظرياً وسلوكياً، كما أنّها نتيجة طبيعية لواقع يطبعه التعصّب[23]، إذ بين التعصّب واللاّتسامح علاقة جدلية لا تقبل الانفكاك، وكما يقول فولتير: "إنّ الحقّ في التعصّب حقٌّ عبثيٌّ وهمجيٌّ إذن. إنّه حقُّ النّمور وإنْ فاقه بشاعة: فالنّمور لا تمزِّق بأنيابها إلا لتأكل. أمّا نحن فقد أفنينا بعضنا بعضاً من أجل مقاطع وردت في هذا النصّ أو ذاك"[24]. هذه طبيعة التعصّب، لا يمكن أن تنتج إلا هذا التمزّق الذي نحياه، والخوف المتقابل المعبّر عن مأزق ثقافتنا، حيث العجز المطلق عن التّواصل، وخلق ظروف لاستمرارية الحوار المبني على البحث عن القواسم المشتركة بين بني الإنسان، لا الحوار المفضي إلى وقوف كلّ الأطراف في مناطق أمانها النّفسي، والثّقافي، والاجتماعي، ثمّ دعوة الآخرين إلى تقبل تحيزاتها.

من هنا نفهم: "أنّ كل متعصِّب يتراجع من خلال أفعاله إلى مرحلة "القدرة الكلية الطفلية"؛ أي أنّه يصير طفلا في تصرّفاته حين تتضمن هذه التّصرفات تحقيق الرّغبة على حساب الواقع الذي يجري إدراكه بالمعارف وبحدود الطّبيعة البشرية. وحين تمتزج هذه القدرة الكلية مع حماس نرجسيّ تتحوّل منظومة الحقيقة والصّواب التي يؤمن بها المتعصّب إلى عدوانية نحو عدوّ يمثله الآخر المختلف، أو تستثار مشاعر الجرمية فتقوده إلى أشكال من المازوشية وعقاب النفس"[25].

لماذا لا تتسامح العقائد؟:

للجواب عن هذا السّؤال، نقول بأنّ عدم التّسامح هو نتيجة طبيعية لمجموعة من الأسباب نوجزها فيما يلي:

- إنّ أيّ دوغما هي مطلقٌ عيني يمكن أنْ يكون أساساً للمجتمع. وبهذا المعنى، فإنّ أيّ نظام اجتماعي يرقى إلى مستوى المطلق، فإنّه يتعصّب ضدّ أيّ اتّجاه ينشد تغيير الوضع القائم بدعوى أنّ الدّوغما تكون في أزمة لحظة نقدها[26].

- الخطاب الذي يصدُر عن عقلية تؤمن بالخيرية والأفضلية الفكرية، أو الدينية أو العنصرية والقومية، لا يمكن أنْ ينتج سوى الصّدام والإقصاء والعنف.

- الفكر المطلَق يفضي بصاحبه إلى الاشتغال بحراسة الأفكار، ويعني ذلك التعلّق بالفكرة، وتحويلها إلى أقانيم مقدّسة، يصعب تجاوزها، ونماذج لا انفكاك عنها. وهنا يكمن مقتل الفكرة ذاتها، حين تنقلب إلى ضدّها.

الخطاب الذي يصدُر عن عقلية تؤمن بالخيرية والأفضلية الفكرية، أو الدينية أو العنصرية والقومية، لا يمكن أنْ ينتج سوى الصّدام والإقصاء والعنف

- العقلية التي تعاني من جروح نرجسية دوما تتحجّج بالواقع، وبنظرية المؤامرات التي صنعتها وصدّقتها إلى حدّ التماهي معها؛ لأنّ النّرجسي يتعامل مع نفسه من أفقٍ اصطفائي نخبوي، فهو القائد، والمبشّر، والحارس للأفكار، والموجّه، والمرشد. وثمن هذه العقلية، وهذا النّمط في التّفكير هو العزلة عن النّاس، والوقوع في أسْر الأفكار، ومخطّطاتها، ومشاريعها.

- غياب النّقد وقراءة الذّات، تفرز استمرارية الإقصاء الدّيني، والتطرّف وأشكال الإرهاب الرّمزي والجسدي.

إنّ العقلية التي يصدُر عنها العقل الأصولي في امتداداتها ونتائجها الإقصائية، تتمترس دوماً وراء الذّات، وتوقِف التّاريخ في لحظة من اللّحظات تراها مستجمعة لشروط النّقاء والصّفاء، وهي تعبير عن عقدة المماهاة[27] التي يختفي وراءها دعاة الثّوابت والهويّات والخصوصيات، مع أنّ هذه العقدة تحتوي على قدرٍ كبير من التّبسيط والخداع لوجهين:

الوجه الأول: أنّ الهوية الثّقافية خاصّة السّلفية الأصولية، قد تغيّرت وتحوّلت بفعل الزّمان وبحُكم التّفاعل والتثّاقف[28] مع حضارات مختلفة.

الوجه الثاني: أنّنا أصبحنا جزءاً من العالم الحديث نتأثّر به كما يتأثّر بنا. وحتّى الأدوات التي ندافع بها عن هويّاتنا هي من إنتاجه[29]. وباختصار شديد كما ينقل لنا داريوش شايغان عن سيوران Cioran، فإنّ الفكر الرّجعي يتميّز بعبادة البدايات، وسواس الأصول هذا هو بالضّبط ما يميّز الفكر الرّجعي، أو إذا شئنا التّقليدي. والحقيقة أنّ أفكار التّغريب والعودة متناسبة عكسا. كلّما ابتعدنا عن التّغريب اندمجنا أكثر في البيت الأبوي. وكلّما صحوْنا من إغواءات التقدّم عُدنا إلى الأصل الثّابت للأشياء، وهكذا نلوي خطيّة الزّمن بإعادته نحو عمودية الانطلاق[30].

إنّها معاناة مع وهم المطابقة الذي يرى أنّ الحقيقة جوهر ثابت، سابق على التّجربة، متعالٍ على الممارسة، ، يمكن القبض عليه عبر التصوّرات، والتّعبير عنه بواسطة الكلمات. ومن ثمة ترجمته في الحياة العملية، والممارسات التطبيقية. لكنّ هذا الاعتقاد كثيرا ما آل إلى إحباطات كبيرة: "فالذين أملوا بالسّلام لم يحسنوا سوى صناعة الحرب، والذين فكّروا في زوال الدّولة لم يؤسسوا مملكة للحرية، بل أنتجوا دولة كلانية سحقت الفرد، وابتلعت المجتمع المدني ومؤسّساته...[31]".

إنّ خطر هذا اللاّتسامح النّاجم عن الأصوليات الدِّينية، يكمن في تلبيس هذا النّوع من العنف لبوساً مقدّساً، دون الكشف عن الدوافع البشرية الكامنة وراءه. كما أنه يعطي الحق للآخر أن يأخذ الحذر من مشروع يتحدث أصحابه عن إقامة مملكة العدل بالنسبة إليهم، ومملكة الجحيم بالنسبة إلى الأغيار. وهذا هو نقطة ضعف المشروع السياسي الإسلامي، فالمواطنة تبنى على العقيدة، لا على إنسانية الإنسان. لهذا نجد كلمة "الإخوان المسلمين" مثلا تنضح بهذا البعد، حيث الأخوة العقدية أوثق من غيرها، في مجتمع متعدد يجب أن تمثل فيه كل الحساسيات، حتى لا يطغى أحد على أحد، أو أن يتحول الصراع الدائر على السلطة بالأساس إلى حرب الكل ضد الكل[32]. وهنا لا بدّ من الغوص في عمق الماضي للتحقُّق من الكيفية التي تهيّأت بها القراءة الأصولية لكلٍّ من القرآن والسنّة[33].

عودٌ على بدء:

إنّ الخوف المتقابل بين الإسلام والغرب، ليس خوفاً يفتقد إلى معطيات واقعية. ولا هو خوف نابعٌ من لحظات يرى فيها الآخر أهمية خلقِ عدوّ له ليضمن استمراريته، أو يحقّق من خلاله رغباته الدّفينة في السّلطة والتسلّط. ولكنّ الخوف هو وعاء يختزل كلّ ثقافتنا، فهو المبتدأ والمنتهى، خاصة إذا كنّا ننتمي إلى ثقافة تقدِّس الخوف، وتجعل من مؤسّساتها هدفاً لخلق مواطن في صراع مزمن مع الخوف. إنّها السّلطة المبثوثة في أسفل المجتمع، في السّجن، والمدرسة والإعلام. كما أنّ هذا الخوف هو بنية سيكولوجية تغذّيها مجموعة من النّصوص اكتسبت قداستها بفعل الزّمن، وترسّخت في الوجدان والعقل الإسلامي، لتصحب معها من لديهم استعدادا لتقبُّلها، والموت من أجلها.

ومن هنا كانت قراءتنا تحاول أنْ تتلّمس الطَّريق لفهمٍ أفضل لخوف مزمن بين فضاءين ثقافيين، كُتب لهما أنْ يعيشا تحت وطأة الصِّدام، عن قصدٍ أو بغير قصد، وساهمت في ذلك عوامل كثيرة، منها ما هو ذاتي مرتبط بعقل متشكِّك يؤمن بالمؤامرة حدّ الهوس، ويقرأ الآخر في سياق العداوة الأبدية. وليس في مدلولاته قيم التعاون والاعتراف، بقدر ما تحكمه الأنانية والنّرجسية الحادّة، والإمساك بقوالب الطريق المستقيم؛ ومنها أيضا عوامل موضوعية تجسّدت في خلق تيارات مناوئة للعقل الأحادي التي ساهمت في تشكيله قوى الاستعمار، وشركات التّنميط العالمي. ولا غرو أن مثل هذا الواقع يؤسِّس للصّدام والصّراع على أسسٍ عقائدية لا تخدم الإنسانية، بل توسّع الهوة بين كلّ مكوّنات هذه الأرض، وترفع منسوبية العنف إلى الحدود غير المقبولة. وهنا تصبح الشّعارات والشّعارات المضادة المعبّرة عن عقلية المصادرة هي المسيطرة على المشهد العالمي، ويضيع الإنسان، ولربّما تنتهي مأساوية هذا المشهد بحدوث انفجار عظيم يعيد للإنسانية رشدها.


[1]- بدوي، عبد الرحمن. دراسات في الفلسفة الوجودية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت. ص 93

[2]- أوكونور، جوزيف. حرر نفسك من الخوف. نقله إلى العربية سهى نزيه كركي، تصوير أحمد ياسين. العبيكان. ط2. ص 30. ملف pdf.

[3]- طرابيشي، جورج. (2006). هرطقات عن الدّيمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية. دار الساقي، ورابطة العقلانيين العرب. ص 96

[4]- آدلر، ألفرد. (2005). معنى الحياة. (ط1). المجلس الأعلى للثقافة. ص 81

[5]- إيريك، فروم. الخوف من الحرية. ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972، ط1. ص 10

[6]- سامي، لبيب. لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون. من 1 إلى 37. ملف pdf. ص 66

[7]- شارل، مانز. قوة الفشل. ترجمة قاسم الترجمة بدار الفاروق. القاهرة: دار الفاروق للاستثمارات الثقافية، 2009، ط1. ص 16

[8]- طارق، حجي، المرجع السابق. ص 84

[9]- علي، حرب. أصنام النظرية وأطياف الحرية: نقد بورديو وتشومسكي. بيروت: المركز الثقافي العربي. ص 8

[10]- إدوارد، سعيد. ترجمة محمد عناني. (2006). المثقف والسلطة. رؤية للنشر والتوزيع. ص 34

[11]- نادية رمسيس، فرح. المثقفون والدولة والمجتمع المدني. مركز البحث العربية. ندوة القاهرة 1990. غرامشي. مؤسسة عيبال. ص 320

[12]- حرب، علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2004، ط3. ص 11

[13]- سامي لبيب. المرجع السابق. ص 31

[14]- علي، حرب. المصالح والمصائر: صناعة الحياة المشتركة. منشورات الاختلاف، والدار العربية للعلوم ناشرون، 2010، ط1. ص 31 وما بعدها.

[15]- يرى سامي لبيب أنها خاصية لدى المتدينين، يمكن اعتبارها من المغالطات المنطقية، وتسمى مغالطة "تهميش أفكار ومعتقدات الغير وتسخيفها هو الطريق إلى الإيمان". ومفاد هذه المغالطة أن الإنسان المتدين ليقوم بتخدير عقله، ويصارع حالة القلق المزمنة تجاه معتقداته وخرافاته، يلجأ إلى الهجوم على عقائد الآخرين وتسفيهها بجرأة ومنطق لا يستعمله مع عقائده. ومكمن اللبس لديه هنا هو أن عقائده وخرافاته صحيحة ما دام الآخر على خطأ.

انظر: سامي، لبيب. المرجع السابق. ص 65

- والخلاصة هي أن وجود فكرة خاطئة لدى الغير لا تعني أن أفكارك صحيحة. كما أن عجزي عن فهم عقائد الآخرين بالضرورة أن ما أؤمن به هو سليم من التناقضات.

[16]- أركون، محمد. الفكر الإسلامي: قراءة علمية. ترجمة هاشم صالح، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1996، ط2. ص 5

[17]- وفي هذا الصدد، ينتقد علي حرب التفريق بين الإسلام والمسلمين. ويرى بأن الإسلام بوصفه دِيناً يؤمن أتباعه بأنهم أصحاب كتاب مقدّس ينطق بالحقيقة المطلقة والنهائية هو مصدر لإنتاج التعصّب والتطرّف والعنف. انظر، حرب علي، الإرهاب وصناعه: المرشد، الطاغية، المثقف. بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ط1. ص 8

[18]- حرب، علي. النص والحقيقة II نقد الحقيقة. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1993، ط1. ص 1

[19]- علي حرب. المصالح والمصائر. ص 33

[20]- حرب علي، الإرهاب وصناعه: المرشد، الطاغية، المثقف. بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ط1. ص 8

[21]- انظر ما كتبه حول موضوع الردة: إدلبي محمد منير. (2002). قتل المرتد الجريمة التي حرمها الإسلام. دمشق: دار الأوائل.

[22]- حرب، علي. الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2. ص 106

[23]- التعصب هو التوهم باكتشاف المطلق وما فوق البشري، والإمساك بالحقيقة التي تمنح كل العلم، كل القوة والسلطان والعصمة، وكل أشكال التفوق البشري. انظر:

أندريه هاينال، وميكلوس مولنار، وجيرار دي بوميج. سيكولوجية التعصب. ترجمة خليل أحمد خليل. دار الساقي، 1990، ط1. ص 9

[24]- فولتير. رسالة في التّسامح. ترجمة هنريت عبّودي. دمشق: دار بترا للنّشر والتّوزيع، 2009، ط1. ص 48

[25]- أندريه هاينال، وميكلوس مولنار، وجيرار دي بوميج. سيكولوجية التعصب. ترجمة خليل أحمد خليل. دار الساقي، 1990، ط1. ص 10

[26]- لوك، جون. رسالة في التسامح. ترجمة منى ابو سنة، تقديم مراد وهبة. المجلس الأعلى للثقافة، 1997، ط1. ص 10

[27]- وتعني الحفاظ على الذّات والهوية في مواجهة الثّقافة الغربية بنماذجها وقيمها وفلسفاتها. انظر: حرب، علي. الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2. ص 134

[28]- يعرف كوش دنيس مفهوم التثاقف Acculturation بـ: "مجموع الظواهر الناتجة من تماس موصول ومباشر بين مجموعات أفراد ذوي ثقافات مختلفة تؤدي إلى تغيرات في النماذج Patterns الثقافية الأولى الخاصة بإحدى المجموعتين أو كليهما".

كوش، دنيس. مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية. ترجمة منير السعيداني، ومراجعة الطاهر لبيب. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007، ط1. ص 93

[29]- حرب، علي. الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2. ص 134

[30]- شايغان، داريوش. أوهام الهوية. ترجمة محمد علي مقلد. بيروت، دار الساقي، 1993، ط1. ص 75

[31]- حرب، علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2004، ط3. ص 108

[32]- هذا التعبير لهوبز: "فهو يصف حالة الطبيعة بأنها حرب دائمة، حرب الفرد ضد الفرد، وحرب الجميع ضد الجميع، وأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان". النائب، إحسان عبد الهادي. (2012). توماس هوبز وفلسفته السياسية. (ط1). مكتب الفكر والتوعية للاتحاد الوطني الكردستاني. ص 127

[33]- المودب، عبد الوهاب. (2002). أوهام الإسلام السياسي. ترجمة محمد بنيس والمؤلف. (ط1). دار النهار للنشر. بيروت. ص 13