المدارس الإسلامية: حيويتها وتنوعها


فئة :  قراءات في كتب

المدارس الإسلامية: حيويتها وتنوعها

يتبنى كتاب النظام الأخلاقي للمدرسة الإسلامية مقاربة جديدة تجاه عرف المدرسة الإسلامية، من خلال التركيز على أدوارها السياسية والاجتماعية المعاصرة. وقد اعتمدت كل فصول هذا الكتاب على بحوث ميدانية حديثة، أجريت في مناطق غالبا ما يتلكأ علماء الاجتماع الأمريكيون والأوروبيون في وطئها. يتمحور الكتاب حول دور المدارس الإسلامية الحالي في كل من أفغانستان وإيران وباكستان وبانغلاديش والصين.

تضع مقدمة أديلكاه (Adelkhah) وساكوراي (Sakurai) فصول الكتاب داخل سياق تاريخي واجتماعي ملائم لعامة القراء كما للمختصين الذين سبق لهم الاستئناس بالعالم الإسلامي. ورغم ذلك، فمصطلح النظام الأخلاقي يخرج عن القاعدة حتى بالنسبة إلى المختصين، نظرا لمقاربته المقارِنة في سياقات شديدة التنوع، ونظرا لقدرة المحررتين على توضيح الكيفية التي تستفيد بها الدراسات في مجال التاريخ والسياسية والفكر الاجتماعي من دراسة المدارس الإسلامية المعاصرة.

نجد مثلا أن تركيز أديلكاه وساكوراي على "النظام الأخلاقي" أمر حديث لا محالة، حتى وإن استجدى اللفظ بأسلافه في أوج عصر الأنوار الأسكتلندي أواخر القرن الثامن عشر. لقد طرح إ. ب. تومبسون (E.P. Thompson) (1971) المصطلح بشكل جعله شائع الاستعمال خلال الستينيات والسبعينيات، فصار منذ ذلك الحين نقطة انطلاق للعلماء في سياقات متباينة، مثل الهند الصينية في الثلاثينيات (سكوت Scott 1976) وإيران خلال الأربعينيات (ماك فارلاند McFarland 1985). كان استعمال تومبسون للفظ ماركسيا صريحا، إلا أن الاستعمال الحالي للمفهوم – حتى في الكتاب الذي بين أيدينا – يثبت من جديد الممارسات الدينية وأنماط التفكير، وكذا الجذور العميقة والشعبية للمدارس الإسلامية. رغم أن بعض المسلمين وغيرهم يَدَّعُونَ أن أصول المدارس الإسلامية تعود إلى تاريخ سحيق، يرى آخرون أنها لا تعدو عن كونها واجهات انتهازية تنشر التطرف النضالي. عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ادعى كل من جورج بوش (George Bush) وديك تشيني (Dick Cheney) ودونالد رامسفيلد (Donald Rumsfeld) في لحظة من اللحظات أن "المدارس الإسلامية" تشكل تهديدا؛ كما أن المجلة المحافظة إنسايت ماغازين (Insight Magazine) زعمت سنة 2007 أن باراك أوباما (Barack Obama) كان بالفعل قد حضر دروس واحدة من المدارس الإسلامية "المتطرفة" خلال طفولته (http://www.cnn.com/2007/POLITICS/01/22/obama.madrassa/). نجد أن فوكس نيوز (Fox News) التي منحت تقرير إنسايت جمهورا أوسع، قد ميزت على الأقل بين المدارس الإسلامية المتطرفة وغير المتطرفة.

لكن المدارس الإسلامية تتسم بمرونة عالية، سواء تعلق الأمر بالعرف الديني السني أم الشيعي. لقد كان النجف أبرز مركز للتعليم الديني الشيعي لزمن طويل، وقد نجح في الاستمرار خلال العقود الأولى لحكم حزب البعث في العراق، إلا أن قياداته ومؤسساته تعرضت لانتقام همجي إثر فشل الانتفاضة المدعومة من طرف أمريكا ضد نظام صدام حسين سنة 1991. رغم ذلك، فقد بدأت الحوزة (كما تسمى أبرز مراكز التعلم مجتمعة)، بعد عام 2003 تتجدد سريعا لتصير مراكز حج ديني وتعليمي، فتستميل طلبة من كل المستويات من العراق وإيران وجنوب آسيا وغيرها، إضافة إلى استقطابها لهبات من طرف الأوفياء (ونحيل هنا على المقابلات التي أجراها المؤلف مع قيادات الحوزة بالنجف فيما بين 20 و21 نونبر من العام 2009). وبما أن المدارس الإسلامية بإيران تتعرض لتضييق حكومي متزايد، لا بد أن يسترجع النجف دوره السابق كأبرز مركز للتعليم الديني الشيعي، والمكتمل بمواقعه الإلكترونية المتعددة اللغات، وبإمكانية الوصول إلى العالم الخارجي عبر الإنترنت من أجل تجاوز الصعوبات المستمرة التي تواجه من يريد التواجد بعين المكان.

ضمت الأنثروبولوجيا الاجتماعيةُ التعليمَ النظاميَّ للدراسات المتعلقة بالطفولة وبالتنشئة الاجتماعية لفترة طويلة، وشكلت دراسة كل من المدارس الإسلامية والمساجد الجامعية وعادات التفكير الملقنة فيها جزءا من هذه الدراسات. كما ركزت معظم البحوث على المدارس الإسلامية في العالم العربي ونظيراتها الإندونيسية التي تسمى بيزانتاران (pesantaran) (آيكلمان 1985؛ هيفنر (Hefner) وزمان (Zaman) 2007؛ هذا المجلد، الفصل الأول).

تبدأ هذه الدراسات بالحاضر أو الحاضر القريب بدل أن تَعتبر المدارسَ الإسلامية بجنوب آسيا وجنوب شرقها انعكاسا باهتا لماض معروف تاريخيا أو متخيل. ويذكرنا مؤلفو النظام الأخلاقي للمدارس الإسلامية بأن المعنى الأساسي لمصطلح المدرسة هو مكان للتعلم، ولم يكن يوما هذا التعلم إسلاميا خالصا، ولا هو كذلك اليوم. كانت المدارس الإسلامية موجودة منذ القرن التاسع عشر إلى جانب المدارس المدنية والعمومية. لقد حاولت قيادات المدارس الإسلامية عبر أنحاء العالم الإسلامي – بما في ذلك الإمبراطورية العثمانية، والهند البريطانية، ومصر، والمغرب – منذ القرن التاسع عشر أن تتجدد وتتأقلم، وليس هذا التأقلم مجرد رد فعل على اعتداء الغرب، بل هو جزء لا يتجزأ من بنية هذه المدارس.

في السنوات الأخيرة، أصبحت بعض الحكومات تنظر إلى المدارس الإسلامية في بلد كبانغلاديش (هذا المجلد، الفصل الخامس) كوسيلة منخفضة التكلفة لنشر التعليم على نطاق واسع، خاصة في المناطق النائية، وهو مفهوم ساهمت فيه اليونيسكو خلال الثمانينيات (آيكلمان 1987). لقد صار التعليم بالمدارس الإسلامية، تماما كالتعليم العمومي الواسع "موضوعيا" على جميع الأصعدة؛ فقد أضحى بضاعة تخضع لـ "علم التسيير" و"تدبير الموارد البشرية" مثلها مثل أي مؤسسة أو منظمة أخرى، كما يشير إلى ذلك المؤلفون (الفصل الأول). وكما أن نظام الحوالة المستخدم لنقل الأموال والرسائل عبر مسافات طويلة وإلى مناطق نائية، والذي هو أفضل تكيفا وأكثر موثوقية ومرونة من النظام البنكي الحديث، فإن المدارس الإسلامية غالبا ما تكون أفضل تكيفا وأكثر مرونة في مجال التعليم من المدارس العمومية الحديثة، أو من العديد من نظيراتها من المدارس المدنية الخاصة (أنظر مونسوتي Monsutti 2005).

هكذا يأخذنا فصل يمان (Yamane) حول منطقة القبائل الباكستانية المدارة فدراليا (FATA[1]) مباشرة إلى روح الدور السياسي للمدارس الإسلامية في باكستان المعاصرة. خلال فترة احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، كان اللاجئون البشتونيون (Pashtun) من باكستان موجودين بمخيمات للاجئين بها، وشجعهم آنذاك الدعم الأمريكي والسعودي والباكستاني للانضمام إلى حركة طالبان المناهضة للسوفيات. في سنة 1996، دخل العرب – ومعهم مناصرون شباب للبشتونيين يحاربون السوفيات بأفغانستان – إلى إحدى القرى وحاولوا اغتيال القيادة القبلية التقليدية، إلا أن هذه الأخيرة قاومتهم ونجحت في طردهم. في ربيع 2008، "قيل" إن "معارضي النظام القبلي التقليدي" قد تسببوا في إلقاء قنابل على جيرغا[2] (jirga) قبلية، وهي اجتماع لقادتها الكبار. يظل يمان متحفظا فيما يخص الطرف المسؤول عن إلقاء القنابل، إلا أنه يؤكد أن هذه القيادة مرتبطة بـالمدارس الإسلامية "حديثة الإنشاء". ليس طلبة هذه المدارس بالضرورة بشتونيين أو ملتزمين بـ "باشتون والي" (Pashtunwali)؛ أي ميثاق الشرف القبلي، ولا هم يقبلون بتعايش نسختهم المسيسة للإسلام مع الميثاق القبلي.

إن فكرة الشريعة الإسلامية تشمل تلك المظاهر من العادات المحلية التي لا تتنافى مع الشريعة النظامية/الرسمية، كما هو الحال في أنحاء أخرى من العالم الإسلامي. ونجد أن بشتونيي جنوب أفغانستان يشتركون في الكثير من الأمور مع أقربائهم في منطقة القبائل الباكستانية المدارة فدراليا من حيث الممارسة الاجتماعية، رغم أن التعليم كان قد أتيح بشكل أكبر لبشتونيي أفغانستان من نظرائهم الباكستانيين بحلول السبعينيات.

ظلت المدارس الإسلامية في منطقة القبائل الباكستانية المدارة فدراليا خاضعة للرقابة المحلية في فترة ما قبل الثمانينيات، حتى وإن كانت شديدة التأثر بتيارات فكرية وسياسية أكثر امتدادا، ونذكر على وجه الخصوص حركة ديوباندي[3]. كانت المدارس الإسلامية حديثة الإنشاء في الثمانينيات – تماما كسابقاتها التي ألهمتها حركة ديوباندي خلال العشرينيات – تركز على عقائد الجهاد. لقد ازدهرت المدارس الإسلامية الجديدة بفضل الدعم الأجنبي والداخلي الهائل لها، بما في ذلك دعم الاستخبارات الباكستانية (Inter-Services Intelligence)، فصارت باكستان، حسب يمان، "مرتعا" للتطرف الديني. تظل بعض المدارس الإسلامية تابعة لمراقبة الدولة، في حين أن بعضها الآخر يبقى مستقلا، وتختلف فيما بينها من حيث قبول الدعم الخارجي. لم يُستثن الوجهاءُ التقليديون من الهبات العمومية والخاصة الموزعة خلال فترة احتلال السوفيات لأفغانستان. بيد أن هذا التمويل توقف فجأة بعد انسحاب القوات السوفياتية، وباتت المنطقة متخلى عنها، وتُرك الشباب الذين تستميلهم حركة الجهاد يعيلون أنفسهم بأنفسهم.

إن نمو المدارس الإسلامية في باكستان منذ 1947 لمدهش، فقد انتقل عددها من 245 مدرسة مسجلة في غرب باكستان إبان الاستقلال، إلى 2056 مطلع الثمانينيات كما يخبرنا يمان، ويوجد عدد كبير منها في منطقة القبائل المدارة فدراليا على طول الحدود بين باكستان وأفغانستان. بخلاف مثيلاتها الأقدم، جنحت المدارس الإسلامية الأحدث إلى الاستقرار بعيدا عن إقامات القيادات القبلية المحلية خلال الثمانينيات، كما أن تدفق اللاجئين أدى بدوره إلى جعل هذه المدارس مستقلة عن السلطات المحلية، بما في ذلك الأساتذة والقادة. وقد ازدادت العداوة بين القيادة التقليدية ومُلّا[4] (mullahs) المدارس الجديدة. نظرا لأن الملا بما فيهم المناضلون من حركة طالبان كانوا مدججين بالسلاح، فقد استطاعوا تجميد القيادات القبلية التقليدية الأكثر اعتدالا، وإهمال سلطة القرار لدى الجيرغا. ومن المفارقات، أن القيادات التقليدية كانت أكثر انفتاحا تجاه إدخال التعليم الحديث وتجاه تعليم البنات، إلا أنها كانت في الوقت ذاته غير قادرة على التصرف بفعالية.

عاد جنوب أفغانستان إلى حالة الفوضى بعد انسحاب السوفيات. وبحلول 1994 كان أعضاء طالبان ("الطلبة") مرحبا بهم مبدئيا، وكثير منهم كانوا يتلقون تكوينهم في مدارس إسلامية بكوئتة (Quetta) وقندهار (Kandahar)، وكانوا يُدْعَون آنذاك بـ "أصفياء القلوب". وقد دعمهم التجار بفضل نجاحهم في خفض مستوى اللصوصية في المنطقة. وبحلول 1997، صار طالبان يتحكمون في تسعين بالمائة من أفغانستان، ثم بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة، عزل الأمريكيون حكومة طالبان، إلا أن الحكومة الباكستانية، كما يشير إلى ذلك يمان، أعلنت أن طلبة المدارس حديثة الإنشاء في باكستان هم من حركة طالبان "المحلية"؛ أي إنه لا ينبغي التصدي لهم. وهكذا استمرت هذه المدارس وطالبان في التوصل بالدعم الخاص.

تسلّط حجة يمان الضوء على الصراع الضمني بين التراتبية الدينية القائمة، والقيادة القبلية في منطقة القبائل المدارة فدراليا وفي جنوب أفغانستان من جهة، وحركة طالبان المتزايدة النفوذ من جهة أخرى. يمكن أن نستشف من حجته ضمنيا أن طالبان قد وضعت شرعية النظام السياسي والديني القائم في باكستان كما في أفغانستان أمام تحد كبير. يمكن القول أن صعود طالبان مرده إلى الخوف والدعم الخارجي فقط، إلا أن يمان يؤكد أن بعض أهالي القرى والمناصرين الخارجيين قد رحبوا بهم أوائل التسعينيات بصفتهم قوة استقرار ترتكز على الشريعة كما يفهمها أهالي القرى والقبائل. وفي هذا الصدد، يتضح أن طالبان حركة عصرية يمكن أن تبرهن على مرونة أكبر مما قد يعترف به الأجانب وسلطات الدولة.

إن عرض ساكوراي حول معاهد تعليم النساء بإيران وباكستان يعالج صلب قضية الشرعية الشعبية. ويقر معظم المسلمين المحافظين المعاصرين في هذه البلدان، بأن فرص النساء في التعليم كانت متخلفة عن الركب مقارنة مع الرجال إلى وقت قريب، حتى وإن كان التعليم العمومي الحديث مفتوحا لهن أكثر، على الأقل بإيران. كانت معاهد التعليم الديني للنساء مهمشة في مقابل التعليم العمومي الذي يمنح فرصا للعمل ولتقدم الدولة. لقد أتيحت لي فرصة زيارة عدة مدارس إسلامية للذكور في أجزاء متعددة من إيران عام 1968، ومن أكثر ما أدهشني بخصوصها هو الأعداد المعتبرة من الطلبة الذين فشلوا في اجتياز الامتحانات ذات التنافسية الشديدة لولوج التعليم الثانوي (lycée)، ثم تلك التي تليها لولوج جامعة رضا شاه بهلوي. كان معدل النجاح بالنسبة إلى الثانوي يقارب 10 بالمائة، وكان العديد من الطلبة الذين أخفقوا يتوجهون إلى التعليم الديني، مما نتج عنه أن كثيرا من طلبة المدارس الإسلامية كانوا على دراية تامة بالمواد الدراسية المدنية. وهكذا ساهمت الدولة الإيرانية بشكل غير مباشر في ازدهار معاهد التعليم النسائية. نجد في المقابل، أن نظام معاهد التعليم في باكستان أكثر اعتمادا على الدراسات في إيران والعراق فيما يتعلق بالمستوى العالي، على الأقل لدى الساكنة الشيعية (التي تشكل 15 بالمائة من سكان باكستان).

أسس آية الله الخميني أول معهد شامل لتعليم النساء عام 1984، فانتشرت الفكرة عبر أرجاء إيران، ثم وفدت إلى باكستان. بخلاف مدارس الذكور المستقلة عن الدولة الإيرانية، كانت الدولة هي من أنشأ معاهد الإناث. وقد جعل كل من المقرر الجامعي ونظام الائتمان الأكاديمي والطرق الرسمية لقبول الطلبة غير الإيرانيين هذه المعاهد تزداد جاذبية، نظرا لأن مظاهر البيروقراطية والتسيير هذه عززت الصورة "الحداثية" لهذه المؤسسات.

تشارك المتخرجات من معاهد تعليم النساء رسميا في التربية والتبليغ من أجل ترجيح كفة السلطة بين الذكور والإناث في سياقات أسرية. وتخبرنا ساكوراي بأن هذه المعاهد لم تعد قادرة على أن تقبل أكثر من 10 بالمائة من طلبات التسجيل المودعة بها من شدة شعبيتها. إن التعليم بهذه المعاهد يكافئ التعليم العالي المدني في إندونيسيا وغيرها، كما أنه يغري الطلبة الذين يفضلون فضاء لا يختلط فيه الذكور والإناث.

تبين التفاصيل التي تقدمها ساكوراي حول الإدارة والمقرر الجامعي أن معاهد تعليم النساء مكافئة تماما للمؤسسات المدنية من حيث التنظيم والإدارة، كما أن المثال الذي تعطيه حول عمل المتخرجين من هذه المؤسسات في باكستان يبرز انتشار شبكات دينية من الذكور ومن الإناث. فوالد إحدى الطالبات من سكاردو (Skardu) بباكستان مثلا درس في النجف لمدة 14 عاما، ويمثل آيات الله سيستاني وخمائيني (Ayatollahs Sistani and Khamenei)، وقد أسس معاهد للتعليم بسكاردو، حيث تحظى ابنته التي درست في إيران بمكانة رفيعة في أنشطتها التربوية والتبليغية.

من بين النتائج الجانبية المهمة لحركة معاهد تعليم النساء، نجد تشجيع النقاش الصريح حول حقوق النساء في السياق الإسلامي، حتى وإن لم تشكل تهديدا للتراتبية الذكورية، فهناك الآن مجموعة من النساء اللواتي يمتلكن حسّا نقديا وشهادات علمية متقدمة، رغم أنهن لا يُعتبرن بَعْدُ قادرات على إصدار فتاوى شرعية بأنفسهن. وقد احتج مير حسيني (Mir Hosseini) منذ ما يقرب من عقدين من الزمن بأن النساء المتعلمات غالبا ما كن يتخذن أسماء ذكور من أجل المشاركة في النقاشات الدائرة في المجلات الدينية. ويبدو أن هذه الممارسة أصبحت تقود اليوم إلى المشاركة المباشرة. في باكستان، حيث فرص تعليم النساء والرجال أقل من تلك المتوفرة في إيران، تهتم النساء بترسيخ كافة المثل العليا والممارسات الإسلامية، وليس فقط تلك المتعلقة بقضايا النوع الاجتماعي.

لقد حظي الفضاء الديني باعتباره جزءا من الفضاء الاجتماعي باهتمام مستمر عند أديلكاه، وتلفت هذه الأخيرة الانتباه إلى الانتشار المتزايد للفضاءات الدينية. يوثق فصل يمان الأشكال المتنوعة التي يمكن أن تتخذها المدارس الإسلامية، وتركز أديلكاه على الأسلوب الذي تحتضن به هذه المدارس التغيير الديني والاجتماعي، وأحيانا تدعو إليه، معيدة بهذا تعريف دور الدين في المجتمع. أضحت المدارس الإسلامية من أهم مؤسسات التعليم بأفغانستان في فترة ما بعد 2001. وباستعمال عبارة للناقد الأدبي الروسي ميكايل باختين (Mikhail Bakhtin) (1990) في سياقنا، يمكن القول بأن المدارس الإسلامية توفر فضاء لـ "نظر مضاعف". فالأجانب والمحليون يمتزجون فيها، ويرى الغرباء أو يسيئون فهم أنشطتها، كما أنها توفر شبكات لتواصل فكري واسع النطاق.

المدارس الإسلامية الشيعية هي أماكن تستطيع أن تتفاعل فيها مجموعات شديدة التنوع وتناقش مختلف القضايا وتستجيب للإبداع؛ إضافة إلى إعادة تنظيم عملها، حيث يصبح أكثر فعالية، وأخذها بعين الاعتبار لنظرة الآخرين لها. إن المدارس الإسلامية الشيعية عالمية الطابع في إيران وفي أفغانستان، حيث الأواصر متينة مع المدارس الإيرانية. ابتداء من التسعينيات ظهر أمر جديد هو التكيف المتسارع مع الظروف المتغيرة والتوسع النوعي للجماهير التي وجب أخذها بعين الاعتبار. كما تؤكد أديلكاه على الطبيعة "الهجينة" للتعليم الديني والمدني، حيث يمد المفكرون الإسلاميون الأكثر نجاحا جسور التواصل فيما بين العديد من الجماهير.

تؤكد أديلكاه أن الشيء نفسه ينطبق على أفغانستان منذ عام 2001 وأن المدارس الشيعية هناك توفر نموذجا "لـلتحديث الثقافي والاجتماعي والاقتصادي." يتضمن هذا النموذج تعلم اللغة الإنجليزية، واستعمال الحواسيب، والمشاركة في النقاش حول الهويات الوطنية والثقافية مع السنيين كما كان يحصل ذلك في الماضي. وتجدر الإشارة إلى أن معظم الشيعيين الأفغان هم هزارة[5]، بينما أغلب البشتونيين سنيون.

لقد شارك السنيون والشيعيون على حد سواء في مقاومة حكم السوفيات بعد 1979، ثم ظهرت فئة "مقاتلي الجهاد" بحلول الثمانينيات، التي تدنت في ظلها أهمية الهويات الإثنية والطائفية. كانت الهجرة نحو إيران لأجل التكوين الديني سابقا لفائدة الطائفة الشيعية. وقد استفادت معاهد التعليم الأفغانية من تمويل متقطع من طرف الحكومة الإيرانية والخواص. أما مسار هذا التمويل، فتسهله شبكات من العلاقات الشخصية التي بناها علماء قياديون منذ فترة دراستهم خارج أفغانستان. ينحدر طلبة المدارس الإسلامية في معظم الأحيان من أوساط فقيرة، إلا أن الدراسات الدينية غالبا ما تكون بالنسبة إليهم نوعا من الصعود الاجتماعي الذي ييسره توفير هذه المدارس لمنح دراسية دورية، وكذا الإقامة لطلبتها. وقد زاد العديد منهم إلى رصيدهم مؤهلات قيادية، بصفتهم مجاهدين سابقين ضد القوات السوفياتية، بينما سافر البعض الآخر إلى إيران وباكستان وأوروبا. يهيمن النموذج الإيراني للجمعيات الإسلامية والتعليم الإسلامي اللذين صارا بيروقراطيين، ولكن الشيعة الأفغان يحاولون أن يَنْأَوا عن نظرائهم الإيرانيين من ناحية اللغة واللباس واستخدام الإعلام بغية تخفيف حدة الاتهامات بالعداء للأغلبية البشتونية والسنية.

تخلص أديلكاه إلى أن الاعتماد على إيران لا يعني الخضوع لقوة خارجية، فالأقلية الشيعية الأفغانية لها كذلك روابط مع النجف بالعراق ونظرائه بباكستان. تلعب الهجرة بغرض طلب العلم والتجارة – وهما غالبا متداخلان – دورا مهما في تحديد الأدوار المعقدة التي تلعبها المدارس الإسلامية والتعليم الديني. تساهم كل من الشبكات التواصلية التعليمية العابرة للدول والهجرة – وبشكل مطرد – تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في منح الأقلية الشيعية الأفغانية أشكالا تزداد تعقيدا من التمكين والمشاركة في المجالات الدينية والاجتماعية.

تلعب المدارس الإسلامية في بنغلاديش كذلك أدوارا محورية في تعريف ومناقشة معنى أن يكون المرء مسلما. كما جاء في الفصول السابقة من هذا المجلد، المدارس الإسلامية في بنغلاديش متنوعة، فمنها المدعومة من طرف الدولة ومنها المستقلة، وهناك من تتبع التوجه الطائفي ومن تسير وفق التوجه المسلكي. المدارس الإسلامية العالية (Aliya) تدار وتمول غالبا من طرف مجلس التعليم الخاص بالمدارس الإسلامية البنغلاديشية (Bangladesh Madrasa Education Board)، الذي هو جزء من وزارة التعليم. أما المدارس الإسلامية القومية، فذات تمويل خاص، ولعلها حاولت بدورها تنظيم نفسها منذ 1978 لمنافسة المدارس الإسلامية العالية. في بلدية براهمانباريا (Brahmanbaria) التي هي موضوع دراسة كبير (Kabir)، ترتكز المدارس العالية على نظام النقط كما هو الحال بالنسبة إلى معظم المدارس المدنية. أما المدارس القومية، فتعتمد على نظام المواد، وإن كانت المواد بدورها مرتكزة جزئيا على أسلوب التقييم عبر النقط. وهكذا يشكل حفظ القرآن واستظهاره أول مرحلة تعليمية، تتبعها دراسة مواد متقدمة.

منذ الثمانينيات بدأ كذلك إنشاء مدارس للبنات. وهذه المدارس القومية تقدم خدماتها بالمقابل وتوفر للعلماء مصدر رزق. لا يمكن الحسم في عدد الطلبة المسجلين بها، لكن المدارس العالية المنتشرة عبر الوطن تشكل حوالي 27 بالمائة من الإجمالي الوطني للمسجلين، بينما تشكل المدارس المدنية ما تَبَقَّى. وكما هو الحال في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، فإن إحداث تعليم ذي نمط غربي ممول من طرف الدولة لم يحجب تعليم المدارس الإسلامية.

لا زالت المدارس الإسلامية والعلماء المرتبطون بها تلعب أدوارا حيوية في المجال العمومي؛ لا تعترف الدولة سوى جزئيا بالشواهد المحصل عليها من المدارس العالية، ولكن هذه الشواهد أفضل حالا من نظيرتها المحصل عليها من المدارس القومية التي لا تحظى بأي اعتراف من طرف الدولة. بإمكان طلبة المدارس القومية، رغم ذلك الوصول إلى اعتراف المجتمع الذي ينتمون إليه وإنشاء شبكات داخل مجتمعهم وخارجه من أجل كسب رزقهم.

إن مفهوم تدعيم شبكة العلاقات بارز في سياق بنغلاديش وما عداها. وكما بين ستيفان ريكموث (Stefan Reichmuth) بالنسبة إلى سياقات أخرى، فإن تتبع الشبكات الجهوية والدولية الحالية والماضية يبرز انتشار الأفكار والممارسات والهويات. ويذكرنا كبير (Kabir) بأن فهم هذه الشبكات يلقي الضوء على أوجه إحداث العلماء للفضاء الاجتماعي والديني. يمكن أن يؤثر تمويل المدارس الإسلامية كذلك على التقدم الاجتماعي. إن النقاش فيما بين العلماء حول مسائل مذهبية يسهم أيضا في رسم حدود مجالات التسويق وتقوية كل طرف لقاعدته الأساسية. قد يجادل العلماء القوميون بأن التخصصات الحديثة الملقنة بالمدارس العالية تثني الطلبة عن تعليم إسلامي "حقيقي"، بينما قد يجادل أساتذة المدارس العالية بدورهم بأن تزمت المدارس القومية يحافظ على تقليد يحرم الطلبة من الحس النقدي. ويذكرنا هذا الجدل بفكرة الفيلسوف البريطاني والتر غالي (Walter Gallie): "المفاهيم المتنازع عليها جوهريا"، وهي مفاهيم مشحونة بالقيم لدرجة يستحيل معها الاتفاق حول تأويلات بديلة. ورغم ذلك، فإحلال مثل هذه النقاشات بالفضاء العام كفيل بتغييره.

أما فصل شيمبو (Shimbo) وماتسوموتو (Matsumoto) حول التعليم الإسلامي لنساء خوي (Hui) بالصين فيتعقب ارتفاع وانخفاض موضوعه. يقدر أفراد طائفة خوي بـ 9,8 مليون نسمة حسب إحصاء الصين لسنة 2000، وهم يشكلون بذلك ربما نصف الطائفة الصينية المسلمة و0,75 بالمائة من إجمالي سكان الصين؛ وهم طائفة مهمشة على أساس اللغة والديانة والفقر. إضافة إلى هذا، كان مسلمو خوي راغبين عن تعليم بناتهم إلى جانب أولادهم أو تركهن يختلطن مع الذكور في الفضاءات العامة. ولكن في عهد الجمهورية (1912-1949) أثار بعض القادة الدينيين الذكور وقادة طوائف أخرى الانتباه إلى أهمية تعليم البنات، وأسسوا عدة مدارس إسلامية خاصة بالإناث (nüxue). وبعد 1949، عززت الحكومة الشيوعية التعليم العمومي لتكريس إدماج مقاربة النوع على المستوى الوطني، رغم أن التعليم الديني والمدني معا انتهيا بالتوقف خلال الثورة الثقافية لما بين 1966 و1976.

بعد نهاية هذه الفترة، اشتغل قادة خوي جنبا إلى جنب مع الحكومة من أجل جعل التعليم الديني والمدني يتعايشان وإدماج النساء فيه. حتى منظمة اليونسكو قد وفرت التمويل مشيرة إلى أن قادة خوي بإمكانهم استغلال الاهتمام الدولي بقضية المساواة بين الرجال والنساء للاستفادة من مساهمات دولية خاصة. وكنتيجة لذلك، تحول التعليم من مدارس nexüe إلى تعليم الدولة. رغم أن مدارس nexüe أنشئت من طرف القطاع الخاص بغية تعزيز تعليم النساء "دون التضحية بالهوية الدينية"، إلا أن الدولة صرفت رواتب الإداريين والمدرسين، مُطَالِبَةً بتغيير التوجه، أي الانتقال من المواد الإسلامية نحو "الإدماج الوطني والعلمانية" ونحو مقرر صعب يهيئ لاجتياز اختبارات ولوج المدارس الوطنية.

لقد تحول التلكؤ في السماح للنساء بولوج التعليم في أوائل القرن العشرين إلى اتفاق حول المزايا الاقتصادية للتعليم المدني حاليا، حيث صارت المدارس المدنية اختيارا مفضلا والتدريس مهنة ممكنة. لا زالت مدارس nexüe تحصل على الدعم الخصوصي، حتى وإن كانت مهمشة. وقد أصبحت تركز على تعلم اللغة العربية ومحو الأمية عند فئة النساء المسنات. تسعى العديد من أولئك النساء إلى الاشتغال في مهن ترتبط بالدين، بينما تَدْرُسُ بعضهن استعدادا للحج إلى مكة. يتيح تعلم اللغة العربية للبعض الآخر إمكانية العمل كمترجمات في الوقت الذي تُرَسِّخْنَ فيه مؤهلاتهن بصفتهن "مؤمنات بالفكر النسائي الإسلامي"، حيث يلعبن في المجتمع أدوارا أهم، مع تبني القيم الإسلامية في الوقت نفسه.

تتضمن هذه الفصول عدة مواضيع نبرزها فيما يلي؛ أولها أن تعليم المدارس الإسلامية في شتى الأصقاع يظل أمرا مهما، وأن السياسة الوطنية هي التي تشكله، وقد يشكله بدلا من ذلك غياب سياسة وطنية واضحة أو اهتمام بإصلاح التعليم كما هو الحال في باكستان (ويت Witte 2010). الموضوع الثاني هو العولمة المتزايدة لتعليم المدارس الإسلامية، وهي لا تقود إلى انسجام أكبر، بل إلى إمكانية الاستفادة من نماذج مدارس إسلامية ناجحة في مناطق أخرى والسعي إلى مضاهاة تجارب التعليم العمومي التجديدية الأنجح. في ذات الوقت، نجد أن طلبة المدارس الإسلامية ومدرسيهم في اطلاع متزايد على الأفكار البديلة في مجال التعليم وعلى "القيمة التسويقية" لهذه الأفكار، سواء تعلق الأمر بالمكانة الاجتماعية أم بالقيم الإسلامية المشتركة محليا وجهويا. أما الموضوع الثالث، فهو الإسهام الكبير لتعليم المدارس الإسلامية في تشكيل مفاهيم واسعة الانتشار حول ما هو حق وعدل في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء. وقد شهدت هذه المفاهيم رفضا، وتعرضت لدعاوى شديدة التباين.

إن الدور الذي تعلبه المدارس الإسلامية في المجتمع يبقى على قدر كبير من التنوع، فضلا عن كونه يظل متأثرا بالمجتمعات التي تنتمي إليها هذه المدارس. لا زالت المدارس الإسلامية تشكل المعتقدات والممارسات الدينية والاجتماعية والسياسية في كل مكان.


 

[1] Federally Administered Tribal Area.

[2] "اللويا جيرغا" عبارة بشتونية. الجزء الأول يعني "الكبير أو الموسع" والثاني "اجتماع الصلح أو مجلس المصالحة"، أي مجلس المصالحة الموسع. فاللويا جيرغا سنة قبلية وتقليد قديم ضارب الجذور في التاريخ الأفغاني وتحديدا في القبائل البشتونية التي تمتد في انتشارها إلى بعض أجزاء باكستان، حيث يجتمع رؤساء القبائل ووجهاؤها السياسيون والدينيون وسواهم للتشاور في حل مشاكلهم المتعلقة بشؤونهم السياسية والعامة، وتقليديا كان يستمر اجتماعهم إلى حين التوصل إلى قرار يتخذونه بالتفاهم والإجماع، دون تصويت رسمي. (المصدر: شفيق شقير، "اللويا جيرغا ديمقراطية الشعب الأفغاني"، 15/08/2007، Aljazeera.net)

[3] نشأت حركة ديوباندي في الهند على يد مجموعة من علماء بلدة ديوباند وانتشرت في جنوب آسيا وكانت الحركة تتخذ من الفقه الإسلامي حسب المذهب الحنفي محوراً مركزياً لها وتم بناء مدرسة دار علوم ديوباند في القرية عام 1866. (المصدر: إيلاف، هذه هي جذور التشدد في بريطانيا، 05/04/2016، m.elaph.com)

[4] فقيه أو قائد ديني في البلاد الإسلامية، وخاصة الشيعية منها.

[5] الهزارة مجموعة عرقية أقلية من سلالة المغول، تعيش وسط أفغانستان، يتكلمون اللغة الفارسية وينتمون للطائفة الشيعية (شيعة أفغانستان (الهزارة)، موقع السكينة، 23 أبريل 2012، http://www.assakina.com/center/parties/14623.html#ixzz4b8PpzjRL)