المفاهيم وتلغيم المشروع الحضاري: من التّسامح إلى الاعتراف


فئة :  مقالات

المفاهيم وتلغيم المشروع الحضاري: من التّسامح إلى الاعتراف

المفاهيم وجروح التّاريخ:

في قلب المأساة الثّقافية لا يمكن أنْ يقرّ الإنسان إلا بضعفه، وخيبته، وعجزه عن الاندماج والتوحّد مع ذاته أولا، ومع محيطه ثانيا؛ لأنّ داخل المحنة تكثر الأكاذيب والأباطيل والزّيف، ويتحوّل الحدث التّاريخي من بُعده الاعتباري، إلى الأساس الوحيد لاستمرار الأزمة، كما تتحوّل المفاهيم من مدلولات توجيهية نحو المستقبل، إلى قيمٍ توسِّع الهوة بدَل تضييقها. لم نعدْ نفهم إلى أين الوجهة، لأنّ الأفكار المقلوبة، والمفاهيم المسلوبة تبعدنا شيئاً فشيئا عن ملاقاة الذّات، وتشعرنا أكثر فأكثر بالخجل. ذلك الخجل الموصول بالذّاكرة البعيدة للإنسان المسلم، وتلك الذّاكرة المهشّمة والموشومة بجروح التّاريخ معلنة بذلك اقتراب لحظة السّقوط. لحظة الصّدام والتّنافر والانقسام الحادّ مع الذات، ومع الآخر التي يعلنها المسلم اليوم، حينما يريد استبدال ما وصل إليه من القيم الحداثية ببناه الخاصّة، مستمسكا بما تفرضه عليه أوهام الهوية التي لا تتلاءم غالباً مع بُناه الخاصّة على جميع الأصعدة الاجتماعية منها والثقافية والاقتصادية. وهنا يشير داريوش شايغان إلى أنّه في الوقت الذي يشكو فيه هذا الإنسان ضعفه وقصوره على عملية المنافسة، يجد نفسه واقعاً في خديعة العقل، وفي الوقت الذي يرغب فيه أنْ يتجاوز التّاريخ يتحوّل في نهاية التّحليل إلى الدّرجة الدنيا من نتاج إيديولوجي للتّاريخ، وهو ما يسمّيه شايغان بأدلجة التّاريخ[1].

قدَر هذا الإنسان أنْ يحيا وسط التّيه والجروح وانتكاسات الماضي، ظنّاً منه أنّ إيمانه وحده هو لحظة الخلاص، وفرصة التّلاقي مع واقعه وبيئته وأشيائه. لم ينتبه أنّه جزءٌ من تاريخ، وحلقة من سلسلة، وعنوان آخر من عناوين التّيه الكثيرة. الإنسانية كلّها جروح، والحضارة في جزء منها هي تعبيرات مختلفة عن هذه الانكسارات. ولو تنبّه المرء قليلا لبدا له أنّ واقع الحداثة اليوم لم ينشأ من فراغ، بل كانت تغذّيه مجموعة من العوامل ساهمتْ بشكل كبير في تسريع حركة الخروج من الدّين ونشأة مسار العلمنة على حدّ تعبير مارسيل غوشيه، هذا الخروج من الدّين الذي كان يعني بالنّسبة إليه المرور من مجتمع خاضع منظّم بواسطة الدّين إلى مجتمع مستقلّ يستمدّ من ذاته قانونه[2]. لم تخرج أوروبا من هذا النّفق كما سبق الإشارة إلى ذلك إلا من خلال توفّر عوامل ثلاثة لخّصها هاشم صالح في ما يلي: الأول: الاكتشافات البحرية والجغرافية التي قام بها الإسبان والبرتغاليون، والتي أدّت إلى ازدهار الحياة الاقتصادية في أوروبا، الثاني: تطوّر النّزعة الإنسانية humanisme وانتشارها في مختلف أنحاء أوروبا بفضل اختراع آلة الطّباعة، الثالث: الإصلاح الدّيني[3].

في ظلّ هذا الواقع الفكري والثّقافي نشأتْ فكرة الحداثة بوصفها جزءاً من تصوّر هذا العقل الأوروبي ضِمن مخاضٍ عاشت على وقعِه أوروبا عهودا طويلة من الاستعصاء التاريخي، والاستبداد السّياسي، والتسلّط الكهنوتي، الذي مهَّد لعصر التنوير أو الاستنارة. وكان هذا هو المدخل الحقيقيّ نحو الحداثة السّياسية بتجلّياتها الأربعة: العقلانية، الذاتية، السّيطرة الكونية، التوتاليتارية. أو ما قام به ستراوس في تحليله لموجات الحداثة الثلاث: رفض الغائية، توسط التاريخ بين الواقع والمثال، التاريخانية.[4]

تبنّت العديد من التّيارات الدّينية الإسلامية مسألة العنف في الدَّعوة، من أجل التّعبير عن خياراتها الإيديولوجية. ولم يكن العنف فقط مقتصراً على "الغير" المخالف دينياً. بل تجاوزه إلى المخالف طائفياً أو مذهبياً

الجروح لا تعرّي النّواقص فقط، بل تعرّي الذّات كاملة لينتصر النّقد أوّلا وأخيرا. هكذا كان مسار التّاريخ قديما وحديثا، وهكذا كانت جروح الإنسانية جمعاء، تبدأ من المفاهيم وتنتهي إليها، في مسيرة متواصلة عنوانها الأساسي التّأسيس لمركزية الإنسان. اكتسب هذا الإنسان الغربيّ ومعه أيضاً إنساننا هذه النّظرة كما يؤكّد داريوش شايغان، انطلاقا من الصّدمات الكبرى المقلقة التي تعرّض لها. الأولى: حسب فرويد هي الصّدمة الكزمولوجية؛ أيْ تدمير الوهم النّرجسي عند الإنسان. وهكذا تعلّم هذا الأخير أنّ الشّمس لا تدور حول الأرض، وأنّ الأرض لم تعد مركز الكون، بل هي نقطة غبار في هذا الكون اللانهائي. الثّانية: هي الصّدمة البيولوجية التي انتزعت الإنسان هذه المرّة من أحضان أجداده وأنبيائه، وفهِم الإنسان أنّ نسَبَه السُّلالي لا يعود إلى الأنبياء زمن النّبوة، وأنّه تحدَّر من سُلالة القرود الأقرب إلى الإنسان. أمّا الثّالثة: فهي الصّدمة السِّيكولوجية حيث استنتج فرويد أنّ عقله ليس سوى جزيرة معزولة مستقرّة على سطح محيط من القوى اللاّواعية[5].

أمّا عقلنا العربي والإسلامي، فهو امتدادٌ طبيعيٌّ لعقلٍ مصابٍ بفصامٍ نفسيٍّ، وعقدةٌ سببُها هذه الجروح النّرجسية للذّات الإسلامية من جرّاء تفوّق الآخر، وتخلّف الذات التي تعتبر نفسها خير أمّة أخرِجت للنّاس. وهنا يتبيّن لنا بأن مفهوم التّراث لم يُطرح بالحِدّة التي طُرح بها في الثّقافة العربية المعاصرة، إلا تعبيراً عن هذا الجرح: "فهو ردّة فعل ثقافة ذات، اكتشفت على حين غرّة في مواجهة ثقافة الآخر بأنّها بلا ثقافة...وهكذا يكون الجرح الأنثروبولوجي قد اعتمل على مستوى قطيعتين: قطيعة العرب عن حاضر الغرب، وقطيعتهم عن ماضي العرب أنفسهم"[6].

إنّه الخجل الذي يشعر به الإنسان المسلم، وهو يحاول مسايرة ثقافة غربية كشفت عن سوءته، وأحالت حياته إلى جحيم. فالآخرون دوماً هم من يشعروننا بالخزي، وليس ببعيد عن كلّ ما سطّرناه ما تعيشه اليوم المجتمعات العربية والإسلامية من حالة من التّنافر والاقتتال المذهبي والطّائفي، واسترجاع مجموعة من المفاهيم المنتمية إلى سياقاتها التاريخية والمرتبطة بشروط وجودها الذاتية. فكلّ المجموعات والحركات والاتّجاهات الأصولية، التي تعمل اليوم على اكتساح السّاحة الإسلامية، ليست وليدة اللّحظة، أو هي فقط إفراز لواقع سياسيّ شجّعها وموَلَّها، ومدّ لها يد العون على المستوى المادي واللّوجستي، بقدر ما هي ثقافة كامنة لدى شرائح واسعة من العالم العربي والإسلامي، تؤمن بعودة التاريخ، بصفته سمة من سمات المجتمعات التقليدية.

التسامح: المفهوم الملغوم

قد نضطر لأنْ نقنع أنفسنا بأنْ نختار مفاهيم الاعتدال كما يحلو لنا، وقد نضطّر أيضاً أنْ ننظّم المئات من النّدوات والمؤتمرات، ونسوِّق لأنفسنا بأنّنا متسامحون ومعتدلون ومسالمون، غير أنّنا لا نستطيع أنْ نضمن في الأخير مآلات خيّرة لكلّ هذا التّسويق، لسبب بسيط، وهو أنّنا نحيى وسط ثقافة تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ أصالة العنف، والإقصاء والتّرهيب في تراثنا من جهة، ولأنّ هناك تلازما بين مسمّى الدّين والدوغمائية، فلا يمكن أنْ تؤمن بصوابية المنهج، وبخيرية القومية واللّغة، وبأفضلية الجغرافيا والتّاريخ والإنسان، دون أنْ يكون مآل هذه العقليات: "قمع حرية التّفكير بتغليب الأمر على الرّأي، والاشتغال بلغة الإدانة والتّكفير، على سبيل الإقصاء للآخر على المستوى الرمزي أو الجسدي[7]". ليس هذا تجنيّاً أو تهويلاً نهدف من خلاله إلى نسف الخطاب التّسامُحي أو الاعتدالي على أهميّته، أو تزييف للوعي والحقيقة، بقدْر ما هو واقع أسّست له بنيات فكرية وثقافية ودينية، ناهيك عما هو نفسيّ سيكولوجيّ، يعبّر عن ميلٍ طفوليٍّ للإنسان نحو العداونية والعنف. لقد تبنّت العديد من التّيارات الدّينية الإسلامية مسألة العنف في الدَّعوة أو التّغيير، من أجل التّعبير عن خياراتها الإيديولوجية. ولم يكن العنف فقط مقتصراً على "الغير أو الآخر" المخالف دينياً أو عقدياً. بل تجاوزه إلى المخالف طائفياً أو مذهبياً. وفي بعض الأحيان المختلف على مستوى بعض التّقديرات، أو الاجتهادات السِّياسية المرتبطة بظروف معيّنة. حين يصل العنف مداه نعي جيّدا حجم التّأثير الذي بثته هذه البنيات الفكرية الدّينية في المتلقّي، وحجم التأويلات المغرِضة التي تؤوِّل النّصّ الدّيني لخدمة مشروع إيديولوجية سياسية معيّنة، بعناوين مختلفة: "وهنا لا بدّ من الغوص في عمق الماضي للتحقُّق من الكيفية التي تهيّأت بها القراءة الأصولية لكلٍّ من القرآن والسنّة[8]". ولعلّ أوّل انحرافٍ معاصر في التّفسير السّياسي الدّيني، الذي غدّى فكرة العنف، وروّج لها على نطاقٍ واسعٍ ما قام به أبو الأعلى المودودي من خلال كتاباته المختلفة، التي تركتْ صدىً كبيراً في بعض أوساط الإسلام السّياسي، أو الحركات الإسلامية.

يحيلنا مفهوم التّسامح ابتداء على خطأٍ منهجي في التّقدير لدى العقل المسلم، لأنّ التّسامح في هذا السّياق التداولي المعاصر، يعني حالة التّنازل للآخر عن حقٍّ، أو التّساهل معه في خطأٍ قد ارتكبه وفقاً لمقرّرات عقائدنا ومسبقاتنا الدّينية، دون الإقرار بصوابية منهجه العقدي، وبحقّه في المساواة العقدية والدينية. وما دامت الثّقافة التي يصدُر عنها العقل المسلم تؤمن بصوابية المنهج وأحاديته، وإقصائه لكلّ مظاهر الاختلاف والتنوّع، فإنّ النّتيجة الحتمية لذلك هو الصّدام والصّراع كما تجلّى في الواقع التاريخي. وبذلك يكون التّسامح وفقاً لهذا التصوّر هو هدنة بين توترين أو صدامين، لمصلحة مفهوم الاعتراف الذي ينفتح على التعدّدية الثّقافية والدّينية على حدّ تعبير علي حرب[9].

إنّ سياسة اللاّتسامح هي إفرازٌ لواقع يغذّيها نظرياً وسلوكياً، كما أنّها نتيجة طبيعية لواقع يطبعه التعصّب[10]، إذ بين التعصّب واللاّتسامح علاقة جدلية لا تقبل الانفكاك. وقد أشار لوبون لذلك في تحليله عناصر الثّورة الدِّينية خاصّة في شقِّها الإصلاحي، كالثّورة التي قادها مارتن لوثر، فيقول بأنّ أحوال ثورة الإصلاح تشبِه بكثير الثّورة الفرنسية، خاصّة في الجزء النّفسي: "فقد رئي في هاتين الثّورتين أنّ شأن العقل ضئيل في انتشار المعتقد، وأنّ الاضطهادات فاقدة التأّثير، وأنّ تسامح المعتقدات المتباينة مستحيل، وأنّ أشدّ المظالم والملاحم يصدُر عن تصادم العقائد المختلفة، وأنّه يستحيل تبديل عقيدة النّاس قبل تبديل كيانهم"[11]. لمْ يتوقَّف لوبون عند هذا الجزء من التّحليل النّفسي، بل أكّد أنّ انتشار الإصلاح الدِّيني لمْ يكنْ وليد البراهين والعقل، بل تحكّمت فيه عوامل أخرى كالتّوكيد والتّكرار والعدوى النفسية والنّفوذ، وهو الشيء نفسه الذي حدث إبّان الثّورة الفرنسية. فالحقيقة صادمة حسب تحليل غوستاف، فالثّورات الدّينية أو الثّورات القوية كما يسمّيها، تفرز لنا صراع المعتقدات، واستحالة التّسامح. تحت هذا العنوان ينحت لنا الكاتب واقعا مريرا يتجلّى في عدم تسامح المعتقدات القوية "فإذا نظرنا إلى المعتقدات التي شطّرت فرنسا زمنًا طويلًا رأيناها لا تختلف إلّا في الأمور الثّانوية، فالكاثوليكي والپروتستانتي إلههما واحد، ولا يختلفان إلاّ في كيفية عبادته، ولو كان للعقل شأن في صوغ معتقدهما لأراهما أنّ الله لا يبالي بالصّورة التي يعبد عليها"[12].

"إنّ سياسة اللاّتسامح هي إفرازٌ لواقع يغذّيها نظرياً وسلوكياً، كما أنّها نتيجة طبيعية لواقع يطبعه التعصّب"

لماذا لا تتسامح العقائد؟:

يجدر بنا قبل البدء في الإجابة عن هذا التّساؤل، أنْ نرصد جذور الخلاف الإسلامي، والذي ولّد حالة من اللاّتسامح مع المخالف القريب. وإذا وصلنا إلى استحالة إيجاد قواسم مشتركة مع من نتقاسم وإيّاه التّاريخ واللّغة والدِّين، فسيصعب إيجادها مع من نختلف معه على جميع الصّعد الثقافية والبنيات الفكرية. وسنستعين في رصدنا لجذور هذا الخلاف بما ذكره علي حرب في كتابه الإنسان الأدنى[13]، إذ إنّ هناك ثلاث محطّات تختزل مسار التحوّل في التّاريخ الإسلامي:

الخلاف الأول: كان سياسيا، ومثّلته حادثة سقيفة بني ساعدة. وهي المحطّة التي كانت مؤشرا على الصّراع في من يخلف النّبي محمد بعد موته. يتمسّك دعاة الإسلام السّياسي بقضيّة الخلافة بوصفها شكلاً من أشكال الدّولة العادلة، التي يدير مفاصلها إنسان "خليفة" عن الله في هذه الأرض، يقيم شرعه، ويطبّق حدوده، وينشر دينه بين النّاس، بما تقتضيه هذه الخلافة من مواصفات النِّيابة عن الله في الأرض: "فالإنسان وفْق هذه الرّؤية مأمور بسلوك طريق الحق والخير، الذي يرسمه له الشرّع المقدَّس، والحكومة بدورها مأمورة بتنفيذ ما ورد في الشّريعة المقدّسة من أحكام وقوانين، تكفل للإنسان والمجتمع سعادة الدّارين، وتضمن له مسيرته في خطِّ العدل والحقِّ والتقدّم المادّي والمعنويّ."[14].

إنّ هذه الرّؤية السّابقة التي تحدّث عنها أحمد القبانجي في كتابه السّابق، لم تكن تهويلاً، أو استسهالاً لموضوع شغَل التّفكير السّياسي الشّرعي. فالخلافة حسب هذه المعطيات تتجاوز البشري إلى ما هو إلهي، حين يصير الخليفة ناطقاً باسم الله، ومجسِّدا للإله في ممارساته السّياسية، وهي الفكرة نفسها التي أشار إليها مارسيل غوشيه حينما أشار بأنّ المُلْك، وهو يتحدّث بطبيعة الحال عن تاريخ فرنسا: "هو حشْدٌ من الدّين ذو وجهٍ سياسي...فالسّلطة كانت منزَّلة من عند الآخر، كانت تهبط من فوق، وتفرض نفسها من فوق إرادة البشر. وأعادتها الثّورات الحديثة إلى الأرض- الثّورة الإنجليزية، وبعدها الثّورة الأمريكية، ثمّ الثّورة الفرنسية- ووضعتْها على مستوى الإنسان."[15].

الخلاف الثاني: تحوّل الخلاف السّياسي إلى خلاف عقائدي، وبدأ كلّ فريق يبحث عن مبرّرات وجوده واستمراريته بالاستناد إلى الشرعية النصّية من قرآن أو سنّة. يتجلّى هذا المنزع النّرجسي في العقل المسلم في اصطفائيته، حيث يعتقد بأنّ جماعته هي الفرقة النّاجية، وما دونها في النّار، كما تتجلّى في أنّه ينتمي لخير أمّة أخرجت للنّاس، وأنّ سلَفه هم أشرف الخلق بلا منازع، وأنّ النبوّة اختتمت مع الدّين الإسلامي[16]. ولفهم هذه البنيات التي يتحرّك على أساسها العقل النّرجسي الإسلامي نورد حديثاً ظلّ على مدار طويل مثارا للجدل في مضمونه ومقاصده ودواعيه، إذا ما نظرنا إلى حجم الخطورة التي يمكن أنْ تتأسس على متنه، باعتباره مثاراً للاختلاف أيضا من طرف نقّاد الحديث قديما وحديثا: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار". لقد كان الجبران محقّاً لما قال: "لا قُبْح ولا سخرية أكثر من صلاة الفرقة الناجية. سبعون فرقة للنّار وواحدة ناجية. لكَمْ جعلوا الله قاسياً. حتَّى القاضي الدّنيء لا يقبل سبعين سجين وبريء واحد...من يكسب عشيرة يخسر الله. فلا عشيرة لله، إنّه مشاعٌ كما الوجود.إذن كنْ بلا فرقة تكنْ ناجياً"[17].

- الخلاف الثّالث: تحوّل الصّراع العقائدي إلى صراعٍ اجتماعيّ وثقافي، بفعل التّراكمات السّياسية أو من جرّاء التحزّب والطّائفية. ومن جراء هذا التحول الدراماتيكي صار لكل فرقة رموزها وشيوخها وأعلامها وقديسيها، حيث تحولت كل فرقة إلى ديانة خاصة، شكلت عالمها الخاص المنغلق على الذات، والمعزول عن الآخر. وهنا بدأت المأساة حين تحولت العقيدة إلى مصانع لإنتاج ثقافة الكراهية وتغذية العنف والتطرف.

إن مشكلة التّسامح هي أنّها فضيلة الحكمة الحمقاء كما كان يسمِّيها فولتير. فالتّسامح كفضيلة خصوصية لا تكفي كما يؤكّد ريجيس دوبريه، فهي ليست سوى تنازل عفويّ وبالتّالي استنسابي ومؤقّت؛ معنى ذلك أنّها ليست دائمة ولا طويلة الأمد. فالمتسامح ليس سوى ممارسة الحرب بخفاء، أو بطرق ملتوية غير نابعة من الاعتراف بحقّ الآخر في الحياة أو الوجود أو الاعتقاد. فالعاهل مثلا إذا سامح يستطيع أن لا يفعل أيضا. فهنري دي نافار الطّيب الذّكر الذي أوقف الحروب الدّينية بمرسوم التّسامح. قد ألغاه خلَفُه لويس الرابع عشر استنادا إلى الشّرعية ذاتها[18].

وبالعودة إلى السّؤال الذي طرحناه من قبل: حول عدم تسامح العقائد نقول:

- إنّ أيّ دوغما هي مطلقٌ عيني يمكن أنْ يكون أساساً للمجتمع. وبهذا المعنى، فإنّ أيّ نظام اجتماعي يرقى إلى مستوى المطلق، فإنّه يتعصّب ضدّ أيّ اتّجاه ينشد تغيير الوضع القائم بدعوى أنّ الدّوغما تكون في أزمة لحظة نقدها[19].

- الخطاب الذي يصدُر عن عقلية تؤمن بالخيرية والأفضلية الفكرية، أو الدينية أو العنصرية والقومية، لا يمكن أنْ ينتج سوى الصّدام والإقصاء والعنف. ينهج الإسلام السّياسي في مقاربته لشكل الدّولة مقاربة العنف والإخضاع، لكنْ بشكل مطلق، حين يبرّر لإيديولوجيته العُنفية بمبرّرات مطلقة، ممّا يجعل العنف الممارس على النّاس هو عنفٌ مقدَّس، وحروبه التوسّعية جهاداً في سبيل الله وفتوحات إسلامية، والقتل والجريمة هي إرادةٌ ورغبة إلهية بزعمهم. ولعلّ التّاريخ يحبل بنماذج من هذا المسلسل الإجرامي للجنس البشري، والذي يعبِّر كما أكّد كولن ويلسون على "أنّ الدّافع الإجرامي ليس شذوذاً أو جنوحاً لفعل الشرّ أكثر من فعل الخير، بقدْر ما هو مركَّب طفولي، وميلٌ طفوليٌ يدفع إلى الاستسهال والاختصار...ذكر فرويد في أعماله أنّ الطِّفل ممكن أنْ يدمِّر العالم لو أتيحت له القوّة الكافية لذلك. كان فرويد يعني بذلك أنّ الطِّفل ذاتي تماماً، مغلَّف بمشاعره الخاصّة الذّاتية، وبذلك لا يرى، ولا يتفهّم أيَّة وجهة نظر أخرى. والمجرم ليس إلاّ شخصا بالغاً يحيا ويسلك في حياته سلوك الأطفال.".[20]

- الفكر المطلَق يفضي بصاحبه إلى الاشتغال بحراسة الأفكار، ويعني ذلك التعلّق بالفكرة، وتحويلها إلى أقانيم مقدّسة، يصعب تجاوزها، ونماذج يستحيل الانفكاك عنها. وهنا يكمن مقتل الفكرة ذاتها، حين تنقلب إلى ضدّها.

- العقلية التي تعاني من جروح نرجسية دوما تتحجّج بالواقع، وبنظرية المؤامرات التي صنعتها وصدّقتها إلى حدّ التماهي معها، لأنّ النّرجسي يتعامل مع نفسه من أفقٍ اصطفائي نخبوي، فهو القائد، والرّسول، والمبشّر، والحارس للأفكار، والموجّه، والمرشد. وثمن هذه العقلية، وهذا النّمط في التّفكير هو العزلة عن النّاس، والوقوع في أسْر الأفكار، ومخطّطاتها، ومشاريعها.

- غياب النّقد وقراءة الذّات، تفرز استمرارية الإقصاء الدّيني، والتطرّف وأشكال الإرهاب الرّمزي والجسدي. يأبى العقل المنفتح القناعة والتّسليم ويكاد يصيح: "أسألك النجاة من كلّ محدود" على حدّ تجربة غيلان الدمشقي. ربّما لأنَّ القناعة موتٌ اختياري، ودخول في نسق اللاّعودة، أو ربّما لأنّ القناعة هي عيشٌ خارج ذاتك وذوبان في المجموع إلى الحدّ الذي تتطابق فيه الأنا مع ذوات الآخرين. وحده السّؤال من يفصل بين القناعة والبحث. ووحده من يحطّم الأصنام الذّهنية التي تراكمت على العقول بفعل القهر الاجتماعي والثّقافي. وليس مبالغة أنْ نقول وحده السّؤال من يمنح الحياة جدّتها، أو هو الخروج من معاناة الضّيق إلى حيث التوحّد مع الذّات. لن يدرك خطورة الاقتناع والتسليم إلا من تحقّق له شرف الانفتاح، فالقناعة ليست سوى تأجيل السّؤال، والضغط على الذات كي لا تبوح برغبتها في الخروج إلى عالم مفارق للجماعة.

[1]- شايغان، داريوش. أوهام الهوية. ترجمة محمد علي مقلد. بيروت، دار الساقي، 1993، ط1. ص: 113

[2]- انظر غوشيه، مارسيل. (2007). الدين في الديمقراطية مسار العلمنة. ترجمة وتقديم شفيق محسن. مراجعة بسام بركة. (ط1). المنظمة العربية للترجمة.ص: 27

[3]- هاشم، صالح. (2005). مدخل للتنوير الأوروبي. (ط1). بيروت. دار الطليعة. ص: 69

[4]- شايغان، داريوش. المرجع السابق. ص: 117

[5]- المرجع نفسه. ص: 119

[6]- طرابيشي، جورج. هرطقات عن الدّيمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، دار الساقي، ورابطة العقلانيين العرب (2006). ص: 96

[7]- حرب علي، الإرهاب وصناعه: المرشد، الطاغية، المثقف. بيروت: الدار العربية للعلوم، 2015، ط1. ص: 8

[8]- المودب، عبد الوهاب. (2002). أوهام الإسلام السياسي. ترجمة محمد بنيس والمؤلف. (ط1). دار النهار للنشر. بيروت. ص: 13

[9]- حرب، علي. الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2. ص: 106

[10]- التعصب هو التوهم باكتشاف المطلق وما فوق البشري، والإمساك بالحقيقة التي تمنح كل العلم، كل القوة والسلطان والعصمة وكل أشكال التفوق البشري. انظر:

أدندريه هاينال، وميكلوس مولنار، وجيرا ردي بوميج. سيكولوجية التعصب. ترجمة خليل أحمد خليل. دار الساقي، 1990، ط1. ص: 9

[11]- لوبون، غوستاف. روح الثورات والثورة الفرنسية. ترجمة عادل زعيتر. كلمات عربية للترجمة والنشر. ص: 32

[12]- المرجع السابق. ص: 35

[13]- حرب، علي. الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2. ص: 100

[14]- القبانجي. أحمد. الإسلام المدني. ثقافة إسلامية معاصرة (7). ص: 18. ملف pdf.

[15]- غوشيه، مارسيل. (2007). الدين في الديمقراطية مسار العلمنة. ترجمة وتقديم شفيق محسن. مراجعة بسام بركة. (ط1). المنظمة العربية للترجمة. ص: 28

[16]- حرب، علي. الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ط2. ص: 138.

[17]- الجبران، عبد الرزاق. جمهورية الله: سماء وجودية.pdf، ص: 250.

[18]- ريجيس، دوبريه. المفكِّر في مواجهة القبائل. ترجمة غازي برو. بيروت، دار الفارابي، 2015، ط1. ص: 36

[19]- لوك، جون. رسالة في التسامح. ترجمة منى ابو سنة، تقديم مراد وهبة. المجلس الأعلى للثقافة، 1997، ط1. ص: 10

[20]- ولسون، كولن. (2001). التاريخ الإجرامي للجنس البشري (1): سيكولوجية العنف. ترجمة رفعت السيد علي. (ط1). جماعة حور الثقافية. ص: 10