تسعة تصورات عن الزمن: السَّفر عبْر الزمن بين الحقيقة والخيال
فئة : قراءات في كتب
تسعة تصورات عن الزمن: السَّفر عبْر الزمن بين الحقيقة والخيال
جون جريبين
ترجمة عبد الفتاح عبد الله
مراجعة شيماء طه الريدي
الكتاب وفكرة الزمن
عندما نتحدث عن الزمن يتبادر إلى الذهن مختلف الوقائع والأحداث في الماضي. أما الحاضر، فهو سريع التحول والتقدم ولا يقبل الثبات، ويتمدد في اتجاه المستقبل الذي تبتلعه عجلة الحاضر وتلقي به إلى الوراء. السؤال هنا ما هي طبيعة تقدم الزمن؟ مع العلم أن الزمن يستعصي على الإمساك والإحاطة به من كل جانب؛ فنحن نحس به أو نقيسه أو نقوم بتخمينه، وهو يختلف باختلاف وجهة النظر التي ننظر بها، حيث يمكننا الحديث عن زمن نفسي أو زمن فيزيائي أو زمن تخيلي. فالتعاطي مع الزمن يختلف من فرد إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى، مثلا يمكن للفرد وهو في سنّ السبعين من عمره أن يعود عن طريق الخيال في أقل من ثانية إلى مختلف ذكريات الطفولة كأنها مرت معه لوقت قليل، لكن في الزمن التاريخي المرتبط بالشخص، يمكن قياس الفترة الفاصلة بين عمره الذي هو عليه، وزمن طفولته الذي وقعت فيها مختلف تلك الأحداث التي عاشها؛ أي إن الزمن منعدم من جهة الخيال والاسترجاع النفسي، وحاضر من جهة التاريخ، فالتعاطي مع الزمن من زاوية الخيال وكل ما هو نفسي وعاطفي، بمعزل عما هو تاريخي، سيؤدي بنا إلى حالة تداخل الأزمنة، وهي مشكلة الكثير من الناس الذين يعيشون حاضرهم، وهم مشبعون بمختلف حمولة ماضي أعمارهم. هذه المشكلة لا تتعلق بالفرد الواحد، بل تصدق على المجتمعات والثقافات، فهناك فرق بين الثقافات التي تعيش الحاضر بخلفية توازن بين الزمن في بعده التاريخي، والزمن في بعده النفسي والوجداني الذي يراهن على الخيال. والحقيقة أن الإنسان لا يمكن أن يعيش حياته بمعزل عن الذاكرة؛ أي ماضي الأحداث والوقائع؛ لأن الجزء الكبير من كينونة الإنسان يعود إلى الذاكرة، "الثقافة"، لكن المشكلة عندما تسكنه الذاكرة والماضي بمعزل عن الوعي بفلسفة الزمن والتاريخ.
السؤال هنا هل للزمن اتجاه؟ "الزمان نقطة مفردة مستقلة ومطلقة لا بداية لها ولا نهاية، كما يرى المتصوفة، في حين أن الزمان المفتوح بلا بداية وبلا نهاية هو الزمان العلمي، أو - على وجه الدقة - الزمان الفيزيائي. والزمان المتفرع له دوره في علم التاريخ وفي أنساق فلسفية محددة. أما الزمان الدائري، فقد ساد الفلسفة القديمة؛ إذ كانت الروح اليونانية تنظر إلى الأشياء على أنها لا بد أن تكون متناهية؛ أي: تامة في ذاتها ومقفلة على نفسها. ففي هذا يتحقق الكمال، وتبعًا لهذا أتت بنظرتها للكون؛ فهي تريد أن تتصوره مقفلًا على نفسه. ومن ثم كان الزمان في نظرهم، دائرة مغلقة على نفسها، خصوصًا وأنهم أدركوه من حركة الكواكب التي بدت دائرية، وفي النهاية تمسك اليونان "بفكرة الزمان الدائري الذي تتكرر فيه الأحداث وتتم بشكل دورات متعاقبة، وكان من أثر ذلك قول الإغريق بفكرة العود الأبدي التي وُجِدَتْ لدى البابليين، وهيراقيلطس، وأنبادوقليس، والرواقيين. وقالوا بالسنة الكبرى أو الاحتراق الكلي"[1]
موضوعات الكتاب
جاءت فصول الكتاب معنونة بعناوين تصورات الزمن، وهي كالتالي: التصور الأول: الزمان والمكان مكوِّنان لنسيجٍ زمكاني مرن/ التصور الثاني: سهم الزمان يشير، لكنه لا يتحرَّك/ التصور الثالث: أسرع من الضوء تعني العودة بالزمن/ التصور الرابع: يمكن للضوء أن يسافر بسرعةٍ تفوق سرعة الضوء/ التصور الخامس: الأسطوانات الدوَّارة وإمكانية انتهاك السببية العالمية/ التصور السادس: الأنفاق الزمنية للمبتدئين/ التصور السابع: كل شيء سيُوجَد موجودٌ بالفعل/ التصور الثامن: السفر جانبيًّا عبر الزمن/ التصور التاسع: كيف تتلاعب بالمفارقات
تعدد التصورات عن الزمن
لسنا هنا بصدد عرض كل التصورات التي جاء الكاتب على ذكرها، بقدر ما سنقترب من الإطار المعرفي الذي وضع فيه المؤلف تلك التصورات؛ فالكتاب يضم تسع مقاربات عن تصور الزمن، وهي تصورات تستحضر أثر الذكاء الاصطناعي، وعلوم الفضاء، والمركبات التي تدور حول الأرض في تصور الزمن...
فموضوع الزمن اليوم كتصور، خرج عن مختلف التصورات القديمة وارتبط بعالم التجارب العلمية وانعكاساتها على الحياة اليومية. "فالأقمار الصناعية لأنظمة التموضع العالمي (GPS) التي تنتج الإشارات المستخدَمة في أنظمة الملاحة بالأقمار الصناعية (ساتناف) والهواتف الذكية تخبرنا بموقعنا بالتحديد على سطح الأرض تدور في مدارٍ أعلى بقليل من الارتفاع الذي وصل إليه مسبار الجاذبية. وتدور هذه الأقمار أيضًا بسرعة بالنسبة إلى سطح الأرض. ولو لم يُراعَ تأثيرَا تمدُّد الزمن، فسينشأ فارقٌ بين وقت تلك الأقمار ووقتنا، يصل إلى نحو 38 ميكروثانية في اليوم، الأمر الذي سينتج عنه أخطاءٌ في قياسات تحديد الموقع بزيادة تصل إلى 10 كيلومترات كلَّ يوم. لذا، فإن أنظمة تحديد المواقع تقوم فعلًا بعملِ تصحيحات لهذه التأثيرات. فحين تسأل هاتفك الذكي عن موقعك، وتأتي الإجابة في حدود أمتار قليلة، فإنه بذلك يستخدم النظرية العامة للنسبية ويراعي تأثيرَيْ تمدُّد الزمن ليعطيك الإجابة. إن نسيج الزمكان مرن حقًّا. وتمدُّد الزمن حقيقي. والمعدَّل الذي ننتقل به من الماضي إلى المستقبل يعتمد على شكل الزمكان في محيطنا. لكن كيف لنا أن نعرف الفارق بين الماضي والمستقبل؟ لماذا يتحرَّك الوقت في اتجاه واحد فقط؟"[2] وهي أسئلة العصر اليوم
السؤال هنا هل الزمن حقيقة أم هو غير موجود؟ إذ يذهب بعض العلماء (والفلاسفة) إلى أن انطباعنا عن مرور الزمن قد لا يكون أكثرَ من مجرد وهم. قد يكون الأمر كما لو أن عقولنا تفحص أحداثَ تاريخنا الشخصي، كما يحدث حين يتم تشغيل الفيلم عبر جهاز عرض ويعرض على شاشة. قد يكون الواقع الأساسي الكامن وراء تلك الأحداث لا يزال موجودًا - في كلٍّ من الماضي والمستقبل كليهما - كالأطر المنفصلة لشريط الفيلم، رغم أن انتباهنا مجبرٌ على تتبُّع القصة بالتسلسل، بالانتقال من إطار إلى آخر في الفيلم في المرة الواحدة. وسواء أكانت هذه الأفكار - التي أتناولها بالنقاش في التصور السابع - حقيقية أم لا (وهي مسألة خلافية للغاية)، يظل صحيحًا أن ثمَّة اختلافًا بين الماضي والمستقبل، يمكن تمثيله بسهمٍ يشير من الماضي إلى اتجاه المستقبل. ومن ثَم لا يزال من المنطقي التحدُّث عن السفر إلى الماضي أو المستقبل. لكن السؤال هو، كيف نفعل ذلك؟[3]
يضعنا المؤلف أمام إشكالية مفادها هل للزمن سرعة محددة؟ لا شك بأن العالم متفق على أن الثانية هي وحدة لقياس الزمن، فالوقت هو تقسيمات محددة للزمن التي نستخدمها في حياتنا اليومية مثل الساعات والايام والشهور والسنوات، في حين أن الزمن هو السياق الأوسع الذي يحدث فيه كل شيء بما فيه الوقت نفسه، لكن "كلُّ ما تحتاج إلى فهمه من هذا هو أن المسافة المكافئة لأي فترةٍ زمنية هي تلك الفترة الزمنية «مضروبة في سرعة الضوء». وسرعة الضوء (بأرقام تقريبية) تساوي 300 ألف كيلو متر/ثانية. إذا كان بإمكانك تدوير المتسلسلة الزمكانية الرباعية الأبعاد والسير عبر اتجاه الزمن نحو الماضي، فسيكون عليك السير مسافة 300 ألف كيلومتر من أجل العودة بالزمن ثانية واحدة. قد لا يؤدي هذا إلى الاستبعاد التام لاحتمالية حدوث شيء كهذا، لكنه يشير بالفعل إلى أن هذا النوع من السفر عبر الزمن ليس بالسهولة التي يتخيَّلها كتَّاب القصص. لكننا لم نفقد كلَّ أملٍ لنا في ذلك. فالمشكلة تشير بالفعل إلى حلٍّ آخرَ للغز السفر عبر الزمن. إن كان بإمكانك السفر أسرع من الضوء، فلن يتطلب الأمر وقتًا طويلًا كي تعود إلى الدرب متجهًا نحو الماضي. لكن السرعات الأعلى من سرعة الضوء محظورة طبقًا لنظرية النسبية، أليس كذلك؟ ليست محظورة تمامًا، وهذا يفتح أمامنا المجال، إن لم يكن للسفر جسديًّا عبر الزمن، فللتواصل مع المستقبل (أو منه)."[4]
الزمن إذن متعدد الأبعاد والوجوه والمعالم، فالزمن من زاوية المعرفة الحديثة والتكنولوجيا، ليس هو الزمن من جهة المعرفة التاريخية والحضارية، وليس هو الزمن من جهة تصور الفلاسفة... بمعنى الزمن منفلت ولا يمكن القبض عليه.
[1] يمنى طريف الخولي، الزمان في الفلسفة والعلم، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2014م، فصل: متاهات إشكاليَّة الزمان (بتصرف)
[2] جون جريبين، تسعة تصورات عن الزمن: السَّفر عبْر الزمن بين الحقيقة والخيال، ترجمة عبد الفتاح عبد الله مراجعة شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2014م الفصل الأول من الكتاب
[3] نفسه، الفصل الثاني.
[4] نفسه، الفصل الثالث






