فنيس بولس: أبعاد الثّورة الثقافيّة المنشودة: المرأة في قلب الحدث


فئة :  حوارات

فنيس بولس: أبعاد الثّورة الثقافيّة المنشودة: المرأة في قلب الحدث

يوسف هريمة: بداية؛ كيف يمكن أن تقدّم الدكتورة فنيس نفسها لقرّاء موقع "مؤمنون بلا حدود"، وكيف تقوِّم وضع المرأة الحالي بالنّسبة إلى مجتمعاتنا المعاصرة؟

دة. فنيس بولس: اسمي فنيس نيقولا بولس

- حاصلة على ليسانس حقوق 1975، عملت باحثة قانونية في الجهاز المركزيّ للتّنظيم والإدارة.

- حصلت على بكالوريوس لاهوت 1995، وبعدها التحقت بالعمل في دار الثّقافة للنّشر - الهيئة القبطيّة الإنجيليّة.

- حصلت على دكتوراة في اللّاهوت العملي عام 2006، من كليّة لاهوت - سان فرانسيسكو - الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وكان موضوعها: "Christian Literature in the First Twentieth Century"

- حصلت على دبلوم ترجمة من الجامعة الأمريكيّة - القاهرة عام 2008.

أعمل مترجمة ومحرّرة غير متفرّغة بدار الثّقافة، ومحاضرة في كليّة اللّاهوت الإنجيليّة - غير متفرّغة،

وأنا كاتبة، أحدث إصداراتي:

- تاريخ الكنيسة الإنجيليّة في مصر - البدايات - التّفاعل - التطوّر.

- قضيتك يا سيدتي مسؤوليّة مَن؛ المرأة أم الرّجل أم المجتمع؟.

- نظرة الكفارة بين النّظرية والتّطبيق.

- الكنيسة ومنظومة القيم - تنوير - لاهوت - حراك اجتماعيّ.

- حقوق النّبي الحائر.

- لي بعض مقالات في جريدة القاهرة الصّادرة عن وزارة الثقافة - مصر.

دافعي للكتابة وللعمل في آن واحد؛ هو اعتقادي بأهميّة الإسهام بدور تنويريّ في مجتمعي، واعتقادي بأنّ الفكر الدينيّ ما زال أحد المداخل المؤثّرة لإيصال فكر جديد، طالما أنّ التجمّع الذي يكاد يكون وحيدًا في بلادنا هو الذي يقوم في دور العبادة، كما أنّ الصّوت المسموع - حتى الآن - هو صوت القائمين على أمور الدّين، خاصّة، بعد أن استغرق تفكيري البحثُ عن إجابة لسؤال: لماذا تنتكس التّجربة التنويريّة في مصر خاصّة، والعالم العربيّ عامّة؟ وفي اعتقادي، أنّ الإجابة - بشكل جزئيّ على الأقل - تكمن في مدى اهتمام محمد علي - وقد تشترك معه التجربة الناصرية بعد ثورة يوليو 1925 - في نفس النّتيجة، ببناء شخصيّة الإنسان المصريّ كهدف محدّد، يسعى من خلاله إلى إعداد المصريّ للوعي بوجوده وكيانه وحقوقه فيبحث عنها، وواجباته فيهتمّ بتأديتها، وما يترتّب على هذا من تنمية مستدامة، وتماسك اجتماعيّ، ووعي طبقيّ، ومن هنا؛ كان يمكن أن يكون فاعلًا في خبرة التّنوير، بالتّالي، لا يسمح لها بالانتكاسات.

أمّا عن وضع المرأة الحالي في مجتمعاتنا المعاصرة؛ ففي اعتقادي أنّ من الصعب فصل قضية مجتمعيّة ما عن ظروف المجتمع ككلّ، بمعنى أنّه توجد عوامل تلعب أدوارها في وسط أيّة جماعة، مجتمع تتفاعل فيه كلّ العوامل معًا، مثل: الاقتصاد، والسّياسة، والثّقافة بمعناها الواسع، والموروث، والدّين، وهي عوامل تؤثّر وتتأثّر في آنٍ واحدٍ، لذلك؛ فعندما فكّرت في الكتابة عن قضيّة المرأة، كان عنوان الكتاب" قضيّتك يا سيّدتي مسؤولية من؛ المرأة أم الرّجل أم المجتمع؟ وباختصار؛ أرى أنّ وضع المرأة في الوقت المعاصر يدور في نفس فلك مجتمعاتنا المعاصرة، سلبًا وإيجابًا، وهو ما قد يتّضح في بقيّة الحوار منعًا للتكرار.

يوسف هريمة: تحدّث قاسم أمين في أواخر القرن التاسع عشر عن تحرير المرأة، ولا تزال المرأة في القرن الواحد والعشرين تطالب بتحريرٍ آخر. لماذا أخفق عصر النّهضة في تحرير المرأة في نظركم، ولماذا ما زالت النّكسة الثقافيّة تلاحقنا إلى حدّ الآن؟

دة. فنيس بولس: هذا سؤال ذكي، يسأله إنسان يعي ظروف مجتمعنا جيّدًا، فتساؤلك عن قضيّة المرأة الذي تلحقه بتساؤل عن النّكسة الثقافيّة، ينقلنا مباشرة إلى مناقشة قضيّة متكاملة الأطراف: لكن، دعنا نعود إلى الوراء بعض الشيء؛ سقط المجتمع الأموميّ في عصور متأخّرة، ثمّ في عصر ازدهار الفلسفة اليونانيّة، حوالي القرن الرابع قبل الميلاد، كان أفلاطون يصنِّف المرأة مع الأطفال والأشرار والمخبولين من الرّجال أو مع الحيوانات والقطعان ويشجع الأزواج لاحتقار الزوجات - هذا إذا كان لابد من الزواج فعنده أن الزواج معطل للمجتمع - وأرسطو حاول أن يضع نظرية فلسفية يثبت بها تدنِّي وضع المرأة.

وأما روسّو فقد واصل الأخذ بالتراث الغربي رغم إنه يخالف رؤيته في الأخلاق والنظرية الاجتماعية، فالمرأة عند روسو مجرّد موضوع جنسيّ للرّجل، وفي كتاباته يضع خطّة للتّربية الأخلاقيّة للنّساء، مخالفة تمامًا لما رآه مناسبًا للتّربية الأخلاقيّة للرّجال، وما جاء في كتابه "العقد الاجتماعيّ" من إيمانه بأنّ الإنسان وُلد حرًّا؛ فهو يتوجّه بخطابه إلى الرّجل دون المرأة.

وحتّى منتصف القرن التّاسع عشر لا زلنا في مجال بحث المرأة عن حريّتها، إلى أن ظهر جون ستيوارت ميل، ومعه جماعات متعدّدة من المفكّرين منهم (بنتام)، ثمّ انتقلت القضيّة لخطوة أعلى من الحريّة، إلى المساواة بين الجنسين، ومدى تحقيق أكبر قدر من السّعادة لأكبر عدد من النّاس، وهو هدف لا يمكن تحقيقه دون تقدّم عقليّ وأخلاقي للجنس البشريّ كلّه؛ لذا دعا ميل إلى دحض الزّعم القائل: (إنّ النّساء أدنى بالفطرة)، ودعا إلى التخلُّص من معاملة النّساء الغير المتساوية مع الرّجال، حتّى يسود الرّخاء في العالم للجميع. لاحظ الدّائرة الواسعة التي تدور فيها القضيّة عند ميل؛ فهو لا يقتصر على الإلحاح على فكّ قيود المرأة، فتشعر أنّه يعي أهميّة اشتماليّة المجتمع كلّه؛ أهدافه ورغباته، وكيفيّة تحقيقها، وما يصلح له ككلّ.

تظهر - هنا - أهميّة الانتقال من مجرّد مطلب الحريّة إلى خطوة أوسع هي المساواة، فبعد أن كانت قضيّة تحرير المرأة بنفس منظور وأبعاد تحرير العبيد، صارت المساواة بين الجنسين، ثمّ في خطوة تالية، وبعد خروج المرأة للتّعليم، واشتراكها في الخبرات العمليّة؛ بدأ الحديث عن تكافؤ الفرص، إلّا أنّ تكافؤ الفرص يحتاج بدوره إلى ما يُطلق عليه (Empowerment)، الذي يُترجَم بالعربيّة (تمكين)، وبدايةً؛ لا يُقصد من التمكين (التحكُّم)، كما يحاول البعض مقاومة رفض فكرة التمكين عن طريق الإساءة إلى سمعة الفكرة؛ بل المقصود به استقرار الحقوق - وأيضًا الواجبات - فلا تصير محلّ مناقشة من وقت لآخر، بالتّالي، أخذٌ وردّ، وصعودٌ وهبوطُ، تبعًا لمؤثّرات المجتمع وظروفه، وهو ما يجري - حتى الآن - في المجتمع المصريّ، خاصّة أنّ الفكر الدينيّ يلعب دورًا ملحوظًا في هذا المجال؛ فالتمكين هو توفير الضّمانات لتكافؤ الفرص، حتّى لا تكون حبرًا على ورق، ومن هذه الضّمانات: استصدار القوانين اللّازمة لضمان الحقوق، لتتحوّل من مكتسبة إلى أصيلة، وأيضًا، تعزيز ثقافة المساواة وتكافؤ الفرص، كما قلت: إنّ تاريخ الاهتمام بقضيّة المرأة يرجع إلى تاريخ قصير نسبيًّا؛ فهي ليست قضيّة ميؤوس من تحقيق نتائج إيجابيّة بخصوصها، فلم يتوجّه الاهتمام إليها قبل قرن من الزّمان، وما زالت المحاولات مستمرّة، فالاهتمام بعدم المساواة النوعيّة بدأ منذ أواخر القرن الثّامن عشر؛ حيث تطوّر من مجرّد محاولات لتغيير الصّيغ القانونيّة إلى جهود ممتدّة في كلّ مجالات الحياة.

يوسف هريمة: يُرجع الكثير من الباحثين النّظرة الدونيّة للمرأة إلى الثّقافات الدينيّة تحديدًا؛ ففي ضوئها تكرّست ذكوريّة الرّجل، واغتُصبت كلّ الحقوق. هل هذا الرّأي يعكس بواقعًا موضوعيًّا بالفعل؟ أم إنّ الواقع الفعليّ يؤكّد صون الكرامة الإنسانيّة بما فيها كرامة الأنثى؟

دة. فنيس بولس: يقول جوستاف لانسون - صاحب المنهج التاريخيّ - المدرسة الفرنسيّة[1]: إن لم نتنبَّه إلى تاريخ النّصوص (بما فيها النصّ الدينيّ في رأيي الشخصيّ) وارتباطه بحادث معيَّن، أو بمرحلة فكريّة معينَّة؛ فإننا سنصدر أحكامًا خاطئة لا تطابق الحقيقة، فالأثر الأدبيّ لا يظهر من عدم، فهو ثمرة لاستجابة لظروف معيّنة، ومن أهمّ ما يرد في نظرية لانسون؛ التّأثير التاريخيّ للنصّ - أي تأثيره في حياة الجماعة التي كُتب النصّ بينها؛ إذ يكون سببًا في إحداث تطوّرات فكريّة أو اجتماعيّة عميقة.

كما يرى اللّاهوتي اللبنانيّ كوستي بندلي أنّه يوجد وجه إلهيّ ووجه حضاريّ في كلام يسوع والرّسل[2]، والوجه الإلهيّ في كلام يسوع والرّسل لا يظهر في مجرّد تجاوز الترتيب الحضاريّ بشكل واضح ومباشر؛ بل التّغلغل فيه، وإعطائه معنى جديدًا ونكهة جديدة، يحوِّلانه - بنفحة إلهيّة - تحرِّكه وسط عتمة الأطر الحضاريّة؛ بل والتغلغل فيه، فكلامهم يأتي مثل فعل الخميرة الإنجيليّة التي تتزايد مع تزايد انتشارها في العجين، فمفاهيم عدم التّسلُّط والانتقاص من مكانة المرأة تحوُّل أدخله يسوع وبولس على الترتيب الحضاريّ، ويمثِّل توتّرًا قائمًا بين جِدَّة تعليم يسوع المسيح والرّسول بولس من جهة، وعتاقة الأطر الحضاريّة من جهة أخرى، وهي - كما يقول كوستي بندلي - حركة لا تزال محدودة في إنجازاتها في مجتمعاتنا حتى الآن، مقارنة بنسبة التحوُّل الذي أجراه يسوع وبولس في مجتمعهما، ولكن لي وقفة هنا، قبل أن يُفهم أن الكلام دفاع أحاديّ الجانب عن خطّ دينيّ ما، فهذا الكلام لن آخذه على إطلاقه؛ بل سأفنّده.

ولإيضاح كلام بندلي؛ فإنّه "بالغوص" في الظّروف الأسريّة التي كانت تواكب كتابة الرّسائل والأناجيل؛ فسنجد أنّه يندر، بل ينعدم، أن توجد الحياة الأسريّة كما نفهمها اليوم (أسرة نوويّة؛ أي زوج وزوجة وأولاد تحيا في إطار قيميّ معيّن)؛ بل قل إنّ بولس كان يضع مخطّطًا للنّظام الأسريّ لم يكن معروفًا في المجتمع، وفي ظلّ ثقافة سائدة تنقص من مكانة المرأة (بالتّالي الأولاد)، إلى حدّ تحويلها إلى مفردة من مفردات ممتلكات الرّجل، (فما زال الفكر الأفلاطونيّ ينظّم الحياة الاجتماعيّة وقت كتابة بولس لرسائله)، فتعاليم الإنجيل في هذا الشّأن كان (صدمة) للرّجال الذين يعلمهم يسوع بتقييد حقّهم في الطّلاق، ويقبل جلوس النّساء في مجلسه وفي مسيرته، ثمّ يوصيهم الرّسول بحبّ زوجاتهم وعدم إغاظة أولادهم؟ يا للعار، إنّها صدمة مدمّرة للرّجل أن يُعلن حبّه لزوجته، وأن يكفّ عن إغاظة أولاده، سواء بالإهانة أو الضّغط أو الإهمال، في عصر كان الرّجال يفتخرون فيه بعدم الاهتمام بالشّؤون الأسريّة.

وهناك مثال آخر يوضّح ما أقصده فيما قرّره بولس الرّسول من أسلوب جديد لتعامل السّادة والعبيد؛ فقد أوصى السّادة بأن يعاملوهم كإخوة، ولعلّ السّادة قد أصابتهم صدمة لا تُقدَّر من كلام بولس الرّسول، وكيف لا، فالعبد يعدّ ملكًا للسيّد يمكنه بيعه، بل قتله، دون محاسبة، طبقًا للعرف السّائد في ذلك الوقت؟ لكن قد يسأل سائل: لماذا لم يقرّر الرّسول بولس اجتثاث العبوديّة من جذورها بإلغائها بأمر رسوليّ؟ والجواب بسيط: حتّى لا ينهار النظام الاقتصاديّ للمجتمع الذي كان يعتمد على عمالة العبيد في مجالات عديدة.

وهنا، نعود لفكرة الخميرة؛ بل إن السّؤال، بالعودة لنظريّة لانسون في التّفسير التاريخيّ؛ هل تستطيع كنيسة اليوم أن تجري تغييرًا بنفس مقاييس التّغيير التي أجراها بولس الرّسول في مجتمعه، ومن قبله يسوع المسيح الذي سمح للمرأة ما لا تسمح به بعض المجتمعات المعاصرة؟ والعجيب في الأمر أنّ ما لا تسمح به تجد مرجعيّة له في الفكر الدينيّ ذاته!

يوسف هريمة: هناك، في النّظام العالميّ الجديد، تمركز واضح على الأنثى، كما يسمّيها عبد الوهاب المسيري. ما هي دوافع هذا التّمركز؟ ولماذا صارت الأنثى محطّ تجاذبات سياسيّة، بينما لا يهمّ البعض منها إلّا أن تكون أداة للاستهلاك والمتعة.

دة. فنيس بولس: أي أنّ المرأة بين المطرقة والسّندان؛ محطّ تجاذبات سياسيّة من ناحية، وأداة استهلاك ومتعة من ناحية أخرى، مثلها مثل أغلب قضايا المجتمع التي تقع بين المطرقة والسندان، فكما قلت أنت في سؤالك؛ هناك تمركز واضح على الأنثى، لكن ما القصد من التمركز؟ بل من الذي يمارس ذلك التمركز؟ وإن كنت فهمتُ سؤالك بشكل صحيح؛ فأعتقد أنّك تقصد التّساؤل عن المسار الذي تسير فيه قضيّة المرأة الآن، بين ما يبدو أنّه اهتمام ببحث القضيّة إلى النّقيض بكونها أداة استهلاك ومتعة.

في اعتقادي، وبحسب خبرتي في التّعامل مع (ما القصد ومن الذي يمارس التمركز؟) أرى أنّ الحركات والجمعيّات النسائيّة في مصر تحتاج إلى أن تستوعب قضيّة المرأة (المصريّة)، وليست المرأة في سنّ من المواقع، كي تكون فعّالة في أدائها، إضافة إلى أن تلك الكيانات إمّا تعمل من خلال أجندة غربيّة (وأقصد بالأجندة؛ احتواءها على بنود تناسب الثقافة الغربيّة، وتأخذه المنظمات العربية صورة طبق الأصل)، أو توجّهات سياسيّة، أو مجرّد عمل لكسب العيش، فما معنى أن تهدف المرأة - مثلًا - إلى تركيز عملها على بطاقات انتخابيّة للمرأة التي يطلقون عليها "العمالة غير الرّسمية"، من باب الشّياكة، على خادمات المنازل، أو الحقل، أو البائعات الجائلات، دون التّساؤل عن نسبة الرّجال الذين لديهم بطاقات انتخابيّة، أو حتّى دون التّساؤل عن نسبة مشاركة المرأة في التّصويت في المجتمعات الغربيّة؟ وما معنى أن لا تدرك تلك الجهات أنّ المساواة - الآن - استهلكت في استخدامات عديدة، إن لم تكن قد أصبحت عبئًا، إن صحّ التّعبير، وعلينا الانتقال إلى ما بعدها من مراحل؟ فعلى سبيل المثال؛ تساوت المرأة في الحقّ في التّعليم، وتساوت في الحقوق السياسيّة، لكنّ السّؤال: وماذا بعد؟ دعك من المجتمع المدنيّ الذي يحتاج - بدوره - إلى تشجيع ليؤدّي الدور المطلوب منه، بدايةً من اقتناع المجتمع به، ومرورًا بتمويله وتنظيمه، وانتهاءً بالجديّة في الأداء، وهنا - في اعتقادي - تثور إشكاليّة تتعلّق بالمجتمع المدنيّ نفسه، ومدى قوّة تأثيره وفاعليّته، هذا عن (التّجاذبات).

أمّا عن الاستهلاك والمتعة؛ فهذا - في اعتقادي - تحصيل حاصل للآثار الاقتصاديّة والثقافيّة والدينيّة، وسأبدأ بالدينيّة؛ فإن كانت المرأة قد وقعت تحت قبضة الثقافة الذكوريّة باسم الدّين، لتؤمر في كلّ تفاصيل حياتها بعمل ما يرضي (الذكر) باسم الدّين، فقد هانت - هي نفسها ككائن - ولا عجب أن تصير شيئًا، وليست إنسانًا، خذ مثلًا؛ قضيّة ميراث المرأة: فبرغم أنّ أنصبة الإرث واردة في القرآن الكريم في نصوص قطعيّة الثبوت، ومنها تحديد أنصبة ميراث المرأة (بغضّ النظر عن توزيع النّصبة بين الرّجل والمرأة)؛ فإنّ المرأة - في أغلب الحالات - لا تحصل على نصيبها الشرعيّ، إن لم تكن تُحرم، تمامًا، من أيّة نسبة في الميراث - خاصّة في صعيد مصر - ومع ذلك، لم نشهد مِن المدافعين عن ضرورة تطبيق الشّرع مَن ينادي بتصحيح ذلك الوضع؛ فهل لهذا مبرِّر سوى إحكام قبضة الثقافة الذكوريّة التي تغاضت هنا عن (الشّرع) لتناصر عليه (العرف)؟ حتّى عمل المرأة الذي باتت لا تستغني عنه الأسرة لتسديد مطالب العيش، استُلبت منه فكرة المساواة، لتتحوّل المرأة إلى مجرّد مصدر دخل للأسرة، تعود بعدها للبيت لتمارس شؤون "الأنثى"، هذا إن لم تضطّر - تحت ضغط الظروف الاقتصادية الصعبة - إلى قبول أعمال تمتهن كرامتها.

يوسف هريمة: في ظلّ الحراك الثوريّ الذي عرفته مؤخّرًا معظم المجتمعات العربيّة، كان للمرأة حضور كثيف في مختلف الميادين، بينما الثّمار دوما يقطفها الرّجل، ألم يحن الوقت كي نرى - مثلًا - المرأة في مراكز القرار، خاصّة رئاسة بعض الدّول، أم لا تزال العوامل الدّينية ترى أنّه لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة؟

دة. فنيس بولس: إن كنّا نعدّ مجرّد ظهور حراك ثوريّ على السّاحة كفيل بعمل تغيّرات جذريّة في أيّ مجتمع؛ فإنّه علينا أن نراجع أنفسنا في ذلك، وسأبدأ بمقولة باولو فريري: "الثّورة الثقافيّة والفعل الثقافيّ يتضمنان هزيمة "الوعي الزائف"، ثمّ هزيمة الحالة شبه الثّابتة أو الانتقاليّة السّاذجة للوعي (ويقصد بها توهّم الشّعب أنّه انتقل إلى مرحلة الوعي الحقيقيّ الفاعل)، كما تتضمّن كليّة الانخراط النقديّ للشّخص الذي يعي في الواقع، وقد فقد خرافيّته.

ويضيف فريري: لا تتيح القيادة الثوريّة، كشف الواقع المتردّي، والدّعاية لمشروع تمهيديّ عندما تفشل في:

1 - كشف الواقع دون معرفته.

2 - الدعاية لواقع جديد دون امتلاك لمسودة المشروع الذي بالرغم من كونه ينبثق من التّشهير، يصبح مشروعًا قابلاً للحياة في خضمّ الممارسة فقط.

3 - معرفة الواقع دون الاعتماد على الشعب، وكذلك على الوقائع الموضوعيّة كمصدر لمعرفته.

4 - القيام بالدّعاية لنفسها كقيادة.

وعند يوسف زيدان "الثورة" فى أصل اللغة، وفى دلالته القديمة، لا يحمل أيّ معنى إيجابيّ؛ بل على العكس من ذلك تمامًا، ترتبط مهمّة "ثورة" ومشتقّاتها بدلالات سلبيّة، وتستعمل للتّعبير عن الرّديء والمَرَضي، مثل؛ ثورة الزَّنْج، والفوضى التى أحدثها العبيدُ فى العصر العباسيّ؛ بل إن "ثوران الدّم" الاسم القديم لما نعرفه اليوم باسم ضغط الدّم"، أمّا الثائر؛ فهو الشّخص الذي قُتل قُريب له، ويريد قتل القاتل أخذًا بالثّأر، لكنّ الاستعمال المعاصر للكلمة، بعد ثورة الضّباط الأحرار (جدًّا) "والكلام لزيدان" سنة 1952، شهد انقلابًا دلاليًّا للضدّ، صارت معه كلمة الثّورة ومشتقّاتها تعني المعاني الإيجابيّة، فصرنا نقول: النّقاء الثوريّ، الرّوح الثوريّة، الثّورة المباركة، ثورة التّصحيح، التحرّر الثوريّ، وغير ذلك كثير من التّعبيرات.

أمّا المراد من مصطلح "الثّورة الثقافيّة" عند يوسف زيدان؛ فهو الحركة المجتمعيّة الرّافضة، والهادفة إلى تغيير ما استقرّ في المجتمع من أفكار عامّة، وأمور اعتقاديّة، ورؤى عامّة للكون، يتم على مستوى البنية العميقة للعقل الجمعيّ، هذا عن تساؤلك عن دور الحراك الجمعيّ، وأعتقد أنّ التّعبير سليم إلى حدّ بعيد، فما حدث مجرّد (حراك جمعيّ) ينطبق عليه - في اعتقادي - تعريف كلًّا من باولو فريري ويوسف زيدان، لذلك؛ في رأيي، أنّه بالفعل لم يحن الوقت لتغيير حقيقيّ، بغضّ النّظر عن الدّور الذي يلعبه الفكر الدينيّ، فمجرّد حدوث حراك ثوريّ غير كافٍ لذلك.

يوسف هريمة: في عصر الحركات الإسلاميّة المتطرّفة، لم نعد نسمع عن المرأة إلّا أخبار السّبي، وجهاد النّكاح، وإقامة الحدود. كيف تقرئين واقع الأصوليّات الإسلاميّة اليوم؟ ما هي مكامن الخلل بوصفك متتبعة لهذا المشهد؟

دة. فنيس بولس: تقول فريدة النقّاش في كتابها حدائق النّساء: "حين نبحث عن حقوق المرأة؛ نجد أنفسنا أمام مجموعة من الاجتهادات تأسّست، جميعًا، على مدارس متباينة في الفقه بمذاهبه الخمسة؛ المالكي والحنبلي والحنفي والشافعي والجعفري، وهذا الفعل تشارك فيه الدّولة الحركات السياسيّة والدّينية، عندما تطلب الفتوى في الأمور السياسيّة والاجتماعيّة من الأزهر ودار الإفتاء في قضايا هي من صميم العلاقات المدنيّة المتعلّقة بموازين القوّة الاجتماعيّة، مثل: العلاقة بين المالك والمستأجر في الأرض الزراعيّة أو أرباح البنوك...إلخ".

وتضيف قائلةً: حظيت قضايا المرأة بالنّصيب الأكبر من الإحالة الدّائمة للفقهيّ، ولم تبقِ إلّا مساحة محدودة ومعزولة للاجتهادات الأخرى من خارجه؛ لأنّها تعدّ - في هذه الحالة - منافية للدّستور بحكم المادّة الثّانية منه (الشّريعة الإسلاميّة مصدر السّلطات)، أو هكذا يسارع الشّيوخ إلى القول.

وكما تبدي النقّاش ملاحظتها بخصوص الإحالة الدّائمة إلى الفقهيّ (وأيضًا، اللّاهوتي على الجانب المسيحيّ) تجنـُّبًا لإعمال القانون في قضايا حقوق المرأة، ممّا يؤدّي إلى مزيد من إهدار هذه الحقوق؛ "فإحالة هذا الحقّ المدنيّ الذي يترتّب على إعمال مبدأ المساواة، ليست إحالة إلى الفقهيّ؛ إنّما إلى المجتمع البطريركيّ الرّاسخ الجذور، الذي ترسَّخ عبر الزّمن بعد سقوط المجتمع الأموميّ الذي جرَّد المرأة من حقوق كثيرة كانت تتمتّع بها؛ حيث كان مبدأ المساواة في ذلك الزّمن القديم سائدًا بطريقة فطريّة".

وتضيف النقاش: وكما يقول الشيخ محمد الغزالي: "المأساة أنّنا نحن المسلمون مولعون بضمّ تقاليدنا وآرائنا إلى عقائد الإسلام وشرائعه لتكون دينًا مع الدّين" (وبالطّبع نحن المسيحيّون، فلا أعتقد أنّ ولع المسيحيّين يخالف ذلك الاتّجاه أو يقلّ عنه).

تعالوا ننظر إلى المسيحيّين الذين لا يستاؤون - مثلًا - من قوانين المواريث (مرّة أخرى نرجع إلى القضيّة) في مصر، فإذا طالبت المرأة المسيحيّة بالمساواة في نسب الميراث في حالة تقسيم بين إخوة وأخوات (بناءً على أنّ الأحوال الشخصيّة لغير المسلمين تتطبق عليها شرائع دينها، والمسيحيّة لا يرد بها نصوص خاصّة بالميراث)، فكثيرًا ما يكون الردّ بالتنصّل من المسؤولية، بدعوى أنّ هناك قانونًا علينا أن نطبّقه، مع الأخذ في الاعتبار ارتياح الرّجال بهذا القانون والتّرحيب به.

وتضيف فريدة: "لكنّ المعركة في ميدان الفقه المستنير والتأويل التقدميّ للقرآن والسنّة لن يُكتب لها النّجاح دون أن تؤسّس الحركات النسائيّة - بصبرٍ ودأبٍ - لمرجعيّة جديدة تنهض على المدنيّ وحده (مع الأخذ في الاعتبار إشكاليّة المجتمع المدنيّ التي تحدّثنا عنها سابقُا، ممّا يجعل الموضوع أكثر تعقيدًا).

أمّا عن مكامن الخلل؛ ففي اعتقادي أنّه توجد مكامن خلل بالفعل، أوّلها؛ غياب إصلاحٍ دينيّ كفيل بانطلاق المجتمع نحو الإصلاح المنشود، وبما أنّنا في مصر بالذّات نركّز على التّجربة الأوربيّة في التّنوير والإصلاح، فأعتقد أنّنا نحتاج إلى أن نلقي نظرة لما حدث في هذه التّجربة (وأدعو - بالمناسبة - للانفتاح على تجارب أخرى غير تجربة أوربا؛ فاليابان - مثلًا - لها تجربة، ولتركيا تجربة أخرى، وحديثًا توجد تجارب دول أمريكا اللّاتينية، وغيرها)، التي لا يجب إغفال تأثير دور الإصلاح الدينيّ فيها، الذي شهدته أوربا في القرن السادس عشر؛ فقد كانت حركة الإصلاح الدينيّ في أوربا بداية مؤسّسة للعلمانيّة الغربيّة؛ لأنّها كانت تُعنى بالفحص الحرّ للإنجيل؛ أي تأويل النصّ الدينيّ من غير معونة من سلطة دينيّة، فرفضوا فكرة أنّ البابا وحده هو الذي يفسّر الإنجيل، فبناء على ما تمّ من فكّ الارتباط بين الدّين والسّلطة أمكن ظهور تيّارات وأفكار، ونظم، وقوانين لا تستمدّ شرعيّتها من الاستناد إلى نصّ دينيّ أو من تفسير خاصّ لشريعة سماويّة، لكن من خلال استنادها إلى مجموعة من القيم الإنسانيّة، وأمكن فرض قوّة القانون الوضعيّ ومنحه صفة الإلزام عند التّطبيق، مقابل ما كان سائدًا من استناد القواعد القانونيّة - خاصّة الأخلاقيّة والقيميّة - إلى نصّ دينيّ، أو قرارات كنسيّة، ممّا يترتّب عليه أن تتشرَّب القاعدة الوضعيّة - بمرور الوقت - سلطة مستمدّة من مرجعيّتها، وهي السّلطة الدينيّة، وهنا، تفقد مرونتها، ويصعب تغييرها، فلا تساير المتغيّرات، ولا تواكب الرّقي المعرفيّ والأخلاقيّ للبشر، الذي هو بطبيعته متغيّر ونامٍ، وله خبرات تنضج مع الزّمن، فأهمّ ما نادى به الإصلاحيّون؛ هو الاستعانة بالتّأويل في فهم معاني الآيات الواردة بالإنجيل، بالتّالي، امتناع الدّوجما وإطلاق سلطان العقل، ومع امتناعها تعدّدت المدارس اللاهوتيّة، وأُطلقت الحريّة لكلّ إنسان ليقرأ الإنجيل ويفهمه، وعندما فكّ الإصلاحيّون الدّوجما الكنسيّة تفكّك أساس المجتمع، وظهر المجتمع البرجوازيّ بديلًا عن المجتمع الإقطاعيّ.

أمّا في الشّرق، وكما تقول الدكتورة فريال خليفة في رؤية الأفغانيّ للإصلاح الدّيني في الشّرق؛ حيث ركّز على مصدرين؛ أوّلهما: الإحياء الدّيني في شكل إحياء دين السّلف للقضاء على الضّعف والتخلّف، وخلق القدرة على مواجهة التّحدي الحضاريّ، والمصدر الثّاني مناهضة الأفكار الواردة على الأمّة الإسلاميّة من الخارج، وهي الأفكار الفلسفيّة والعلميّة الآتية من الحضارة الغربيّة، وخصّص له كتاب الردّ على الدّهريّين، مثل: النيتشريين والسوسياليست والنهيلست ..إلخ، أمّا رفض التّقليد والأخذ بالبرهان العقليّ في النّظر للدّين وضرورة الاجتهاد؛ فإنّ صقل عقل المسلم للخلاص من الأوهام عند الأفغاني - سواء كانت دينيّة أو فلسفيّة أو علميّة أو بدع - بصقل التّوحيد الدينيّ، وهو الأساس للتّوحيد الفكريّ، ورفض التعدديّة والخلاف، ممّا يفضي إلى وحدة إسلاميّة.

ومن هنا تقدّم د. فريال نقدًا للإصلاح عند الأفغانيّ، فتقول: من حيث الشّكل؛ هناك اتّساق بين المقدّمات والنّتائج، أمّا من حيث المضمون؛ فإنه لا إعمال للعقل في النصّ الدينيّ، ولا وجود لرؤية دينيّة جديدة ثمرة لإعمال العقل؛ بل يأتي الإصلاح الدينيّ ليحيي الرّؤية الدينيّة التقليديّة؛ أي أنّ العقل مقيّد بقبول ما يوافق عليه عامل من خارجه، وليس العقل هو الذي يضع شروط التّفكير المقبول؛ لهذا انحصر دور المثقّفين - عند الأفغاني - ليكونوا وعّاظًا، ودعاة، وملقِّنين، وتهذيب النّفوس، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فانتقل المثقّف من دور النّاقد العاقل للأفكار والمعتقدات إلى دور الآمر بالمعروف، واقتصر الإصلاح على تعديل السّلوك؛ أي أنّه إصلاح خارجيّ، وليس رؤية جديدة للعلاقة بين الإنسان والله والطبيعة؛ حيث تظلّ كما هي رؤية دينيّة تقليديّة مطلقة؛ لأنّ فهم الدّين إذا استند إلى العقل يجب أن يكون في تطوّر وليس في ثبات.

كما يقول د. مراد وهبة: "إنّ الأصوليّة تمزج المطلق بالنسبيّ، وبذلك تدافع عن حقيقة لاهوتيّة تقع في الزّمان الماضي، فتعجز عن التّعامل مع الوضع الرّاهن؛ فهي تتعامل مع وضع مضى لتمنحه مصداقيّة أبديّة استنادًا على المطلق، بينما هي تستند إلى رؤية نسبيّة؛ أي نسبيّة ظروف الحاضر...."[3].

ولعلّ ما شهدته مصر في فترة حكم الإخوان يكون تطبيقًا لهذا، حتّى في أطرف المواقف التي حدثت حين كانت أخطاء الرّئيس تُعالَج بصومه ثلاثة أيام، وحثّه على دفع الضّرائب يتم بتحريك الدّوافع الدينيّة، فإن كان صوم الرئيس يعالج خطأه أمام الله، فالشّعب لا يزال يعاني نتائج الأخطاء، وأمّا الحثّ الدينيّ؛ فهو غير ملزم لأحد، فهو اختيار شخصيّ، بعكس أن ينظّم القانون أمورًا مثل هذه.

وإذا نظرنا إلى مصر بالذّات كرائدة لمحاولات التّنوير بالمعنى الخاصّ بالمنطقة؛ حيث شهدت منذ القرن الثّمن عشر محاولات تنويريّة؛ فإنّنا نجد أن تلك المحاولات تراوحت بين عدّة اتّجاهات:

اتّجاه يرى تحديث الدّين والتأكيد على القومية التركية تحت لواء الخلافة العثمانية والإسلام ومن هنا أخذ الإصلاح اتجاهًا دينيًا فقهيًا، مع التمسـُّك بالانتساب إلى النظام التركي الذي على رأسه الخليفة

أما التنوير بمعنى عصر تحرير العقل من كلّ سلطان عدا العقل؛ فقد حذَّر بعض رموز الإصلاح الدينيّ من الثّقة المطلقة في العقل؛ إذ رؤوا أنّ الأفكار التّنويرية تتعارض - أحيانًا - مع الشّريعة.

هناك اتجاه ثانٍ دعا إلى تبنـِّي مشروع حداثة الغرب (مع التّمسك بالقوميّة المصريّة أحيانًا)؛ وهو التيّار الليبراليّ الذي ركّز على قيم الحضارة الغربيّة الوافدة، وتجاهل الماضي وما يحمل من التّراث والدّين، وكانت قضيّة الليبراليّين أو الحرييـِّن، كما أسماهم لطفي السيد، تختلف عن قضيّة رموز الإصلاح (مثل؛ رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمد عبده) الذين انشغلوا بقضيّة الإسلام وكيفيّة إصلاحه، والنهوض به كطريق للنّهوض بالمجتمع.

وفي القرن العشرين؛ أصبحنا أمام تيّارين رئيسين، منذ بداية وصول الفكر الحداثيّ إلى مصر وما تبعه من حركة التّنوير، هما: التيّار الإصلاحيّ الدّيني، والتّيار الليبراليّ، مع تفاوت الدّرجات على سلم التعدديّة والتنوّع، إلّا أنّهما حملا ملامح اصطدام الفكر الشرقيّ بالفكر الغربيّ، وحتّى الآن تلت تجربة الإصلاح الدينيّ الدينيّ في أوربا بالنّهضة والثّورة الصناعيّة؛ حيث حملت النّهضة الصناعيّة في الغرب نمطـًا جديدًا من أنماط الإنتاج، ومن التّفكير والتنظيم الاجتماعيّ، أمّا ما حدث في بلادنا والعالم الثّالث معها؛ أنّ التّنوير ارتبط بالنّزعة القوميّة والحركات الوطنيّة، فالتنوير قام في الغرب على أساس الاهتمام بالعلم الطبيعيّ، والرّياضيات، والمساواة السياسيّة والاجتماعيّة، بصرف النّظر عن الوضع الطبقيّ.

ثمّ لعب عامل الانتشار دورًا في انتقال هذه الأفكار والقيم والمكتسبات وتداولها في المراكز الحضريّة الكبرى في أوربا، وهذا الأمر له أهميّته البالغة في عمليّة التّنوير، فكتابات المفكّرين والفلاسفة صارت متداولة على المستوى الجماهيريّ، وهو عامل لم يتوفّر في الشّرق بالقدر الكافي، ومن هنا يرجع سبب عدم تفاعل الشّعوب العربيّة مع الأفكار والقيم الجديدة.

ويرى بعض الباحثين، (أحوال مصريّة - السّنة الخامسة - العدد 18 - 2002 - سعيد عكاشة باحث) أنّ التّحديد الدّقيق لمعنى كلمة (تيّار) لم يحدث في مصر، وذلك أنّ المعنى المجـَّرد لكلمة تيّار يشير إلى صفة الاستمرار والتدفّق، وتحديد نقاط بداية ونهاية داخل البيئة أو المجال الذي تتحرّك فيه العناصر الحاملة لهذا التيّار، والأهمّ من ذلك؛ تحديد أو تمييز مسار هذا التيّار، أو ذاك عن غيره من التيّارات التي تتعايش معه داخل نفس البيئة، وبعبارة أخرى؛ فإنّ التيّار يتحقّق عندما يكون حجمه الحقيقيّ أكثر من مجرّد بعض الكتابات أو المقالات هنا أو هناك، أو مجرّد مجموعة من المثقّفين تؤمن بفكرة ما وتتحاور - أو تتناحر - حولها، "عندما تكون أكثر من نقطة في محيط عظيم يبدأ من المدرسة الابتدائيّة، وينتهي بالجريدة اليوميّة والرّاديو، والتّلفزيون، والسّينما"؛ أي أنّ (التيّار)؛ هو منظومة متكاملة تمسّ التّعليم والثّقافة، والخطاب الدينيّ، والحياة الثّقافية بالمعنى الواسع.

وبالعودة إلى مصر ووضعيّة الدّين أو الفكر الدينيّ فيها؛ فباعتقادي أنّ له وضعيّة خاصّة تتأثّر بالظّروف التي شهدتها مصر، مثلها مثل أيّ تجمّع بشريّ، أو مجتمع له خبرته التي تتنوّع.

فمنذ دخول المسيحيّة إلى مصر، اضطّرت إلى أن تكون منغلقة تأخذ وضع الدّفاع ضدّ مخاطر أحاقت بها منذ دخولها مصر، فالمستعمر الرّوماني يناهض المذهب اليعقوبيّ؛ إذ إنّه يتمسَّك بالمذهب الملكانيّ، ولأنّ العامل الاقتصادي في ذلك الوقت كان له تأثّره؛ إذ إنّ مصر - سلّة الغلال ومصدر الذّهب للإمبراطوريّة الرّومانيّة - كان يجب إحكام السّيطرة عليها بشكل خاصّ.

أمّا المدرسة الفلسفيّة الكبيرة في الإسكندريّة؛ فتمثّل تهديدًا على الفكر الدينيّ وعلى ما يراه القائمون على الدّين في مصر، ممّا جعل مصر تعتمد تفسير التّأويل الروحيّ والرمزيّ، مقابل الفلسفات اليونانيّة وتيّارات الأديان المتعدّدة. بعكس المدرسة الأنطاكيّة التي اعتمدت التأويل الحرفيّ والتاريخيّ؛ لذلك ركّزت على حياة المسيح الأرضيّة، وعلى الطبيعة البشريّة المتّحدة بالألوهة.

إلى أن دخل الإسلام؛ فكانت جدليّة من هو صاحب البلاد؟ ومن هو الذي يملك النصّ الدينيّ الصحيح؟ ..إلخ.

أمّا العامل الثّاني الذي أعتقد أنّه يمثّل مكمنًا من مكامن الخلل؛ فيدور - في الواقع - مع الإصلاح الدينيّ وجودًا وعدمًا، وهو الفعل الثقافيّ.

يوسف هريمة: في ظلّ هذا الواقع المتردّي، هل سنصل إلى ما دعته الباحثة الكنديّة ميشلين ميلو لائكية مجتمعاتنا، في تمييز واضح بين اللائكيّة ومسار العلمنة، ما هو الحلّ الجذريّ بالنّسبة إليكم؟

دة. فنيس بولس: في اعتقادي أنّه جدليّة قديمة حديثة؛ بمعنى أنّنا ندور في هذه الدّائرة بلا توقّف - حتّى الآن على الأقل - أمّا فيما يُقصد بالعلمانيّة؛ فهي - كما يقول د. أنور مغيث، أستاذ الفلسفة السياسيّة في كليّة الآداب في جامعة حلوان: مصطلح العلمانيّة في دلالته الاصطلاحيّة تردّه معظم المعاجم الغربيّة إلى الكلمة اللّاتينيّة (SECULUM)، وتعني (العصر) أو (العالم)، مقابل الكنيسة أو الدّين، أمّا دلالته الإجرائيّة؛ فتعني العناية بالعالم المادّي المحسوس دون العالم الغيبيّ، ودلالته الديمقراطيّة تعني؛ الفصل بين السّلطة الدّينية والسلطة المدنيّة، وهو مقابل الثيوقراطيّة؛ أي الحكم بالسّلطان الإلهيّ.

على أنّ العلمانيّة في فكرنا العربيّ لها دلالات تميل إلى السلبيّة أكثر من الإيجابيّة، "أصبحت كلمة العلمانيّة سيّئة السّمعة، وأصبح على من يريد الدّفاع عنها أن يبحث عن كلمة أقلّ حدّة، أو مرادفًا لا تحوم حوله الشّبهات، أو صار عليه أن يبدأ حديثه بإزالة ما علق بها من الأحكام المسبقة أو سوء الفهم، كأن يؤكّد أنّ الكلمة لا تعني الإلحاد، أو أنّها لا تعارض الدّين".

في اعتقادي؛ توجد أهميّة لمبدأ فصل الدّين والدّولة، فتكون مهمّة الدّولة تنظيم العلاقات الدنيويّة، ومهمّة الدّين بيان السّبل لطريق الخلاص والحياة طبقـًا لقيم وأخلاق تُستمدّ من التّعاليم الدينيّة، وهو ما كان نتيجة الإصلاح الدينيّ الذي وضع قواعد بُنيَ عليها الفكر التّنويري، مثل:

- إرساء أهم مبادئ الفكر السياسيّ، وهما؛ إلغاء فكرة الحاكم المطلق، والتّأكيد على مبدأ السّيادة الشعبيّة، ومن هنا ظهرت كتابات جون لوك وجان جاك روسو ونظرية العقد الاجتماعيّ - التّسامح جون لوك.

- احترام الطّبيعة والحياة الطّبيعية للإنسان، فالإنسان ليس روحًا فقط؛ بل إنّه روح وجسد، لذا يجب احترام الجانب الطبيعيّ في الإنسان، وقد كان لهذا أثره وصداه في آداب عصر النّهضة وفنونها، ولم تعد العاطفة الإنسانيّة شيئًا مستهجنًا؛ بل اكتسب وجودها مشروعيّة عبـَّر عنها الفنان والأديب والشّاعر، فكان لإصلاح الدينيّ؛ هو النّبع الذي استقى منه المجتمع الأوربيّ مرتكزات تطوّره الحضاريّ في مختلف جوانب الحياة الفكريّة، والسياسيّة، والاجتماعية ...إلخ.

على أنّه يُلاحظ أنّ الدّعوة إلى "فصل الدّين عن السّياسة" تعبير يفزع العامّة، لا يدعو مطلًقا إلى "فصل الدّين عن حياة الجماعة"، أو مكونٌ من المكوّنات الثقافيّة الذي لا يمكن القضاء عليه أصلًا في أيّ ثقافة، هو تشويه للدّعوة، كما حدث مع لطفي السيّد عندما كان أعداؤه يروّجون أنّه كافر لأنّه ينادي "بالدّيمقراطية".

إنّ مارتن لوثر، وهو رائد من رواد الإصلاح الدينيّ في أوربا، رأى عدم فرض قوانين دينيّة على المجتمع بأسره؛ لأنّه - في رأيه - ليس الكلّ على درجة إيمان واحدة، فما بالك من أنّه ليس الكلّ على نفس الدّين؟!

في اعتقادي؛ إنّ فصل الدّين عن الدّولة لا يعني "إلغاء" الدّين عن حياة الجماعة/ المجتمع؛ فثقافة أيّة جماعة/ مجتمع يحوي مكوّنات عدّة تتفاعل معًا وتعطي للمجتمع قوامه الذي يميّزه، والدّين أحد هذه المكوّنات، وقد مهّدت الثّورة الفرنسيّة لظهور ما يسمّى الآن في أوروبا وأمريكا اللاتينيّة "الأحزاب الديمقراطيّة المسيحيّة"؛ وهي أحزاب تشير برامجها إلى موقف ثالث بين الاشتراكيّة والفرديّة الرّأسمالية الكاملة! التي ساهمت - أيضًا - في ما سمّي تحديث الكنيسة؛ حيث أُعلن رسميًّا التزام الكنيسة بحقوق الإنسان والمسكونيّة الدينيّة والعدالة الاجتماعيّة (المحليّة والدوليّة)، كما أنّ أصحاب لاهوت التّحرير - وعلى رأسهم فرايري - يتحدّثون عن تأويليّة جديدة للكتب المقدّسة تستند - في التّطبيق العمليّ - إلى جدل بين التّجربة الحياتيّة للفقراء، وبين كلمة "الله" في الكتاب المقدّس.

ولعلّ ما يكتبه يورغن مولتمان يكون حلًّا لهذه الجدليّة، حين ينادي بعدم فصل اللّاهوت عن التّطبيق الانتقاديّ، والحكم على الحركات السياسيّة والاجتماعيّة المعاصرة، وعدم فصله عن مختلف الجهود، وذلك لإقامة حوار مسيحيّ من أجل الوصول إلى نتائج لاهوتيّة، وما انتهى إليه في أمريكا اللاتينيّة حين أصبح لاهوت التّحرير في أمريكا اللاتينيّة يسعى إلى تطبيق الدّعوة المسيحيّة على احتياجات الفقراء، من خلال أساليب جديدة للتّحليل اللّاهوتي والاجتماعيّ.

وقد اهتمّ اللاهوتيّون والكتّاب المسيحيّون في الغرب بضرورة الأخذ بأساليب التحليل الاجتماعيّ في مجال صياغة اللّاهوت، يكتب جو هولاند عن التّحليل الاجتماعيّ ارتباطًا للإيمان والعدل، ويكتب كلًّا من روبرت شرايدر وستيفن بيفن عن صياغة لاهوت محليّ، ويركّز ليزلي نيوبيجن وهانز كونج على الأخلاقيّات في ظلّ مجتمع متعدّد، وكلّهم يأخذون في الحسبان العوامل السياسيّة والاقتصاديّة والموروث، ويجعلونها عوامل تلعب دورًا أساسيًّا في التكوينة التي تميّز أيّ من المجتمعات، ممّا يجعل فصل الدّين عن السّياسة أمرًا مسوّغًا ومقبولًا، إن لم يكن مطلوبًا لإنجاح كلا الدورَين، فإلى أن يتنبّه لاهوتيّونا وفقهاؤنا إلى هذا، ستكون اللّائكية هي الفائزة في السّباق حتّى إشعار آخر، أمّا الدّعوة لتجديد الخطاب الدينيّ؛ فلا أعتقد أنّها ستكون ذات عائد أو جدوى.


[1] - د. عبد المجيد حنون، اللّانسونية وأثرها في رواد النقد العربي الحديث، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، القاهرة، 2006م، ص ص 76 - 78.

[2] - كوستي بندلي، المرجع السّابق، ص91.

[3] - د. مراد وهبة، ملاك الحقيقة المطلقة، المرجع السّابق، ص ص 310 - 311.