أسس الأخلاق اليُودَايِمُونِّيَّةِ الأرسطية


فئة :  أبحاث محكمة

أسس الأخلاق اليُودَايِمُونِّيَّةِ الأرسطية

أسس الأخلاق اليُودَايِمُونِّيَّةِ الأرسطية

الملخص:

إن الناظر في موضوع مساهمة "الْأَخْلاَق" (Ethos) اليونانية في مجال الْأَخْلاَق المعاصرة، سيهدف إلى تأصيل منهجي رصين، قائم على البحث في أَخْلاَق "اليُودَايِمُونْيَا" (Eudaimoniaلأرسطو طاليس؛ فَالْأَخْلاَق بشكل عام تتم في إطار تحقيق "الفضيلة" أو الخير الأسمى؛ من أجل إدراك السعادة، سواء تأسست على معياري "العرف والعادات" أو "الدين"، أو على معيار الطبيعة الإنسانية الخالصة التي تعشق "الخير" وتنفر "الشر". لقد حاولنا في دراستنا هذه، أن نستقصي المعرفة الأخلاقية القائمة على يُودَايِمُونْيَا أرسطو، التي تعد منطلقاً لتأسيس الأخلاق المعيارية المعاصرة. هذا التأسيس الذي استوجب منا البحث في أسس هذه المعرفة الأخلاقية، التي حاولنا أن نقدمها من خلال مباحثها الأساسية في: العدالة، والصداقة، والبراكسيس (πραξις/praxis)، والتطهير (Catharsis)...؛ وذلك من أجل تحقيق السعادة والازدهار في حياتنا اليومية. فكان منطلق بحثنا الإشكالية الآتية ما يلي: هل يمكن أن نؤصل لِنَظَرِيَّةٍ أَخْلاَقِيَّةٍ يُودَايِمُونْيَّةٍ أَرِسْطِيَّةٍ، يمكن أن تشكل المنطلق لتأسيس أخلاق يودايمونية معاصرة في ظل هذا التشتت الأخلاقي؟ وما الَّذِي يؤسسها ويبرر مشروعيتها؟

المقدمة:

خضعت الْأَخْلاَق طوال القرون الماضية، لنقاش واسع حول مبادئ بنائها الأساسية، لذلك نقترح هَذِهِ الدِّرَاسَة، لتقديم مفهوم "يُودَايِمُونْيَا" (Eudaimonia)، للفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس Aristote (384-322 ق/م)، كمبرر لمحاولة تقريب الْأَخْلاَق، إلى ما يسمى: بـ "أَخْلاَق اليُودَايِمُونْيَا". لذلك تحدد الأخلاق في مجملها (Ethique) للدلالة على مجموعة المبادئ والقيم التي تتعلق بالتصرفات الصحيحة أو الخاطئة، والتي تنظم سلوك الإنسان في المجتمع، وهي بذلك مفهوم شامل يغطي مجموعة من القضايا المتعلقة بالقيم والمعايير الأساسية التي يجب على الإنسان احترامها والسلوك وفقها. وهذا المعنى لا ينفصل عن مضمونها اليوناني الأول (Ethos) الذي يصلها "بالعادات" و"الأعراف"، كما بين أرسطو ذلك قائلا إن: "الخلقية تكتسب من العادة، لذلك اشتق اليونانيون اسم الخلق من العادة"([1])، وعن دلالتها اللاتينية "مورال" (Moralis)، فإنها تحيل إلى "الخصائص الأخلاقية" أو "السلوك الصالح"، بينما كلمة (Ethics) المستخدمة اليوم في اللغة الإنجليزية، ترجع إلى الأصل الإغريقي (Ethos)([2])، لكن الذي استطاع أن يميز بين النمطين من الأخلاق هو أندري لالاند في معجمه الفلسفي، قائلا إن "مفهوم الْأَخْلاَق اليوناني يشير إلى العلم الَّذِي موضوعه تقدير أحكام الْخَيْر والشر"([3])، بينما الْأَخْلاَق بالمفهوم الروماني "مورس" (mores)، تدل على القواعد الموجهة للسلوك الخاصة بحقبة تاريخية لمجتمع مـا، ويرجع هذا التحديد في الأصل إلى الترجمة الأولى للفكر الأخلاقي اليوناني التي أنجزها شيشرون.([4])

ولفهم تحول المعيار الأخلاقي القديم، إلى المعيار المعاصر الذي بدأ يتشكل مؤخرا، استمر التنظيم الاجتماعي للعالم من أجل توفير أسس دقيقة له، حيث تظهر اليوم المجتمعات المعاصرة، من خلال وسائل الإعلام المختلفة - الإذاعة والتلفزيون والسينما والإنترنت - لتنشر مفهوما متجددا يوثق القيم الأخلاقية لممارسة الحياة الاقتصادية والسياسية والدينية والعلمية والثقافية، مما يمنحها طابعا عالميا ومتجانسا؛ إذ سادت مفاهيم أخلاقية مختلفة في العصور القديمة، وأنتجت تأثيرات في العلاقة الجدلية للعالم المعاصر. فإذا كانت الحضارات القديمة تميل إلى احترام عادات وأعراف أسلافها، فإن علامة الحداثة هي عكس ذلك، نظراً لاتجاهها نحو المستقبل، واكتشاف إمكانيات جديدة للتفكير. لذلك سنبين من خلال هَذِهِ الدِّرَاسَة المنجزة حول فلسفة الْأَخْلاَق اليونانية القديمة، التي ستكتسي أهمية بالغة؛ لأنها ستمكننا من رؤية فلسفية شاملة لمفهوم الْأَخْلاَق، عملا بقول إدغار موران: "إن إعادة تنشيط العقل تتم عن طريق العودة إلى المنابع اليونانية".([5])

سيحيلنا هذا الأمر، إلى الاشتغال على العمل الأساسي في الأخلاق للفيلسوف اليوناني: أرسطو طاليس الَّذِي قدم الأسس الأولى لفلسفة الْأَخْلاَق، وأقصد تحديدا عمله الموسوم: بــ "عِلْمُ الْأَخْلاَقِ إِلَى نِيقُومَاخُوسوالَّذِي يربط هدف الْأَخْلاَق بتحقيق فضيلة السعادة. ومن أجل فهم خصائص هَذِهِ المعرفة الأخلاقية، تنـاولنا للدراسة، موضـوعا رأينا أنه لم ينل حظه الوافر من البحث والتمحيص، في الفلسفة العربية الإسلامية، والذي وَسَمْنَاهُ بعنوان: "أسس الأَخْلاَق اليُودَايِمُونِّيَّة الأرسطية"، حيث وجدنا من خلال بحثنا في مجال الْأَخْلاَق، أن الأفكار التي تطرق إليها موضوعها، ظلت تلهم الْإِنْسَان بطرائق مختلفة؛ وذلك بِوَسَاطَةِ المسار التاريخي والاجتماعي. وأيضا تَقَاطُعِ السِّيَاسِي بالثَّقَافَةِ والْأَخْلاَقِ، حيث يعود المسار الاجتماعي التاريخي، الَّذِي يتطرق له موضوع الْأَخْلاَق، إلى العديد من الحضارات والثَّقَافَاتِ عبر التاريخ.

في اليونان القديمة مثلا: سيطرت عادات وأعراف الجماعة على بنية الأخلاق، في الوقت نفسه، فرض الدين على حياة الناس، من الولادة إلى الموت، حيث سيطر على مساحة الأسرة وعلى حياة المدن، مما ألهم الظروف الاجتماعية. وكان هناك الكاهن، الذي كان لزاما على كل تلك العشيرة أن تخضع له؛ لأن سلطة الدين والأعراف كانت فوق الجميع، حتى بدأ مجلس المواطنين يلتزم بقراراتها. لكن مع ظهور الفلسفة اليونانية أصبحت الْأَخْلاَق، محوراً مهماً فيها، حيث اعْتَبَرَ كل من سقراط:Socrates (470-399 ق/م)، وأفلاطون: Platon (427-347 ق/م)، أن الْأَخْلاَق هي جوهر الحياة الْإِنْسَانِيَّة. وجادل أرسطو بأن القيم الاخلاقية تتخللها القداسة، مما يحد من إدامة عادات الأجداد على مجموع القوانين المكتوبة، والذي يعزز الظهور الجائر لها بطابع الرقابة التشريعية، مما يؤدي إلى تلاشي المشاركة المركزية للأعراف والعادات في الاخلاق. وفي العصور الوسطى، تم تطوير نظريات الْأَخْلاَق، في الفلسفة الإسلامية، والفلسفة اليهودية، والفلسفة المسيحية؛ إذ ارتكزت الْأَخْلاَق في تلك الفترة، على مفهوم الواجب والحق. ومع تقدم العلوم الاجتماعية والنفسية، مع بداية القرن التاسع عشر، والقرن العشرين الميلاديين. تحولت الْأَخْلاَق، إلى مجال متخصص في دراسة السلوك الْإِنْسَاني، وقواعد السلوك المتبعة في الْمُجْتَمَعَاتِ. وفي القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، تم تطوير نظريات الْأَخْلاَق، من قبل العديد من الفلاسفة، والنقاد الاجتماعيين، كجون ستيوارت ميل John Stuart Mill (1806-1873)، الَّذِي وضع فكرة "البرجماتية"، باعتبارها أساسا للأخلاق، والتي تقول: إن الأفعال الصحيحة، هي تلك التي تساعد على تحقيق المنفعة العامة. وجون ديوي John Dewey (1859-1952)، الَّذِي وضع فكرة "الديمقراطية الاجتماعية" كنَظَرِيَّة أخلاقية، والتي تؤكد أن الفرد، لا يمكن فصله عن الْمُجْتَمَع، وأن الْأَخْلاَق تعتمد على العلاقة، بين الفرد والْمُجْتَمَع، كما بين إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas (1906-1995) أن البشرية اليوم، بحاجة لإعادة التفكير في مستوى الممارسة الْأَخْلاَقيَّة بين الأنا والآخر، لذلك دعا إلى إعادة الاعتبار للعلاقة بين الأنا والآخر، من خلال أخلاق المسؤولية، كما أسس مايكل جوستيس سانديل: Michael Justice Sandel، (1953)، نَظَرِيَّة أخلاقية ًتركز على المبادئ والقيم، التي يتم اعتمادها عند اتخاذ القرارات الْأَخْلاَقيَّة، وتقوم على مفهوم الْعَدَالَة، حيث يجب أن يتم تطبيق الْعَدَالَة بطريقة متساوية على جميع الأشخاص.

سنحاول إذن أن نكشف عن نَظَرِيَّة: "أَخْلاَق اليُودَايِمُونْيَا" اليونانية، التي ساهمت في وضع الأسس الأولى لفلسفة الاخلاق المعاصرة، من خلال البحث في الاشكال التالي:

ما المقصود بِأَخْلَاق اليُودَايِمُونْيَا؟ وما مصدر قيمها؟ وما طبيعة الخطاب الفلسفي الْأَخْلاَقِي اليوناني، القائم على يُودَايِمُونْيَا أرسطو؟ هل يمكن أن نتحدث عن قيام يُودَايِمُونْيَا أَخْلاَقِيَّةٍ، تجد أسسها في أخلاق نيقوماخية أرسطو؟ إذا افترضنا إمكان قيامها، فما الَّذِي يؤسسها، ويبرر مشروعيتها؟ ومـــا هـــي طبيعـــتها؟ وما هو الــدرس الَّذِي ستقدمــه الأخلاق اليودايمونية لِلْأَخْلاَق الكونية؟

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

يودايمونيا (Eudaimonia): مفهوم فلسفي يرجع إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو (384-322 قبل الميلاد). ويعني أخلاق اليودايمونيا في معناها العام "أخلاق السعادة"، وتهدف إلى تحقيق الرفاهية الناجمة عن العيش الحسن. وتأتي Eudaimonia من كلمتين يونانيتين: Eu: الجيد، Daimon: الروح أو "الذات"، فهي كلمة يصعب ترجمتها إلى اللغة العربية، وفي بعض الأحيان تُترجم من اليونانية القديمة الأصلية على أنها رفاهية، وأحيانًا ازدهار للمزيد حول المفهوم، انظر:

- Aristote, « Éthique à Eudème in: Aristote », Œuvres complètes, tome VIII, (Paris: Flammarion, 2014).

- A. S. Waterman, S. J. Schwartz, B. L. Zamboanga and B. M. Donnellan, « The Questionnaire for Eudaimonic », Well-Being: Psychometric properties, demographic comparisons, and evidence of validity, The Journal of Positive; Psychology, vol. 5, no. 1, 2010, pp. 41–61

[1]) أرسطو طاليس، "الأخلاق"، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ط1، م1، المقالة الأولى في الأخلاق، (الكويت: الناشر وكالة المطبوعات، 1979)، ص 85

[2]) المرجع نفسه.

[3]) André Lalande, « Vocabulaire technique et critique de la philosophie », 15-ème,(1985, PUF), p: 305

[4]) ibid., p. 653 

[5]) Edgar Morin, « Pencer l’Europe », (Paris, Gallimard, 1987), P. 95

سنعمد في دراستنا هذه ثلاث نسخ من مؤلف الأخلاق لأرسطو طاليس، بغية التدقيق والتمحيص:

- "الأخلاق"، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ط1، (الكويت: الناشر وكالة المطبوعات، 1979).

- "علمُ الأخلاق إلى نيقوماخوس"، ترجمة أحمد لطفي السيد، (القاهرة، مصر: طبعة دار الكتب المصرية، 1924).

- Aristotle, « The Nicomachian Ethics, in: Aristotle », The Complete Works of Aristotle: The Revised Oxford Translation, Edited by Jonathan Barnes, Bollingen, 6th ed. (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1995).