إذا حدَّثكم اللّسانيّ عن موت الهُويَّة على يد أبنائها فصدّقوه: قراءة في مقاربة عبد السَّلام المسدي للهُويَّة اللغويَّة


فئة :  مقالات

إذا حدَّثكم اللّسانيّ عن موت الهُويَّة على يد أبنائها فصدّقوه:  قراءة في مقاربة عبد السَّلام المسدي للهُويَّة اللغويَّة

إذا حدَّثكم اللّسانيّ عن موت الهُويَّة على يد أبنائها فصدّقوه:

قراءة في مقاربة عبد السَّلام المسدي للهُويَّة اللغويَّة[1]

صابرة بالفالح

أكاديمية من تونس

«لن يندم العرب على شيء كما قد يندمون على أنَّهم لم يلبّوا نداء لغتهم وهي تستجير بهم».

(عبد السَّلام المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، ص 14)

على سبيل التقديم:

ما انفكَّ الفكر الإنساني يراجع مفهوم الهويَّة[2]، فإذ بالتعريف يدفع بالآخر حتى أضحى تبيُّن حدّ الهويَّة أمراً محالاً. ولا غرابة في ذلك، فللهويَّة في الفكر المعاصر- بصرف النَّظر عن المجال الجغرافي والحضاري- أحوال وتعريفات لا تثبت على حدّ، ومأتى ذلك أنَّ للهويَّة مستويات متعدّدة، فهي متعلقة بالشخص (L’identité personnelle) دالّة على ما تختصُّ به الذّات من تفرُّد ووَحدة، ولا سيَّما ما اتَّصل بالوعي بالذات وكيفيَّة تمثل الفرد لذاته؛ أي إنَّ الهويَّة الشخصيَّة تنظر إلى ما به يبقى (هو هو)، رغم التغييرات التي تطرأ على الجانب الخارجي (الجسد، ...)[3]، وهي أيضاً هويَّة اجتماعيَّة (L’identité sociale) تعنى بالأساس بكلّ ما يؤمّن التعرُّف إلى الذات من الخارج ويربطها بمختلف الأنظمة التي تشترك فيها الذّات مع الأعضاء الآخرين داخل المجتمع الواحد.

إنَّ للهوية أبعاداً أخرى؛ منها ما يتَّصل بالجانب الثقافي؛ فالهويَّة الثقافيَّة (L’identité culturelle) تعنى بالمشترك بين جميع أفراد المجتمع مثل القيم والأعراف والتقاليد التي تجمع بين أفراد المجتمع الواحد، وفي المقابل تُعنى الهويَّة بين ثقافيَّة (L’identité interculturelle) بالبحث في مظاهر التبادل الثقافي والحوار بين الثقافات والحضارات والأديان[4]، على أنَّ جميع هذه التجلّيات تؤكّد أهميَّة الهويَّة في حياة الفرد والثقافات والحضارات، لكأنَّ الهويَّة والإنسان اسم واحد، فلا وجود له خارج الهويَّة، بل إنَّ كينونته ومعنى وجوده يتحدَّد بمعنى الهويَّة.

وفي هذا السياق، ننزّل مقاربة الأستاذ الدّكتور عبد السلام المسدي[5] للهويَّة اللغويَّة، التي خصَّها بمقالات ومباحث عديدة، لعلَّ أهمَّها ما جاء في «نحو وعي ثقافي جديد»[6]، و«العرب والانتحار اللّغوي»[7]، و«الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي»[8]، وهي كتب تعبّر بوضوح عن رؤية ثاقبة تنظر إلى ما وراء الموجود، وتكشف عن واقع العرب انطلاقاً من أزمة لغتهم ومآزقها، وهي بالإضافة إلى ذلك مؤلّفات تقدّم للعرب، مفكّرين وصنّاع قرار، حلولاً واقعيَّة، وترسم أمامهم المسالك التي ينبغي عليهم السير فيها للخروج من الوضع المتردّي ثقافيَّاً وفكريَّاً وحضاريَّاً.

ولعلَّ من أهمّ الأسئلة التي ينطلق منها الأستاذ عبد السلام المسدي: ما الدَّور الذي تنهض به اللّغة في تحقيق النهوض والتنمية الفكريَّة والاقتصاديَّة؟ وكيف يؤدّي تحقيق الأمن اللّغوي إلى الدّخول في مجتمع المعرفة وتجاوز طور الاستهلاك والتبعيَّة؟ وهل تقتصر مسألة الأمن اللّغوي على تجاوز التهديدات التي تفرضها العولمة؟ وهل نحتاج إلى وعي جديد أو جرأة سياسيَّة وقرارات ومشاريع واضحة لحماية أنفسنا انطلاقاً من حماية لغتنا؟

1. عبد السلام وتشخيص واقع اللّغة العربيَّة

أ. مظاهر التكامل في المشروع الثقافي لعبد السَّلام المسدي

عرف - ويُعرّف أيضاً- الأستاذ الدكتور عبد السلام المسدي نفسه بأنَّه أستاذ اللّسانيَّات في الجامعة التّونسيَّة، وهو تعريف موجز مخادع لمن لا يعرف كتابات الرَّجل ومساراته العلميَّة والثقافيَّة؛ فعبد السلام المسدي مفكّر تونسي يصعب التعريف به؛ ذلك أنَّ المجالات الفكريَّة التي اهتمَّ بها عديدة؛ فأعماله التي تجاوزت الثلاثين كتاباً توزَّعت على محاور كثيرة، منها اللّسانيَّات والنقد الأدبي والمسألة السياسيَّة والحضاريَّة إلى جانب الكتابة الإبداعيَّة (الرّواية، ...)، وهي مجالات تبدو للناظر متفرّقة لا جامع بينها إلَّا اسم صاحبها، بيد أنَّ مجوّد النظر في تلك الأعمال يدرك جيّداً أنَّ صاحبها يروم وضع لبنات مشروع فكري وثقافي وحضاري متماسك العناصر والمكوّنات والأجزاء، فهو دائم السعي إلى تقديم قراءة تأليفيَّة للواقع العربي قصد بناء «وعي ثقافي جديد».

إنَّ السؤال عن السياسة العربيَّة، وعن العولمة وعن اللّغة العربيَّة ومآزقها ومساءلة النقد الأدبي والثقافي القديم والمعاصر، ودراسة الأعمال الإبداعيَّة الكلاسيكيَّة (المتنبي، ...) والمعاصرة (الشابي، ...) تترجم تلك المقاربة الشاملة. فجميع المباحث موصولة ببعضها بعضاً يأخذ كلُّ واحد منها برقاب المباحث الأخرى، فاللّغة هي الفكر، والفكر هو الإبداع والتقدُّم، ومن لا لغة له لا فكر له ولا تقدُّم يُرجى منه.

ويكفينا مثالاً على تلك الرؤية النَّظر في خاتمة كتابه «نحو وعي ثقافي جديد»، التي نقرأ في آخرها قول المسدي: «ولا ثقافة دون هويَّة حضاريَّة، ولا هويَّة دون إنتاج فكري، ولا فكر دون مؤسَّسات علميَّة متينة، ولا معرفة ولا تواصل ولا تأثير دون لغة قوميَّة تضرب جذورها في التاريخ وتشارف بشموخ حاجة العصر وضرورات المستقبل». (المسدي، نحو وعي ثقافي جديد، ص 193).

حدَّد المسدي في هذا القول، عوداً على بدء من النتيجة إلى السبب شروط التقدّم، فالتقدّم لا بدَّ له من ظروف محفّزة وعوامل موضوعيَّة وآليَّات بها يتحوَّل من حيز القوَّة إلى حيز الوجود، ومربط الفرس في كلّ ذلك وكلمة السّر التي لا مناص من امتلاكها هي الهويَّة، ولا هويَّة خارج دائرة اللّغة، وبهذا الشكل تغدو قضيَّة اللّغة قضيَّة حضاريَّة وفكريَّة لا تتَّصل بحيز اللسان والاستعمال اللّغوي بقدر اتّصالها بمصير العرب ومستقبلهم.

ب. لماذا السؤال اليوم عن واقع اللّغة العربيَّة؟

يؤكّد عبد السّلام المسدي أنَّ علاقة العرب بلغتهم تنطوي على مفارقة عجيبة؛ من أهمّ تجلّياتها «أنَّ أصحاب القرار يتبنَّون في شأن المسألة اللّغويَّة خطاباً يستوفي كلَّ أشراط الوعي الحضاري، ثمَّ يأتون سلوكاً يجسّم الفجوة المفزعة بين الذي يفعلونه والذي قالوه». (المسدي، نحو وعي ثقافي جديد، ص 175)

وهو ما ينبئ، بحسب رأي المسدي، بوضع كارثي لعلَّ من أهمّ نتائجه الممكنة انقراض اللّغة العربيَّة على المدى المتوسط، وذلك بالنَّظر إلى التطوُّرات العالميَّة المتسارعة التي جعلت المنجزات تقاس بالسنوات والأيام بعد أن كانت تقاس بالعقود والقرون. زدْ على ذلك أنَّ غياب الوعي العربي بمآزق لغتنا وما يحيط بها من تحوُّلات هيكليَّة ساهمت فيها التطوُّرات التكنولوجيَّة التي أسَّست للغة بديلة هي اللّغة الرقميَّة يؤكّد أنَّ ثمَّة خللاً في تعاملنا مع لغتنا، فنحن لا نزال نعالج قضاياها انطلاقاً من مقاربات كلاسيكيَّة ورؤى تقليديَّة. ويعزا ذلك إلى طبيعة الفكر العربي المعاصر، فهو ميَّال بطبعه إلى البحث عن الإجابات الجاهزة التي تعطيه طمأنينة كاذبة، لا تردُّ البليَّة عنه، وتبعث في نفسه راحة وسكينة زائفة، فالعرب لم يعوا أنَّ المشهد الكوني يتبدَّل ويتغيَّر بسرعة جنونيَّة، وهم إلى جانب ذلك لا يعرفون ماذا يفعلون إزاء هذا الوضع المربك، ولعلَّ أفضل الحلول التي ارتأوها تجاهل ذلك الواقع، فكانوا بذلك «أمَّة لا تنفك تعمل على ضياع هويتنا اللغويَّة». (المسدي، نحو وعي ثقافي جديد، ص176)

معارك اليوم ليست هي معارك الأمس، والجبهات التي يجب أن نقاتل فيها ليست جبهات معارك الأمس، وأسلوب المواجهة ليس نفسه هو هو، ولا معنى للقول: إنَّ الخطر المحدق بنا يندرج ضمن مشروع استعماري وثقافي. فالمسألة لا تقتصر على ذلك؛ فنحن ننظر إلى الخطر الخارجي (العولمة، ...) مختزلين المسألة في القول: إنَّ اجتياح اللّغات الأجنبيَّة للسان العربي هو أخطر ما في المسألة (المسدي، نحو وعي ثقافي جديد، ص191). والحقيقة أنَّ الخطر الداخلي المتمثل في اكتساح العاميَّة الفضاء العمومي (الإعلام، المدرسة، الجامعة) لا يقلُّ خطورة عن التهديد الأوَّل (اللغات الأجنبيَّة)، بل لعله الأكثر تأثيراً في مستقبل اللّغة العربيَّة التي شخَّص واقعها المسدي باعتماد المقارنة بينها وبين اللّغة اللَّاتينيَّة، فهو يرى أنَّ العربيَّة سائرة في الطريق التي سارت فيها اللّغة اللّاتينيَّة التي اضمحلّت، لتحلَّ بدلاً منها اللغات/ اللّهجات المتفرّعة منها، وما يخشاه المسدي هو أنْ يأتي يوم لا نجد فيه من يعرف العربيَّة ويتقنها من أبنائها (المسدي، نحو وعي ثقافي جديد، ص 176). ويستدلُّ على صدق مخاوفه بما انتهينا إليه من عجز عن استعمال العربيَّة في الأوساط العالمة، فنحن اليوم نشهد ظاهرة متفاقمة تتمثل في عجز خرّيجي معاهدنا وجامعاتنا عن «تحرير عشر صفحات تحريراً سليماً». (المسدي، نحو وعي ثقافي جديد، ص 176)

ثمَّة فجوة، وعلينا تداركها قبل فوات الأوان، فانتهاك اللّغة له تبعات وامتدادات اجتماعيَّة؛ لأنَّ المجتمعات التي لا تمتلك منظومة لغويَّة متجذّرة لا يمكنها أن تمتلك منظومة معرفيَّة، ولن يكون لها قيمة بين الأمم والثقافات. على هذا النحو تبدو مسألة الهويَّة اللّغويَّة شديدة التعقيد وعلى درجة كبيرة من الأهميَّة بالنسبة إلى مستقبل العرب، فالتقارير الدوليَّة ومخطَّطات الدّول العظمى تؤكّد أنَّ للغة العربيَّة مواعيد مهمَّة واختبارات قادمة عليها أن تصمد فيها وتنجح، كي يظلَّ لها وجود. (المسدي، نحو وعي ثقافي جديد، ص 183)

2. العرب ولغتهم اليوم

أ. من الانتحار اللّغوي إلى ضرورة توفير الأمن اللّغوي

قبل أنْ يأتي الرَّبيع العربي بأيام أنهى المسدي تأليف كتابه «العرب والانتحار اللّغوي»، وقد نُشر في بداية 2011، وبعد مضي أعوام معدودات على الرَّبيع العربي نشر كتابه «الهويَّة العربيَّة والأمن اللغوي»[9] (2014)، وبين الأوَّل والثاني روابط ووشائح عديدة نذكر بعضها: ففي الأوَّل صيحة فزع وخوف واضح على مصير اللّغة العربيَّة، وفي الثاني يجدّد الصيحة ولكن بهدوء لا تخطِئه عين الحصيف[10]، ففي الثاني يعود المسدي إلى البحث في مستقبل اللّغة العربيَّة انطلاقاً من الوثائق، وهو إذ لا يأتي بتشخيص جديد ـ عمَّا ذكره في الكتاب الأوَّل- فإنَّ نبرة الأمل في الثاني أوضح، ففي الفصل الأوَّل الموسوم بـ «استئناف الأسئلة» نقرأ: «لكنَّ إرثنا الثقافي يظلُّ نفوراً من الانتحار مضموناً ولفظاً [...] أعود لأنَّ أحداثاً جدَّت ولم يكن لنا بها لا سابق عهد ولا سابق توقّع واحتمال، ولأنَّ منعطفات تتالت وأخرى تتوالى، وكلُّ ما فيها يومئ إلى انبثاق ضرب من الوعي جديد كأنَّه طارئ يُطلُّ على غير ميعاد. تتأمّله فتقول: هو فواتح أفق جديد». (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، ص ص 11-12)

يُعدُّ بروز الأفق الجديد الدّاعي الحقيقي لاستئناف الأسئلة والبحث قي قضايا اللّغة العربيَّة، باعتبارها المقوم الرئيس للهويَّة (القوميَّة والقطريَّة والدينيَّة). فلئن نبَّه المسدي في كتابه «العرب والانتحار اللّغوي» إلى ما يحيط بالهويَّة العربيَّة من مخاطر تنبئ باندثار اللّغة العربيَّة وانتشار العاميَّة في مختلف مجالات الحياة وتقلّص حيز استعمال العربيَّة الفصحى، فإنَّه في هذا الكتاب (الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي) يُحدّد مسارات اللّغة العربيَّة وما اتخذه صنَّاع القرار من قرارات لحمايتها وللحفاظ أيضاً على وجودهم. ففي الكتاب الأوَّل (العرب والانتحار اللّغوي) حلل المسدي بعض مآزق اللّغة العربيَّة من جوانب عديدة، وهو ما يتجلّى في عناوين فصول الكتاب، التي دارت بالأساس على علاقة اللّغة بالسياسة والهويَّة والديمقراطيَّة والإعلام، (الفصل الثالث والفصل التاسع والفصل العاشر)، وبيَّن في ثنايا تلك الفصول أهمَّ مظاهر الحرب على اللّغة العربيَّة، وكيف تمَّ تحويلها إلى سلعة (الفصل التاسع) بعد أنْ تمَّ تلويثها (التلوُّث اللّغويّ) (الفصل الثامن).

إنَّ المسدي من هذا المنظور يعمد إلى تشخيص واقع اللّغة العربيَّة، باعتبارها العصب الحي للهويَّة والمقوّم الأهمّ في المشهد الحضاري والفكري والسياسي العربي؛ ذلك أنَّ الواقع السياسي يعكس بالضرورة واقع الثقافة واللّغة العربيَّة، فـ«بين السياسة والاقتصاد والثقافة ينبثق جامع أكبر سيكون هو الشاهد الجامع لكلّ واجهات العطالة التاريخيَّة، إنَّه مأزق اللّغة العربيَّة على أيدي أهلها وأبنائها» (المسدي العرب والانتحار اللّغوي، ص 9). ونقدّر أنَّ تراجع لغتنا يؤكد أنَّ نهايتها ستكون قريبة وعلى يد أبنائها، وبنهايتها ننتهي أو نظلّ كالوشم على ظاهر اليد.

فَقَدَ العرب الأرض وضعف لديهم الشعور بالانتماء إلى الوطن العربي، فلو نظرنا إلى علاقتنا اليوم بالقضيَّة الفلسطينيَّة، لوعينا أنَّها أصبحت مجرَّد حدث إخباري قلّما يستفزُّ مشاعرنا، وكأنَّ تلك البقعة من الأرض العربيَّة تقع هناك خلف الجبال العالية أو المحيطات البعيدة، ويبدو أنَّ المسألة لا تقتصر على هذا البُعد؛ لأنَّه بَعد الحرب على الأرض ومن يملكها، جاء زمن الحروب الهادئة التي تستهدف الأجيال القادمة، فأنْ يفقد الإنسان أهمَّ روابط الهويَّة التي تصله بماضيه وتاريخه وحضارته يعني بالأساس تحويله من إنسان له كينونة ووجود إلى شبح، فإسرائيل ما انفكَّت تستخدم اللّغة العبريَّة مصدراً لإلهام اليهود وتقوية روابط انتمائهم إلى إسرائيل، وفي المقابل نحا العرب -ولا يزالون- منحى مغايراً، فمؤسساتنا الوطنيَّة والثقافيَّة والأكاديميَّة قلّصت -بتأثير من الواقع المتردّي- من استعمال اللّغة العربيَّة، فاكتسحت العاميَّة واللغات الأجنبيَّة المجال العام، وأصبحت الفصحى موضع تندُّر واستهزاء.

ب. في حماية اللّغة حمايةٌ للهويَّة

انطلق المسدي في معالجة قضيَّة الانتحار اللّغوي من مقاربة الباحث الألماني المعاصر فلوريان كولماس في كتابه «اللّغة والاقتصاد»[11]، وقد انتهى إلى القول: إنَّ انقراض اللّغات وموتها يعود إلى أمرين: «إرادة البشر المتكلّمين باللّغة من جهة، [...و] خصائص اللّغة في ذاتها من جهة أخرى، وعلى هذا الأساس يكرّس للحالة الأولى عبارة اغتيال اللّغة، وللثانية عبارة انتحار اللّغة، [ويرى المسدي أنَّ واقع اللّغة العربيَّة يكشف عن] حالة أخرى غير هذه وغير تلك؛ وذلك حينما لا يكون المغتال طرفاً خارجيَّاً، وحينما لا يكون في منظومة اللّغة ما يجعلها تهترئ فتتفكَّك وتنحلّ حتى نتحدث عن انتحارها، وإنَّما يتعمَّد أهل اللّغة إطفاء رحيق لغتهم كما لو أنَّهم يئدونها وأداً بطيئاً، فيكونون هم المنجزين للانتحار اللّغوي من حيث ينحرون لغتهم». (المسدي، العرب والانتحار اللّغوي، ص ص 13-14)

والحق أنَّ عبد السَّلام المسدي، وهو يطلق صيحة الفزع تلك باعتباره مثقفاً، يشعر بمسؤوليَّة مضاعفة -وهو اللّساني الضليع-، ولا سيَّما أنَّ ما تمَّ اتخاذه من قرارات لدعم اللّغة العربيَّة لا يعدو أن يكون حبراً على ورق، فالمؤتمرات والقمم التي أتى على ذكرها في ثنايا صفحات كتابه «الهويَّة العربيَّة والأمن اللغوي» ينطبق عليها المثل السائر تسمع جعجعة ولا ترى طحيناً.

نخطئ كثيراً عندما نقيس مدى تقدُّمنا وتطوُّرنا بإتقاننا اللغات الأجنبيَّة؛ ففي تونس، على سبيل المثال، يسارع التونسيون والتونسيات إلى ترسيم أبنائهم في المدارس الخاصَّة بحجَّة أنَّ المدرسة العموميَّة أصبحت عاجزة عن تخريج تلاميذ جيّدين يتقنون اللّغات الأجنبيَّة، ففي الأيام الفارطة (12 تشرين الأول/ أكتوبر 2017) قام في تونس جدل كبير عبر المواقع الإلكترونيَّة والإذاعات الوطنيَّة والخاصَّة حول المستوى العلمي للمعلّم التونسي؛ وذلك بعد عرض قناة الحوار التّونسي حصَّة من برنامج «يوميات مواطن» للإعلامي سامي بنّور، قام فيها بزيارة مدرسة في أرياف ولاية جندوبة (الشمال الغربي للبلاد التونسيَّة)، وحضر فيها درساً مع معلّم دوَّن على السبورة جملتين فرنسيتين ارتكب فيهما أخطاء كثيرة.

ونحسب أنَّ الأستاذ عبد السَّلام المسدي، وهو المتابع لشأن التعليم في بلاده، قد قال في قرارة نفسه: آه لو تعلمون كيف تكتب الجُمل العربيَّة اليوم! فأنْ تكون المصادفة دفعت بالإعلامي إلى حضور حصَّة في مادة الفرنسيَّة بدلاً من مادة اللّغة العربيَّة، فذلك لا يغيّر من الأمر شيئاً، فنحن ندافع عن تكوين أبنائنا في اللغات الأجنبيَّة ولا نعير اهتماماً لتكوينهم في اللغة العربيَّة، وتلك الطامة الكبرى، فنحن ندافع عن لغة الآخرين ونقدّم لغتنا قرباناً، نطلب من أبنائنا تعلّم اللّغات الأجنبية وندعوهم -وعينا ذلك أم لم نعِ- إلى إهمال اللّغة العربيَّة، وننسى أنَّهم بذلك يفقدون هويَّتهم وتاريخهم.

إنَّ المتأمّل في واقع التعليم في بلادنا العربيَّة - بما في ذلك دول الرَّبيع العربي- يتبيّن له أنَّ التعليم فيها لا ينطلق من رؤية واضحة[12]، فالبرامج التي أفقدت اللّغة العربيَّة قيمتها وأشاعت تقاليد بالية مفادها أنَّ اللّغة العربيَّة عاجزة عن مواكبة العلم والتطوُّرات التقنيَّة جعلت منها لغة شبه ميتة يقتصر استعمالها على مادة العربيَّة وآدابها. فقد أكّد تقرير عُرض في ندوة «التقييم» في جامعة القيروان، تونس 2013، أنَّ الأعداد المسندة إلى خرّيجي شعبة العربيَّة وآدابها (المتحصّلين على الإجازة) تكشف أنَّ أكثر من 47 % من المُجَازِين لا يتقنون القواعد الأساسيَّة للّغة العربيَّة[13].

وهي مسألة ألمح إليها المسدي في مواضع وصدح بها في مواضع أخرى، عندما أخبرنا بأنَّ مستوى «المؤسَّسات التعليميَّة ومستوى الأداء اللّغوي الشائع فيها [إنْ هي] إلا صدى من أصداء الحال العامَّة التي آلت إليها اختيارات العرب السياسيَّة في موضوع اللّغة». (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللغوي، ص 91)

ج. الخطاب الذي ينبغي اعتماده أثناء الحديث عن اللّغة العربيَّة

ينبّه المسدي في «الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي» إلى أنَّ تشخيص واقع اللّغة العربيَّة ظلَّ حبيس ثلاثة خطابات هي: الخطاب العاطفي، والخطاب الإيديولوجي، والخطاب الغيبي الإيماني، (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، ص ص 15-16)، وهو إذ يتحدَّث عن تلك الخطابات، فلكي يبيّن لنا نيَّته في سلك طريق أخرى تستجيب لشروط الموضوعيَّة العلميَّة، وهي طريق تبدو ملامحها واضحة للقارئ، وهو يقتفي آثار المؤلف في ثنايا المبادرات والوثائق، فهو إذ يحلّق بالقارئ من وثيقة إلى أخرى، ويكشف ما فيها من نقائص ويعرّي الأيادي التي كتبتها في الظلام، فإنَّما يحذّر من الوقوع في الخطاب التمجيدي الذي يتغنَّى بمفاخر اللّغة العربيَّة، وهو أوَّل من يُسلّمها للذبح ويجلس يبكي فقدانها.

إنَّ مصير اللّغة العربيَّة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 أضحى على المحك، فالهجمة الشّرسة التي تتعرَّض لها اللّغة العربيَّة، لغة القرآن ولغة أغلب المسلمين، تؤكّد أنَّ المبادرات والقرارات التي اتخذها القادة العرب لا تعكس حجم الكارثة، بل إنَّ جزءاً منها انتهى إلى النسيان والغرف المظلمة، ولعلَّ أسوأ ما في الأمر عدم إفادة المحاولات والمبادرات من جهود الخبراء والأكاديميين المتخصصين في اللّغة العربيَّة. وخير مثال على ذلك تجاهل القادة العرب مبادرة الإسكندريَّة 2004 (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللغوي، ص 37)، التي عُدَّت مبادرة جريئة وقفت على الدَّاء وعملت على معالجته انطلاقاً من الاستحقاق الديمقراطي، (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، ص 40)؛ ذلك أنَّ الديمقراطيَّة هي اللبنة الأولى التي تؤسّس للفعل الحرّ الذي يُعدُّ بدوره أوَّل خطوة في اتجاه تقويم علاقة الإنسان بثقافته وهويَّته اللّغويَّة التي بفضلها يرقى درجات التقدُّم والرُّقي؛ لأنَّ بقاء الوضع اللّغوي «على حاله واستفحال ظاهرة التفكّك التدريجي الذي ينخر اللّغة القوميَّة سيُعقّد مهمة ردم الفجوة الثقافيَّة». (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، ص 19)

ويفسّر المسدي إعراض الجهات الحكوميَّة عن مثل هذه المبادرات بما تنطوي عليه من دعوة إلى الأخذ بقيم فيها تهديد للأنظمة السياسيَّة القائمة. ولكي يوضّح المطلوب من العرب اليوم يتَّخذ من الموقف الفرنسي من العولمة الثقافيَّة واللّغويَّة نموذجاً، فقد ثبت الفرنسيون في الدفاع عن لغتهم، باعتبارها أحد أهمّ مكوّنات الهويَّة الوطنيَّة، فقد واجهوا مختلف أشكال محو لغتهم أو الحطّ من شأنها؛ لأنَّهم على علم واضح بأنَّ فقدانهم للغتهم وغيابها عن المحافل الدوليَّة من شأنه أنْ يؤدي إلى طمس هويَّتهم وتراجع ثقافتهم وإشعاعها العالمي. وبهذا المعنى نفهم الوقفة الشرسة التي قابل بها الفرنسيُّون انتشار النموذج الثقافي الأمريكي، فاللّغة هي الخط الأحمر الذي لا ينبغي تجاوزه، وذلك ما تجلّى في سنّ القوانين والتشريعات (الاستثناء الثقافي)، ودفع الأوربيين إلى التنصيص على ذلك في دستور الاتحاد الأوروبي من جهة، ووضع قانون حماية اللّغة الفرنسيَّة من جهة أخرى. (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، ص ص 399-402) فهل يأتي يوم يدرك فيه العرب دلالات تلك الحرب التي خاضها الفرنسيُّون لحماية لغتهم؟

3. المسكوت عنه في خطاب المسدي

أ. السُّؤال اللّغوي ودوره في تحديد طبيعة العلاقة بين الهويَّة والغيريَّة

الهويَّة والاختلاف والعولمة والعالميَّة والكليَّة والتنوُّع والصراع بين الثقافات والحضارات والحوار مفاهيم متَّصلة تشكلّ معاً مبحثاً مخصوصاً يدور في فلك السُّؤال عن الخصوصيَّة والكونيَّة؛ أي السُّؤال عن الإنسان بين الوحدة والكثرة وماهيَّته وقدرته على التَّواصل مع الآخر ضمن ثنائيَّة الإنيَّة والغيريَّة.

لقد نبَّه إريك فروم في كتابه «ثورة الأمل: نحو أنسنة التقنية» إلى أنَّ عالم الاستهلاك قد قوَّض الفوارق بين البشر والأشياء، وأعلى من قيم النَّجاعة التي اتُخذت مقياساً يُحتكم إليه في تقييم الإنسان الذي شُيّئ وفقد الشُّعور بإنسانيَّته، وهو ما جعل السؤال عن الهويَّة يتحوَّل إلى سؤال مركزي يعمل الإنسان من خلال الإجابة عنه على تحرير نفسه من قيود الاغتراب والاستلاب التي أوقع نفسه فيها.

الهويَّة في تقدير فروم هي تجربة يستطيع من خلالها الإنسان أنْ يقول بصورة شرعيَّة: «أنا أنا من حيث أكون قطباً فاعلاً». على أنَّ الهويَّة أو هذه التجربة تقتضي التحوُّل من وضع الاستلاب والاغتراب إلى وضع آخر هو وضع «الكائن مكتمل الحياة».[14]

وبهذا المعنى، الهويَّة تجربة كيان؛ أي ذاتٌ حيَّة لها روابط حقيقيَّة وأصليَّة في العالم[15]، ونحسب أنَّ دعوة الأستاذ عبد السَّلام المسدي لا تخرج عن هذا المجال، فهو إذ يدعو إلى حماية اللّغة العربيَّة وتحقيق الأمن اللُغوي، فإنَّه لا يدعو - كما قد يعتقد البعض- إلى الانغلاق على الذات، وإنَّما يدعو إلى الانفتاح على الآخر بعد أنْ نحقّق هويَّتنا؛ لأنَّ الانفتاح غير المسؤول والفاقد لا يؤدي إلّا إلى الذَّوبان في الآخر وفقدان الهويَّة إلى الأبد.

ب. السؤال عن الأمن اللّغوي في ظلّ العولمة هو حماية للتعدّد

بيَّن إدغار موران أنَّ التنوُّع يخترق جميع مستويات العلاقات التي نقيمها مع الآخرين، بدءاً من العلاقات بين الأفراد إلى العلاقات بين الثقافات، وهو ما يدفع إلى التساؤل: هل القول بالوَحدة الإنسانيَّة ضرب من ضروب الوهم أو التجريد، على أنَّ الاعتناء بمبحث الوحدة الإنسانيَّة يهدّد التنوُّع ويقوّض بنيانه؟

فنحن اليوم إزاء وحدة إنسانيَّة وتنوُّع إنساني؛ أي أمام وحدة داخل التنوُّع، وقدر الإنسان أن يعي جيّداً أنَّه «لا ينبغي على التنوُّع في حدّه الأقصى أن يحجب الوحدة، ولا أن تحجب الوحدة الصمَّاء التنوُّع. يجب أن نتفادى تلاشي الوحدة عند ظهور التنوُّع، وتلاشي التنوُّع عند ظهور الوحدة»[16].

وهي رؤية لا اختلاف في شأنها؛ لأنَّ الإنسان بطبعه ميَّال إلى التواصل مع الآخر، وبطبعه هو محبٌّ لذاته أيضاً، بيد أنَّ العولمة كشفت عن الوجه الآخر لنزعة الإقصاء والإلغاء واختزال الإنسانيَّة في نموذج واحد[17] هو نموذج الثقافة الأمريكيَّة. فقد ذكر عبد السَّلام المسدي أنَّ القمة العالميَّة لمجتمع المعرفة التي انعقدت في تونس 2005 عرفت «جدلاً شائكاً، إذ رأت جهات دوليَّة عديدة في صيغة الجمع (مجتمعات المعرفة بدل مجتمع المعرفة) موقفاً مناصراً لمبدأ تنوُّع الثقافات الإنسانيَّة، واعتراضاً جريئاً على نسقيَّة الثقافة الكونيَّة الواحدة المتفرّدة». (الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، ص 87)

وهو جدل يكشف عن رغبة واضحة في القضاء على نزعة التعدُّد. وفيما يتعلّق بهذه المسألة أثبت المسدي بالوثائق في مواضع عديدة كيف راوح القرار السياسي بين الرَّغبة في الرُّقي بواقع اللّغة العربيَّة، وبقائه رهين الإرادات الخارجيَّة[18]. وقد قدَّم على ذلك أدلّة دامغة لا ينكرها عاقل، وهو إذ يعدّد تلك الأدلّة فلكي يكشف بعض خيوط المؤامرة التي تحاك ضدَّ اللّغة العربيَّة، فبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 تعاظم مدُّ الكراهية للإسلام والمسلمين، وقد أثّر ذلك على حال اللّغة العربيَّة، ويسوق مثالاً على ذلك دعوة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة والاتحاد الأوربي البلدان العربيَّة إلى تبنّي مقاربة جديدة في التعليم، ومعالجة واقع المرأة وبنية المجتمع، من أهمّ أركانها إلغاء اللّغة العربيَّة. (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، ص 40-48)

عمل المسدي في مختلف فصول الكتاب على مدّ القارئ العربي بأهمّ المراحل التي قطعها مصير اللّغة العربيَّة، بدءاً من دولة الاستقلال وصولاً إلى الواقع الرَّاهن. وأكّد أنَّ العرب يحتاجون اليوم إلى وعي جديد يقوم على أمرين متداخلين هما: وضع سياسة لغويَّة تتمثل في سنّ القوانين والقرارات من جهة، ووضع تخطيط لغوي يحتوي على التطوُّرات المعرفيَّة من جهة أخرى، وهو إذ يشير في مواضع عديدة إلى أنَّ الجانب الثاني متوافر، يشير إلى إنَّ الجانب الأوَّل ظلَّ غائباً عن الأذهان.

أكَّد المسدي باعتماد الأدلّة الواضحة أنَّ صُنَّاع القرار في العالم العربي في غياب تام عمَّا ينتظر اللّغة العربيَّة من محن وما يحيط بها من أخطار، فهم يتجاهلون معطيات الواقع المعيش، ويصمُّون آذانهم أمام استغاثات اللّغة العربيَّة التي بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً تاركة المجال للعاميَّات واللّغات الأجنبيَّة.

ولا غرابة في ذلك، فالعرب لا يزالون غير واعين بأهميَّة اللّغة، ولعلهم لا يزالون يعتقدون بأنَّها أداة تواصل وتبليغ، غير واعين بأنَّها أعظم من ذلك، فاللّغة وجود وكينونة، وهي المعرفة والتطوُّر والحياة، ولمَّا كان العرب أمَّة بلا مشروع لغويّ، فإنَّهم مهدَّدون بالاندثار يوم تندثر لغتهم.

شخَّص المسدي واقع اللّغة العربيَّة، وبيَّن أنَّ المسألة لا تحتاج إلى مبادرات أو مقاربات، فثمَّة خطط ومبادرات قيّمة (مثال ذلك الخطَّة الشاملة للثقافة العربيَّة، مبادرة الإسكندريَّة، ...)، ولكنَّ المسألة في تقديره تتعلّق بضرورة وجود وعي ثقافي جديد ورغبة في اتخاذ قرار سياسي يحوّل تلك المبادرات إلى مشاريع حقيقيَّة، وهو يضع لتحقيق ذلك شروطاً: منها ضرورة استقلال القرار السياسي، وإعطاء السهم باريها، وجعل التخطيط وإدارة الشأن اللّغوي بيد المختصّين، وهو أمر يصعب تحقيقه ما لم يحرص القادة على إرساء منظومة ديمقراطيَّة تدفع «نحو وعي ثقافي جديد» يجعل من الأمن اللّغوي قاعدة كلّ مقاربة تروم تحقيق النَّهضة والدخول في عالم المعرفة لا عالم الاستهلاك والتبعيَّة، (المسدي، الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي، الفصل الثامن عشر بين القومي والعالمي)، وإن نحن لم نعِ ذلك، فإنَّنا نسير إلى حتفنا.

[1]- مجلة يتفكرون العدد12

[2] ـ «الهويَّة أو العينيَّة (L’identité) لفظ عصيٌّ على التعريف، فلئن كان ظاهر الهويَّة هو عينيته وتشخّصه وخصوصيته التي ندركها بالجواب عن السؤال ما هو؟» (جلال سعيّد، معجم المصطلحات والشواهد، سلسلة مفاتيح، دار الجنوب، 1994، ص 494)، فإنَّ هذا التعريف يظلُّ موصولاً بالأفق الفلسفي النظري. فالهويَّة اليوم اتَّسعت حتى استحال تعريفها أو الإلمام بمستوياتها، وهو ما تطلب الخوض في مباحث متنوّعة تتصل بالهُويَّة. فإذا الهويَّةُ هويَّات.

[3] ـ وضعت الفلسفة أسساً للهويَّة مدارها على مبدأ الهويَّة (Principe d’identité)، وهو المبدأ القائل: كلُّ ما هو هو؛ أي إنّه لا فرق بين الشيء وذاته، وميَّزت أغلب الدراسات بين مبدأ الهويَّة ومبدأ الثالث المرفوع ومبدأ التناقض.

 Alex Mucchielli, L`identité, collection Que sais- Je?, P U F,éd 9em, Paris, 2013

[4] ـ نجد أنماطاً أخرى من الهويَّات، مثل الهويَّة الكيفيَّة (L’identité qualitative) والهويَّة المنطقيَّة (L’identité logique)، وهي أنماط يضيق المجال عن ذكرها وعدّها.

[5] ـ أ. د. عبد السلام المسدي، أستاذ اللسانيَّات في الجامعة التونسيَّة، وعضو مجامع اللغة العربيَّة في تونس وبغداد ودمشق وطرابلس (ليبيا). من مؤسّسي منتدى الإصلاح العربي في مكتبة الإسكندريَّة، وقد تولّى وزارة التعليم والبحث العلمي وشغل منصب سفير لتونس في المملكة العربيَّة السعوديَّة ولدى جامعة الدول العربيَّة.

[6] ـ عبد السلام المسدي، نحو وعي ثقافي جديد، سلسلة كتاب دبي الثقافيَّة، دبي، الإمارات، ط1، 2010

[7] ـ عبد السلام المسدي، العرب والانتحار اللغوي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2010

[8] ـ عبد السلام المسدي، الهويَّة اللغويَّة والأمن اللّغوي (دراسة وتوثيق)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، ط1، 2014

[9] ـ صرَّح عبد السَّلام المسدي في فاتحة كتابه: «الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي» أنَّ كتابه هو «خلاصة سنوات طويلة من البحث والنضال دفاعاً عن اللّغة العربيَّة»، وفيه تخفُّ وطأة الوجع، فبعد الحديث عن الانتحار، ينصبُّ اهتمام المسدي على كيفيَّة توفير أمن لغوي، فإذا الربيع العربي يفتح أمامه أبواب الأمل في تطوير واقع العرب بعد أن كادت-ولا تزال- تبلغ مرحلة الموت البطيء، وقد يكون السريع أيضاً -الانتحار- «العرب والانتحار اللغوي» 2011. ويتألف الكتاب من اثنين وعشرين فصلاً ومقدّمة وخاتمة ومسرد بأهمّ المؤتمرات، إلى جانب قائمة بالمصادر والمراجع والفهارس المتعلقة بالأسماء والمفاهيم.

[10] ـ يقول المسدي، ص 25 من «الهويَّة العربيَّة والأمن اللّغوي»: «إنَّ المشهد العربي العام يحملنا على الاقتناع بأنَّ وعياً لغويَّاً جديداً ينبثق وتتسارع تجلياته، فيوحي بأنَّنا في حضرة معالم غير مألوفة، وقد نخالها شبيهة باليقظة الحميدة، وتوشك في بعض مظاهرها أن تبدو كالطفرة المباركة».

[11] ـ فلوريان كولماس، اللّغة والاقتصاد، تعريب أحمد عوض ومراجعة عبد السَّلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، العـدد 263، المجلس الوطني للثقافة، الكويت.

[12] ـ انظر كذلك: السعيد سليمان عواشرية، لغة التمدرس وأثرها في الشعور بالانتماء للوطن والتمسُّك بالهويَّة الثقافيَّة لدى النخبة من أبناء العربيَّة، المؤتمر الدولي الرابع للغة العربيَّة، منشورات المجلس الدولي للغة العربيَّة، بيروت، لبنان، ط1، (د ت)، ص23

[13] ـ تقرير محمَّد يوسف إدريس بعنوان: «التقييم في ظلّ منظومة أ م د وتأثيرها السلبي على التقييم الإشهادي».

[14] ـ إريك فروم، ثورة الأمل: نحو أنسنة التقنية، ترجمة دوقان قرقوط، منشورات الآداب، بيروت، لبنان، 1973، ص ص 100-102.

[15] - Daryush Shayegan, Les illusions de l›identité, Editions du Félin, Paris, 1992

[16] - Edgard Morin, Humanité de L’’hommanité, éd Seuil, 2001, pp 70- 72

[17] ـ انظر تفاصيل ذلك عند جيرار ليكرك، العولمة الثقافيَّة: الحضارات على المحك، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2004، ص 375-482. وجان نيدرفين بيترس، العولمة والثقافة المزيج والكوني، ترجمة خالد كسروي ومراجعة طلعت الشايب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، مصر، ط1، 2015، الفصل الثاني من ص 45 إلى ص 66

[18] ـ انظر كذلك في شأن مخاطر العولمة على اللّغة العربيَّة كوثر إبراهيم رزق، الاستثمار في اللّغة العربيَّة في ظلّ الاغتراب والعولمة وأزمة الهويَّة العربيَّة، المؤتمر الدولي الرابع للّغة العربيَّة، منشورات المجلس الدولي للغة العربيَّة، بيروت، لبنان، ط1، (د ت)، ص 193