إشكاليَّات الهويَّة في الثقافة العربيَّة المعاصرة


فئة :  حوارات

إشكاليَّات الهويَّة في الثقافة العربيَّة المعاصرة

محمد الصغير: في البداية نرحب بكم، ونود أن نسأل من هو الدكتور رشيد الحاج صالح؟ ونرغب في أن تقدِّموا ورقة تعريفية بكم، وبمساركم العلمي، وأهم منجزاتكم الفكرية، لكي يتسنى لقراء ومتتبعي موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود التعرف عليكم أكثر.

ـ د. رشيد الحاج صالح: أعتقد أنَّ المجال المعرفي الذي أهتمُّ به وأخصِّص له معظم كتاباتي هو مجال "النقد الثقافي"، أو ما يُسمَّى أحياناً "الدراسات الثقافية". فبالإضافة لواجباتي الجامعية في التدريس، كتبي منصبَّة على متابعة الثقافة العربية المعاصرة، ومحاولة تحليلها وتفسير عدد من مظاهرها، مركِّزاً على القيم العقلية والعلمية في هذه الثقافة. كما أنِّي نشرت هذا العام كتاباً عن كيفية احتواء العلم في المجتمعات العربية الحديثة.

محمد الصغير: هناك دراسات كثيرة، على المستوى العربي والعالمي، أخذت تتناول مفهوم الهويَّة في العقدين الماضيين، وتركِّز على تجلياته في مختلف المجالات الثقافية والسياسية. ما تبريرك لهذا السيل الكبير؟ وهل هناك من جديد حول موضوع الهويَّة؟

ـ د. رشيد الحاج صالح: بالفعل تشهد الساحة الفلسفية والثقافية عموماً عودة غير مسبوقة للأفكار التي تتعلق بالهويَّة والصراعات الثقافية. فعلى المستوى العربي نجد أنَّ رضوان السيد ومحمد عابد الجابري وأمين معلوف وفتحي المسكيني وغيرهم أفردوا جزءاً لا بأس به من كتاباتهم لتناول هذا المفهوم وتقليبه. وفي العالم الغربي الأمر كذلك، فكتاب أيريك هوبزباوم عن اختراع التراث، وكتاب الهويَّة والعنف لأمارتا صن، وكتاب اللغة والهويَّة لجون جوزيف، وكتاب أوهام الهويَّة لداريوش شايغان، بالإضافة إلى كتابات أدغار موران وجاك دريدا وآلان تورين وصامويل هنتنغتون وغيرهم، كلها تركِّز كثيراً على مسألة الهويَّة. أعتقد أنَّ تفسير هذه العودة يرجع إلى سببين رئيسيين: الأول أنَّ هناك شعوراً أخذ يتنامى في العقود القليلة الماضية، فحواه أنَّ العالَم يعيش أزمة من نوع ما، سواء على المستوى العالمي أو على المستوى العربي؛ على المستوى العالمي بسبب ما يُعتقد من أنَّ هناك صعوبات كبيرة ما زالت تواجه الحداثة الغربية، على اعتبار أنَّ مطالب تلك الحداثة في إقامة مجتمع العدالة والحريَّة والرفاه أمر لم يتحقق بعد، وأنَّ الديمقراطية الغربية، على الرغم من كلِّ الإنجازات المهمَّة التي حققتها، إلا أنَّها واقعة اليوم تحت سيطرة المؤسسات الرأسمالية العالمية، الأمر الذي أدَّى في النهاية إلى ما يُسمِّيه هابرماس بـ"تشيؤ الإنسان"، وعودة سيطرة الإنسان على الإنسان نفسه. أمَّا السبب الثاني فهو ظهور ما أخذ يُسمَّى بـ"الأطروحة الثقافية"، ويقصد بها أنَّ توجهاً ثقافياً عالمياً يرى أنَّ مشاكل العالم وصراعته اليوم تعود بالأساس لأسباب تتعلق بالثقافات والقوميات والأديان والهويَّات، وذلك على الضدِّ من الأطروحة الاقتصادية التي ترجع تلك الصراعات لأسباب اقتصادية، وعلى الضدِّ أيضاً من الأطروحة السياسية التي تعطي الأسباب السياسية الأولوية.

أمَّا على المستوى العربي فأعتقد أنَّ الأمر أسهل، لأنَّ الفشل المتكرِّر لمشروعات التحديث والتنمية والنهضة، وتبخر مشروعات إقامة دولة الحداثة ومؤسساتها، أمر كثيراً ما يدفع الناس إلى الاحباط والانكفاء، والعودة إلى هويَّات خاصة لتحتمي بها، لا سيَّما أنَّ تحديات العولمة أيضاً تضغط من جهتها.

ما أريد أن أقوله بالأخير إنَّ فكر الهويَّة هو فكر أزمة في النهاية، لا يرتفع صوته إلا إذا دخل المجتمع في أزمة طال أمدها، واحتار الناس في كيفية الخروج منها، ولذلك علينا أن نبحث عن الأزمات التي تحيي الهويَّات وتدفعها إلى تصدُّر الواجهة.

محمد الصغير: أتيتَ على ذكر كتاب أمارتيا صن حول الهويَّة والعنف، هل تعتقد بوجود رابطة ما بين الهويَّة وتزايد العنف في العالم اليوم؟

ـ د. رشيد الحاج صالح: طبعاً، حتى أنَّ أمارتيا صن يجعل من الهويَّة أكبر سبب للعنف اليوم. ذلك أنَّ تشبُّع أيِّ شخص بفكر هويَّاتي معيَّن هو الذي يدفعه إلى التفكير في إقصاء الآخر وممارسة العنف ضده. واسمح لي هنا أن أتوقف عند ماهيَّة الشعور بالهويَّة، لكي نفهم العلاقة بين الهويَّة والعنف. الهويَّة تضخم الشعور بالمظلومية والغبن، وتعوض عن عدم الاعتراف بها بنوع من التضخيم المضاد الذي يعلي من قيمة الذات ويجعلها تنسج حولها دائرة نرجسية، وهذا كله يجعل من الشخص الحامل للهويَّة شخصاً عدوانياً، يعتقد أنَّ كلَّ الشرور التي تصيبه سببها الآخرون المختلفون معه في الهويَّة. ولإخفاء هذه العدوانية المفرطة التي يحملها الأشخاص المتشبعون بما يسميه المفكر داريوش شايغان بـ"أوهام الهويَّة"، يلجؤون إلى تسميه العنف بأسماء مقبولة بالنسبة إلى المجتمع من قبيل: النضال، الواجب، الدفاع عن الكرامة ...، ليأخذ العنف الهويَّاتي في النهاية طابعاً بطولياً ومصدراً للاعتزاز.

محمد الصغير: ولكن إذا كانت الهويَّة من المصادر الرئيسة للعنف اليوم، فهل يعني ذلك أنَّ علينا التخلي عن هوياتنا لكي نتجنب انزلاقنا نحو مستنقع العنف؟

ـ رشيد الحاج صالح: بالطبع هذا غير ممكن، لأنَّ الإنسان لا يمكن أن يعيش حياته الطبيعية والاجتماعية بدون أن يكوِّن هويَّة ما، لنفسه ولمجتمعه وحتى للآخرين. فالاتجاهات التي اعتقدت بأنَّ إصلاح أحوال البشرية المعاصرة يتمُّ من خلال تخلي الإنسان عن هويَّته أو انتماءاته القومية والإقليمية والدينية، لأنَّ هذه الانتماءات هي السبب الرئيس في العنف والحروب، بما فيها الحربان العالميتان في القرن الماضي، أقول إنَّ هذه الاتجاهات فشلت واتضح أنَّ سيل الكتب الذي تحدَّث عن "النهايات": نهاية التاريخ، نهاية الإيديولوجيا، نهاية القوميَّة، نهاية الهويَّة، مجرَّد أوهام، لأنَّ الهويَّة والانتماءات القومية والدينية شيء عزيز على قلب الإنسان ولا يمكن اجتثاثه من الشخصية البشرية، ولذلك فإنَّها أوقعته في نوع من الاغتراب الهويَّاتي، وهذا له تأثير سلبي لا يقلُّ عن الانغلاق الهويَّاتي.

الفكر ما بعد الحداثي عموماً حاول مقاربة العلاقة بين الهويَّة والعنف عن طريق تقديم مفهوم جديد للهويَّة يركز على الهويَّة الدينامية، ويبين أمراض الهويَّة الثابتة والجوهريَّة.

محمد الصغير: هل يمكن أن تعطينا أمثلة على تلك المقاربات؟

ـ رشيد الحاج صالح: هناك مقاربات عديدة، منها مشروع أدغار موران عن الهويَّة البشرية. ويقصد موران بالهويَّة البشرية أنَّ هناك تنوعاً في الانتماءات الهويَّاتية يمكن أن ينتهي إلى نوع من الوحدة وليس إلى الصراع. والاختلافات في الانتماءات يمكن أن تكون عاملاً إيجابيَّاً وغنيَّاً إذا ركزنا على المشتركات بين البشر، بحيث تدفع الهويَّة الإنسان إلى قبول الآخر والتفاهم معه بدلاً من معاداته والصراع معه، وذلك على قاعدة احترام الخصوصيات الثقافيَّة وتفعيل المشتركات الثقافيَّة، وهذا لا يتحقق إلا إذا غيَّرنا في تصوراتنا التقليدية عن الهويَّة الثابتة، لأنَّ الإنسان هو الذي عليه أن يصنع تصوراته عن الهويَّة لا أن يأخذها كما تُقدَّم له.

محمد الصغير: ولكن كيف يمكن أن يغير الإنسان في تصوُّراته التقليديَّة، وأن يصل إلى هويَّة أكثر انفتاحاً وإنسانية؟

ـ د. رشيد الحاج صالح: يركز الفكر ما بعد الحداثي على الانتماء للإنسان أو الذات وليس للجماد. وهذا يعني أنَّ على الهويَّة في النهاية أن تكون "متكيفة" ومتفاعلة مع المحيط، على قاعدة الاعتراف المتبادل. فالهويَّة يتراجع عنفها وتعصبُّها كلما تمَّ الاعتراف بها أولاً، وربطها بالإنسان وليس بالأشياء ثانياً. وهذه نقطة توقَّف عندها بول ريكور مطوَّلاً. فقد لاحظ ريكور أنَّ المفهوم الثابت للهويَّة يلجأ إلى التمييز بين الهويَّة كعينية والهويَّة كذاتية، والهويَّة العينية هي التي تركز على اللغة والأرض والأشياء، ولذلك وصفها بأنَّها هويَّة ثابتة جامدة، لأنَّ الأشياء جامدة، في حين أنَّ الهويَّة كذاتية تركز على الذات الفاعلة، أي الإنسان، وبما أنَّ الذات الفاعلة متحركة وديناميكية، فإنَّ هذه الهويَّة هي التي ترافق الإنسان في حياته، وفي مواجهته للأسئلة الكبرى. وهذا يعني أنَّ الإنسان عليه أن يفكر في هويته بعيداً عن العناصر التقليدية للانتماءات كالأرض واللغة والأصل المشترك، ويتَّجه إلى الإنسان من حيث هو إنسان. والهويَّة بهذا المعنى مكتسبة وليست محددة مسبقاً.

ولذلك فإنَّني أعتقد أنَّ الأفق النهائي لحلِّ كلِّ المشكلات والصراعات الهويَّاتية لا يمكن إلا أن يكون أفقاً إنسانياً. فالهويَّة البشرية، أي عندما يندرج الأفراد والجماعات المختلفين في الهويَّات والمذاهب واللغات والأعراق في أفق إنساني يحتفظ لكلِّ جماعة بحقِّ التعبير عن خصوصياتها، وينظر للجماعات البشرية نظرة تكاملية توافقية، أقول إنَّ هذه الهويَّة البشريَّة هي التي تجعل من البشر أقلَّ عنفاً وأكثر ميلاً للاعتراف بالآخر.

محمد الصغير: كيف تنظر إلى مستقبل الهويَّات في ظلِّ توجهات العولمة؟ ألا ترى أنَّ العولمة ستنتهي إلى محو كلِّ الهويَّات لصالح نموذج أحادي في الحياة والثقافة؟

ـ رشيد الحاج صالح: يبدو لي أنَّ العولمة إذا كانت ظاهرة اقتصادية وسياسية وتكنولوجية بامتياز، فإنَّ تأثيرها الأكبر على الشعوب هو التأثير الثقافي. فالعولمة تحمل داخلها نزوعاً نحو الهيمنة، ونحو ما يُسمَّى "الثقافة الكونية"، أو النمط الموحّد لكلِّ أشكال الحياة والقيم والسلوكيات، الأمر الذي ترفضه الهويَّات المحليَّة التي لا تساوم على خصوصياتها. ولكن وعلى الرغم من ذلك فإنَّني أعتقد أنَّ تأثير العولمة على الهويَّات تأثير مزدوج: فالعولمة تؤدي إلى تنشيط الهويَّات الساكنة واستثارتها لمواجهة ما تعتقد تلك الهويَّات أنَّه تحدٍّ لها ولوجودها، كما أنَّها من جهة ثانية تدفع تلك الهويَّات الساكنة إلى الخروج مرغمة من حالة الركود والجمود التي طال أمدها، أي أنَّها تدفعها لتجديد نفسها.

وبناء على ذلك التأثير المزدوج فإنَّ ردَّة الفعل أيضاً تكون مزدوجة. فالاتجاه الذي يلحُّ على خطر العولمة ويعوِّل على المواجهة الشاملة لها ورفض ما فيها من نزعة للهيمنة وإلغاء الخصوصيات، هو في حقيقة الأمر توجُّه يريد المحافظة على الهويَّات الساكنة والانغلاق عليها، الأمر الذي يخدم في النهاية الفئات التقليدية المستفيدة من هذا الانغلاق الهويَّاتي. وفي المقابل فإنَّ الاتجاه الذي يتعامل مع العولمة وفق منظور تكيفي تكاملي، يحافظ على الخصوصية ويعطي دوراً للمشتركات بين الهويَّات من جهة والعولمة الثقافية من جهة أخرى، يمثل التوجه الأكثر عقلانية في بناء علاقة متكاملة بين الهويَّة والعولمة. أمَّا القاعدة التي يتمُّ عليها ذلك الالتقاء فهي "القيم الإنسانية"، أي قيم العدالة والمساواة والحريَّات، على اعتبار أنَّها قيم إنسانية شاملة تسعى كلُّ الشعوب لتحقيقها، ولا تخصُّ شعباً معيَّناً أو ثقافة بذاتها أو عصراً بعينه.

محمد الصغير: ولكن هل تعتقد أنَّ كُلَّاً من الطرفين مستعدٌ للقيام بمثل هذا الالتقاء؟ فكما تعرف فإنَّ العولمة تزداد تغوُّلاً، والهويَّات تزداد انغلاقاً، فكيف سيحصل ذلك الالتقاء؟

ـ د. رشيد الحاج صالح: أعتقد أنَّ هناك بوادر لهذا اللقاء، وإن كانت الطريق طويلة ومعقَّدة. فمن جهة أصبحت ثقافة العولمة خلال العقدين الماضيين أكثر اعترافاً بالخصوصيات الثقافية للشعوب، وخفَّفت من طابعها المستعلي على الثقافات المحليَّة وهويَّات الشعوب الأخرى، وأصبحت أكثر تفهُّماً للاختلافات الثقافية، وهذا واضح في الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة التي تعطي خصوصية الشعوب أهميَّة متزايدة في بحوثها، وأيضاً في سياسات التعدُّدية الثقافية التي أخذت بعض الدول تتبعها، ولا سيَّما في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا. وفي المقابل نجد أنَّ هناك دعوات في الثقافة العربية الإسلامية لبناء هويَّة عربيَّة إسلاميَّة ذات بعد إنساني عالمي، وهذا هو مشروع محمد أركون، فقد بيَّن في كتاباته أنَّ البعد الإنساني كان حاضراً بقوَّة في تصوُّر الثقافة الإسلامية لذاتها في قرونها الأولى، وخير مثال على ذلك ابن مسكويه والتوحيدي وغيرهم. ولذلك فإنَّ أركون وغيره من المفكرين العرب المعاصرين يلحُّون على استحضار ذاكرتنا التي تدعو إلى القيم الإنسانية.

فالثقافة العربية اليوم تعاني، ومنذ أكثر من قرن، من تجاور عقيم بين الخصوصية الثقافية التي تدعو في النهاية إلى هويَّة مغلقة، وبين التيار الثقافي المنفتح الذي يدعو إلى عالميَّة الانتماء الهويَّاتي، والنظر إلى هويَّتنا على أنَّها جزء من العالم المحيط بنا، ولا بدَّ لها من أن تتفاعل مع تيار الثقافة العالمي. وقد ولد هذا التجاور حالات غريبة، فأنت قد تجد دولاً علمانية، ولكنَّها قَبَلِيَّة في الوقت نفسه، وأخرى ديمقراطية ولكنَّها عسكرية في داخلها، وهناك من هو ديمقراطي ويريد الوحدة بالقوَّة، وهناك من يريد حوار الحضارات وهو موغل في الكُره للغرب وقيمه، وهناك من يريد القطيعة مع الغرب ولا يستغني عن الغرب في كلِّ مجالات حياته، وهناك ليبراليون يرفضون توريث بناتهم، وماركسيون لم يتوانوا عن التعبير عن طائفيتهم، وطائفيون يتحدثون عن التسامح ...إلخ.

ما أريد أن أقوله في النهاية إنَّ العولمة ليست هي المشكلة الأساسية، بل المشكلة ـ في ظنِّي ـ هي في عجز الهويَّات المحليَّة عن تشكيل نفسها في ظلِّ التغيرات التي أحدثتها العولمة.

محمد الصغير: أريد أن أتابع معك في هذه النقطة، وأسألك عن العوامل التي أدَّت إلى عجز هذه الهويَّات وانغلاقها، وعدم قدرتها على مواكبة التغيرات الثقافيَّة العالميَّة والتفاعل الإيجابي مع الآخر، لا سيَّما أنَّ هذه المحاولات مستمرَّة منذ أكثر من قرن؟

ـ د. رشيد الحاج صالح: إذا أردنا أن نوجز أسباب انغلاق الهويَّة في الثقافة العربيَّة المعاصرة، فإنَّه يمكن التركيز على سببين أساسيين:

الأول هو أنَّ الثقافة العربيَّة المعاصرة تُقدِّم مسألة الهويَّة على مسألة الحريَّة. فإذا كانت الحداثة وتحولاتها المعاصرة قد حسمت أمرها منذ زمن في تقديم قضية الحريَّة على قضية الهويَّة، فإنَّ الثقافة العربية الحديثة لم تتمكن من حسم هذه المسألة، وما زال التفكير بالهويَّة يحتلُّ مساحة أكبر بكثير من التفكير بالحريَّة. فالثقافة الشعبية، وبعض الاتجاهات الفكرية العربية، ولا سيما القومية والدينية، تكاد تجعل من قضية الهويَّة قضية القضايا، والمدخل الكبير لأيَّة مقاربة للأوضاع والمستجدات التي تحيط بالثقافة العربية. ولذلك فإنَّ المتابع للتحولات الفكرية الحقيقية التي تحاول الموازنة بين الهويَّة والحريَّة، وإعطاء الهويَّة مضموناً ديمقراطياً، يلاحظ أنَّ تلك المحاولات بقيت ذات مردود متواضع، ولم تتجذَّر بشكل كبير. وهذا ما أدَّى في نهاية الأمر إلى تحوُّل الثورات العربية المعاصرة، في هذه المرحلة، أي منذ عام 2013 إلى اليوم، من ثورات من أجل الحريَّة، إلى ثورات منشغلة بالهويَّة، الأمر الذي أربك تلك الثورات. وهذا يعني أنَّ تيار الهويَّة ما زال هو الأقوى، على الرغم من أنَّ الذين أشعلوا تلك الثورات هم طلاب الحريَّة وليس طلاب الهويَّة. فالثقافة العربية، وبتأثير من عدم حسمها لمسألة الحريَّة وتقديمها على كلِّ المطالب الأخرى، كثيراً ما تعاني من الاستقواء عليها عبر فرض مفاهيم أخرى على مسارها، كإعطاء الأولويَّة للعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفقر، والشعور بالأمان، كما فعلت البلدان الاشتراكية، أو إعطاء الأولويَّة للهويَّة كما تفعل الإيديولوجيات القوميَّة والدينيَّة. وهذا كله يُغذِّي في النهاية هويَّة تقليدية مغلقة، ولا يساعد على نشوء هويَّة إنسانية قابلة لاستيعاب كلِّ الانتماءات المحليَّة ومجاراة التحوُّلات العالمية، والتفاعل الإيجابي معهما. ولعلَّ هذا ما يُفسِّر في النهاية عودة التعصُّب الهويَّاتي للسيطرة على المجال الثقافي العربي أكثر من أيِّ وقت مضى.

أمَّا السبب الثاني فيعود إلى أنَّ الثقافة العربيَّة المعاصرة ما زالت تعاني من هيمنة الجماعة على الفرد. فإذا كانت الثقافة الغربيَّة عموماً قد انتقلت بعد الحرب العالمية الثانية من إعطاء الأولويَّة للكيانات الاجتماعيَّة، من قوميَّة وأمَّة وغيرهما، إلى إعطاء الأولوية للفرد وحقوقه وانتمائه الثقافي، والدفع لأن يكون المجتمع هو الذي عليه أن يخدم مصالح الفرد ويحترم حريَّاته، وليس العكس، فإنَّ الثقافة العربيَّة المعاصرة ـ للأسف - لم تتمكن من إنجاز هذا الانتقال بعد. فما زالت قضايا الأمَّة والانتماءات الجمعيَّة والإيديولوجيات التي تعلي من شأن الجماعة على حساب الفرد تتسيَّد الساحة في الثقافة العربيَّة المعاصرة، وما زالت الواجبات أهمَّ بكثير من الحقوق، والحاجات المعنويَّة الاجتماعيَّة أهمَّ من الحاجات الماديَّة الفرديَّة. ولذلك فإنَّ الثقافة العربيَّة اليوم مدعوَّة إلى نوع من التوازن بين الاجتماعي والفردي، لا سيَّما أنَّ الشعوب العربيَّة دفعت الكثير بسبب تلك الانتماءات الجمعيَّة، ويمكن أن تدفع أكثر إذا لم يتمّ إعطاء نوع من المساواة بين مطالب الفرد في حياة كريمة تضمن له حقوقه واحترام عقائده وحياته الماديَّة، وبين مطالبه في أن يرى أمَّته وقوميَّته ودينه في أعلى المراتب الحضاريَّة.