إشكالية الجسد الأنثوي


فئة :  مقالات

إشكالية الجسد الأنثوي

تبوّأ الجسد مكانة رئيسة في الفكر النسوي، وهو الموضوع الأكثر حضورًا في المدونة السردية النسوية، وتواتر حضوره فيها يحيل على درجة كبيرة من الملازمة بين الجسد الأنثوي والسرد، وكل ذلك لم يقع بمنأى عن حضور المرأة بمختلف صورها، وقضاياها في الكتابة السردية. ويمكن الحديث عن موقع المرأة في السرد عبر مرحلتين مختلفتين: الأولى كانت الكتابة السردية النسوية فيها لا تميز بين كتابة الرجل والمرأة، والثانية ارتسمت فيها معالم الكتابة النسوية نتيجة وعي مختلف عما سبقه بخصوص أحوال المرأة، ورؤيتها المختلفة للعالم، ما وجد أثره ممثلًا بحضور المرأة، وموقعها في السرد النسوي.

إن التصوير الإباحي الذي يبالغ في إظهار جسد المرأة هو اختراع ذكوري، صُمّم للحط من قيمة النساء، واختزالهن إلى وسيلة جنسية

كشفت المرحلة الأولى عن نظرة نمطية للمرأة، وموقعها في الكتابة السردية، إذ تكرّرت صورتها المهمّشة، أو المستلبة، أو المظلومة، أو العشيقة التابعة، أو المومس، فهي غالبًا إما ضحيّة أو مضحيّة، وأشبه ما تكون بإطار زخرفي يجتذب المتلقّي، ويستثير غرائزه البدائية، فتكون مادة للمتعة واللذة، وعلاقتها بالرجل، إنما هي علاقة تابع بمتبوع؛ لأنها موضوع لاستمتاعه، وترسّخت معالم هذه الصورة، فحينما يُصرّح بضرورة تحرير المرأة من حالها السيئة، فما ذلك سوى احتيال ملتبس تقول به الثقافة الأبوية الذكورية، لا يراد منه غير توثيق تبعيتها للرجل، فتلك الدعوات لا تحرّر المرأة بالمعنى الصحيح لمفهوم الحرية، بل تريد إدراجها في عالم الرجل بوصفها جزءًا مكمّلًا له، وتأدى عن ذلك وصف مسهب للجسد الأنثوي، قابله إهمال واضح لكل ما عداه من قيم، وأفكار، وآراء، ومواقف.

تبيّن مدونة السرد الذي جعل من المرأة موضوعًا له اعتماد معظم الكتّاب على الوصف الحسي، والتصوير الجسدي. وحينما يغوصون في أعماق المرأة، فإنما لإظهار الهواجس التي تعاني منها، وبخاصة ما له صلة بتضخيم ما تواجه من صعاب جمّة في ظل الأعراف الاجتماعية، والعادات والتقاليد، مع التركيز على ضيق الحياة الشرقية، وسطوة القوانين الدينية، والرغبة في تسويغ أفعال المرأة وأعمالها بدعوى التحرر؛ على أن كل ذلك يأتي من منظور الرجل، وليس المرأة.

لم يقتصر الأمر على الثقافة العربية، ولم ينحبس في إطار السرد، بل له نظائر في الثقافات الأخرى، فقد توصلت "سوزان براونميلز" في سياق حديثها عن التصوير الإباحي الناتج عما يعتقد أنه حرية تعبير، إلى أن "الإناث في مسرح التصوير الإباحي يتم تصويرهن في دورين مميزين: عذارى يتم الإمساك بهن و"التعامل معهن بعنف" أو شرهات للجنس لا يشبعن منه أبدًا. وأشهر الخيالات الإباحية شيوعًا تجمع بين الاثنين: أنثى بريئة غير مدربة تتعرض للاغتصاب و"الممارسات غير الطبيعية" تحولها إلى شرهة ومتوحشة جنسيًا، ولا تشبع أبدًا من القضيب الضخم للذكر". وبالإجمال، فإن التصوير الإباحي الذي يبالغ في إظهار جسد المرأة هو اختراع ذكوري، صُمّم للحط من قيمة النساء، واختزالهن إلى وسيلة جنسية، فـ"الجسد الأنثوي العاري وسيلة التصوير الإباحي الدائمة، تستعرض فيه الأثداء والأعضاء الجنسية لأن الرجل صمم كل ذلك؛ فالجسد العاري هو "عار" الأنثى وأعضاؤها الحساسة هي الملكية الخاصة للرجل، أما أعضاؤه هو، فهي الأدوات القديمة، المقدسة، والخاصة بقوته، ليتحكم في الأنثى بالقوة والقهر".

وبأفول المرحلة الأولى، دُشّن للمرحلة الثانية، وفيها ظهر وعي مختلف تنامى وجوده مع تصاعد الحركات النسوية والنقد النسوي في العالم، ونتج عنه كتابات احتلّت فيها المرأة مكانة بارزة على خارطة السرد بوعي جديد، ورؤية أنثوية للعالم تختلف عن الرؤية الذكورية، ونقد للمجتمع الأبوي وقيمه المهترئة، واحتفاء بخصوصيّة المرأة، وعقلها، وجسدها، ورفض للنظرة التي ظلت زمنًا طويلًا تنظر إلى تلك الخصوصيّة على أنها انتقاص لها. وهذا ما يميّز الكتابة النسوية عن كتابة الرجال وكتابة النساء على حد سواء، فكتابة النساء قد تماثل كتابة الرجال في الموضوعات والقضايا العامة، وتكتب بمنأى عن فرضية الرؤية الأنثوية للعالم وللذات؛ بينما تتقصد الكتابة النسوية التعبير عن حال المرأة استنادًا إلى الرؤية الأنثوية للذات والعالم، ومن ثم نقد الثقافة الأبوية، وتفكيك النظام الأبوي، وفضح عجزه وقصوره، والنظر إلى جسد المرأة بوصفه مكوّنًا جوهريًا في الكتابة، وكل ذلك يتم في إطار الفكر النسوي.

شُغلت الحركات النسوية، والنقد النسوي بموضوع الجسد بشكل لافت في مسيرتها الساعية إلى تقويض النظام الأبوي، وتعرضت لقضايا أهواء الجسد، من اغتصاب وانتهاك، وكبت وتحرير، وحجب وكشف، ورغبات وآلام، فضلًا عن قضية الأمومة والإنجاب. وكانت معالجة "سيمون دي بوفوار" في كتابها "الجنس الآخر"، لمفهوم المرأة -كما تشكله الثقافة بوصفها "آخر"- هي التي أرست دعائم معظم الأعمال النظرية التي ظهرت في السبعينيات، فكان مما كتبته أن المرأة لا تولد امرأة، بل تصير امرأة، فليس ثمة قدر بيولوجي، أو نفسي، أو اقتصادي، يقضي بتحديد شخصية المرء كأنثى في المجتمع، ولكن مجموع الظروف الحضارية هي التي تكوّن هذا المنتوج المتوسط بين الذكر والخصي، ويوصف بأنه مؤنث، ذلك أن فئة الآخر جوهرية في صوغ الذات الإنسانية بكاملها، لأن إحساسنا بالذات لا يمكن أن يتكون إلا في مقابل شيء آخر غير الذات. لكن الرجال يستولون على فئة الذات أو الفاعل، ويجعلونها حكرًا عليهم، وينزلون المرأة منزلة الآخر إلى الأبد. ومن ثم، فإن فئة "المرأة" ليس لها وجود حقيقي، بل هي مجرد إسقاط لخيالات الذكر (أسطورة الأنثى الأبدية) ومخاوفه. ولكن نظرًا لأن كل التمثيل الثقافي للعالم المتاح لنا حاليًا- سواء في صورة الأسطورة أم الدين أم الأدب أم الثقافة الشعبية- من عمل الرجل، بل إن المرأة الحقيقية مطالبة بأن تقبل أنها "آخر" بالنسبة إلى الرجل، ويفرض عليها أن تجعل من نفسها مفعولًا وأن تنبذ استقلالها الذاتي.

أرست معالجة سيمون دي بوفوار في كتابها الجنس الآخر، لمفهوم المرأة دعائم معظم الأعمال النظرية التي ظهرت في السبعينيات

لقد ترسخت النظرة السالفة للمرأة بناء على تكوينها البيولوجي، وترتّب على ذلك وضعها في مرتبة أدنى من الرجل، منذ أن قامت "نظريات أرسطو طاليس بتصوير المرأة لا على أنها مجرد تابعة كضرورة اجتماعية، وإنما بوصفها أدنى فطريًا وبيولوجيًا من حيث قدراتها العقلية والبدنية، ومن هنا تصبح في وضع الخضوع والخنوع "بطبيعتها". وقد شابه حكم الرجل على المرأة بحكم "الروح على الجسد"، والعقل والعقلانية على العاطفة". وقد قال إن الذكر "بطبعه أعلى مرتبة والمرأة أدنى مكانة، وأحدهما هو الحاكم والآخر هو المحكوم"، وكان أرسطو يرى الجسد الأنثوي ناقصًا ومعيبًا، كما لو كانت المرأة "رجلًا عاجزًا؛ فالأنثى هي أنثى لوجود عجز ما في قدراتها". وعدّ اليونانيون مثلهم مثل الثقافات الأخرى "جسد الأنثى وتكوينها البيولوجي ملوّثًا للرجل، فحُرّم عليه لمسها أثناء حيضها أو بعد مخاضها، وحُرّم عليه دخول المعابد بعد مضاجعتها... حيث ذُكر أن كل ما يخرجه جسد الأنثى من عرق وبول ودم طمث نجاسة، بل إن مجرد لمس لبن الرضاعة لصدر الرجل يدنّسه". والحال هذه، فقد امتدّ هذا التأثير في النظر إلى جسد المرأة إلى الحضارات الأخرى الأوروبية والإسلامية، وسادت النظرة ذاتها.