إشكالية الكتابة عند ابن رشد


فئة :  مقالات

إشكالية الكتابة عند ابن رشد

إشكالية الكتابة عند ابن رشد

الديهاجي يونس

من بين الإشكالات التي تمت إثارتها في معرض هذا المقال، إشكالية أسبقية التأليف عند ابن رشد أو لنقل إشكالية كرونولوجية التلخيص عند فيلسوف قرطبة، حيث نرصد بشكل قوي أن ابن رشد يلخص الكتب الأرسطية دون أن يحتفظ بالترتيب الضروري لها كما وضعها أرسطو سابقا، وهو الترتيب الذي يجمع عليه جل الدارسين؛ مثل وولتر ستيس[1] ويوسف كرم[2] ألفرد إدوارد تايلور[3] والذين يتفقون في ترتيب النصوص الأرسطية وفق الترتيب التالي والمتمثل في الكتب "المنطقية: المقولات، العبارة، التحليلات الأولى أو القياس، التحليلات الثانية أو البرهان، الجدل، الأغاليط...، الكتب الطبيعية: السماع الطبيعي، السماء، الكون والفساد، الآثار العلوية، كتاب النفس، ثم الحس والمحسوس...، الكتب الميتافيزيقية: قسمت حسب حروف الهجاء من الألف إلى النون ...، والكتب الخلقية والسياسية: منها كتاب الأخلاق الأوديمية وكتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس. أما الكتب السياسية، فهي كتاب السياسة وكتاب النظم السياسية... أما الكتب الفنية، فهي الخطابة والشعر"[4].

نحن نعلم أن ابن رشد، بالرغم من تلخيصه للنصوص الأرسطية أو للنص الأفلاطوني كتاب "المختصر في السياسة لأفلاطون"، نجذه يتدخل نوعا ما في النص[5]، حيث يدلي بدلوه بأفكاره الخاصة ويقحمها في النص دون أن يفقد بذلك النص وحدته العامة، سواء كان النص لأرسطو أو النص لأفلاطون أو لابن سينا أو حتى للغزالي[6]، وبالتالي يبقى وفيا للنص، غير أن هذا التدخل في بعض الأحيان كان يخلق توترا للقارئ وللدارس معا على مستوى كرونولوجية التأليف، حيث يبقى فكره مشوشا حول أسبقية كتاب على كتاب أو أسبقية تأليف على تأليف، فكما هو معلوم أن الدراسات الحديثة، وخاصة تلك الدراسة البنيوية التي قام بها ألتوسير على ماركس[7] ومن بعده بعض الباحثين، تؤكد أنه يمكن رصد حركات تطور فكر الفيلسوف، وأن هذا الفكر يمر بثلاث مراحل: مرحل الشباب، ومرحلة النضج ومرحلة الكهولة، وغالبا هذا النوع من الدراسة يرتكز بشكل قوي على كتابات الفيلسوف المدروس، فتحدد حركية وتسلسل وترابط المواضيع والمفاهيم وكذلك الأطروحات التي يقدمها. أما في العالم العربي الإسلامي، فيعتمد في ذلك على كتب السير والطبقات والأمم كما يعتمد كذلك على كتابات الفيلسوف شخصيا، وهذا الأمر هو ما سنحاول رصده عند ابن رشد، فهل كرونولوجية كتابات ابن رشد تمكننا من تحديد التحولات الفكرية لابن رشد؟ بمعنى، هل ابن رشد وهو الأرسطي، سيخطو مع أرسطو النعل بالنعل أم إنه سيحاول أن يتخلص من أرسطو في بعض من جزئياته، ومنها الكتابة وفق تصنيف وترتيب أم إنه في تأليفه وتلاخيصه للكتب كانت هنالك دوافع أخرى تدفعه نحو تجاوز ذلك الترتيب المنطقي والمعرفي؟

نجد لهذا الإشكال ثلاثة مظاهر تؤكده: أولها يقدمها لنا ابن رشد نفسه في كتاب "مختصر في السياسة"[8] حيث يذكر لنا ما يلي " ... وأما هل يتأتى له أن يكون نبيا فهذا فحص دقيق ننظر فيه في الجزء الأول من هذا العلم إن شاء الله وقد يكون على جهة الأفضل لا الضروري"[9] فإذا عدنا إلى هامش النص وجدنا الأستاذ شحلان المترجم يذكر أن ورود كلمة إن شاء الله هنا، دليل قاطع على أن ابن رشد قد ألف "الضروري في السياسة" أولا ثم تبعه "مختصر الأخلاق" مع العلم أن نتائج الأخلاق توظف كمقدمات في السياسة وهذا هو المعروف منذ أرسطو، كما أن ابن رشد في بداية مختصره؛ أي المقالة الأولى منه يذكر أن هنالك علاقة بين الأخلاق والسياسة وأن الأخلاق سابقة ومقدمة على السياسة. أما المظهر الثاني، فنجده كذلك في نفس المقالة؛ أي المقالة الثانية من "الضروري في السياسة"، حيث يقول في الصفحة 142 ما يلي: "ونحن نرى أن معرفة هذا الأمر لازمة ابتداء ليغدو في إمكاننا بعد ذلك أن نقول شيئا شيئا مما سيتعلمونه؛ لأن من لا يعرف الغاية التي ينشدها، فهو بالضرورة لا يقدر أن يعرف ما سينتهي إليه سعيه، ومع أن الفحص في هذا هو مما ينبغي أن يبتدئ به في الجزء الأول من هذا العلم، فإنه لا بأس من أن نذكر شيئا من هنا فنقول...".[10] واضح أن ابن رشد هنا يؤكد بملء فمه أن الفحص في الغاية سيكون في موضع آخر غير هنا (مختصر السياسة لأفلاطون)؛ أي في كتاب"تلخيص أخلاق لأرسطو[11]" الذي سيفرد فيه القول بعد أن يفرغ من السياسة، وما يؤكد ما ذهبنا إليه هو أن الأستاذ شحلان وفي مقدمة كتابه "تلخيص أخلاق نيقوماخوس" يؤكد ما يلي: "انتهى أبو الوليد من تأليف تلخيص أخلاق نيقوماخوس سنة 1177م وهي نفس السنة التي أنهى فيها جوامع سياسة أفلاطون[12] إن ابن رشد ومن شدة قدرته العقلية الهائلة يتمكن من الكتابة في موضوع ما معتمدا على نتائج موضوع يتصل معه من الناحية المنطقية والعلمية دون أن يكون قد ألفه أو لخصه بعد، وهو هنا يستخدم حدة ذكائه وذاكرته التي اعتبرها مسألة أساسية يجب أن يتوفر عليها من يريد أن يصبح فيلسوفا، يقول في كتاب "مختصر في السياسة"[13] عن مواصفات الفيلسوف "إحداها، وهي أخصها، أن يكون بالفطرة مستعدا لتحصيل العلوم النظرية، وذلك يكون بالفطرة يميز بين ما هو جوهر وما هو عرض، والثانية أن يكون قوي الحافظة لا ينسى ومن لا يتصف بهاتين الصفتين، عري عن كل تحصيل؛ وذلك أنه يظل يجهد نفسه دوما، إلى أن ينتهي إلى الإعراض عن القراءة والنظر"[14]، توجد لدى ابن رشد هاته القوة الذهنية التي تساعده على القيام بهذا الأمر، لكن نجد حلا آخر للإشكال، وهو الذي ذكره الأستاذ الجابري في معرض مدخله لكتاب "مختصر في السياسة" حيث وجد أن الدافع نحو تأليف "المختصر" قبيل مختصر الأخلاق، وإن كان من الناحية العلمية والمنطقية يجب أن يكون العكس هو استعجال أمير قرطبة أبو يحيى الموحدي لابن رشد في أن يؤلف له الكتاب في السياسة، حتى يكون له نورا يهتدي به في طريق ممارسته للحكم بعد وفاة المنصور الذهبي الموحدي المريض، وهو الذي سيشفى من سقمه ويقطع الطريق أمام أخيه أبي يحيى وأعمامه، فيأمر بقطع أعناقهم بسلا. لكن هذه ليست هي المرة الأولى التي يقوم بها ابن رشد بهكذا نوع من عدم الترتيب في الكتابة وبالتالي تناول المواضيع في تسلسلها وترابطها المنطقي والعلمي أو حتى التقليدي على مستوى الكتابة الفلسفية، فنجد رزونتال ذكر في مقدمة كتابه "تلخيص السياسة"[15] أن ابن رشد قد ذكر في معرض تلخيصه للسياسة كتاب السماع الطبيعي خصوصا كتاب النفس، وهو لم يفرغ من تلخيصه، فرزنتال اعتمد على هاته الحجة، حتى يؤكد سنة تلخيص كتاب السياسة، وهي قبل سنة 1176م، وهي نفسها السنة التي لخص فيها كتاب النفس مما يعني أن كتاب تلخيص السياسة كان قبل ذلك، لكن المعربان للكتاب وهما الأستاذ لعبيدي والأستاذة الذهبي قد ذكرا في الهامش ما يلي: "هذا القول صحيح، حيث إن كثيرا ما يشير ابن رشد إلى كتاب السماع الطبيعي في أثناء تلخيصه لكتاب السياسة، وعند إشارته لذلك إنما كان يقصد كتاب النفس. ويبدو أن كتاب النفس لم يكن قد لخص بعد من قبل ابن رشد ..."[16].

إن ما يمكن قوله كخلاصة لهذه العناصر، إن ابن رشد كان ملما أشد الإلمام بمضامين نصوص أرسطو وأن كتاباته كانت مرتبطة بما يتوصل به من كتبه؛ بمعنى أن ابن رشد كان عندما يتوصل بأي عنوان أو نص كان يشتغل عليه في أفق أن يتوصل بباقي النصوص، حتى يتأكد مما يوجد لديه منها ومن نسبتها لأرسطو، كما أن كثرة المشاغل التي كانت على عاتقه من قضاء وتطبيب وغيرهما من تكاليف الدنيا كانت لا تسعفه في أن يحتفظ بالترتيب الضروري لذلك، لكن بقوته الذهنية يستطيع أن يربط بين العناصر ويجمع بينها، فتكوينه العلمي والفلسفي مكنه من هاته القدرة التي لا ينفرد بها سواه، وبالتالي فمسألة ترتيب الكتابة كدليل على تطور أفكار وأطروحات وإشكالات ابن رشد مسألة يصعب إسقاطها عليه، فالدافع نحو التأليف وعدم توفره على جل المصادر، وكذلك المهمة التي انتدب إليها من طرف الخلفاء الموحدين (عبد المؤمن ويوسف ويعقوب) والمتمثلة في رفع قلق عبارة أرسطو هي التي دفعته إلى هذا الشكل من الكتابة، والتي بالرغم من عدم احترامها للتسلسل المنطقي إلا أنها لم تفقد وحدتها وترابطها وتكاملها مع نصوص أخرى، بل إنه استطاع أن يطور من أفكارها ويقوم بمراجعتها وهذا ما أكده الأستاذ جمال الدين العلوي، وهو بصدد نشر رسائل فلسفية أصيلة لابن رشد في المنطق والعلم الطبيعي لم تكن معروفة وغير مذكورة لدى المفهرسين، سواء القدامى أو المحدثين[17].

[1] وولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ببيروت، الطبعة الثانية 2005

[2] يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت، بدون تاريخ.

[3] ألفريد إدوارد تايلور، أرسطو، ترجمة عزت قرني، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، أبريل، 1992

[4] يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم بيروت، طبعة جديدة بدون تاريخ، ص115

[5] يقول الأستاذ محمد المصباحي في معرض تقديمه لكتاب تلخيص الآثار العلوية لابن رشد "أما الأمر الثاني الذي كان يشغل المرحوم جمال الدين العلوي في تحقيقه لتلخيص كتاب الآثار العلوية فهو تعقب مواضع اتفاق ابن رشد واختلافه مع أرسطو أو إضافته لأفكار ومقاربات لم تكن وارد لدى المعلم الأول..." ابن رشد، تلخيص الآثار العلوية، تحقيق جمال الدين العلويـ تصدير محمد سي ناصر، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1994، ص8

[6] يقول الأستاذ محمد المصباحي "إن استعمال مفهوم بكل هذه الحمولة المذهبية سيؤثر بدون شك على لغة ومضمون النص المشروح (كتاب السياسة). بيد أننا لا ننكر أن وفاء ابن رشد للنص الذي كان بين يديه فرض عليه الحفاظ على مناخ التضاد الذي كان يسود بين الجسم والنفس... الذي طبع محاورة الجمهورية" محمد المصباحي، مع ابن رشد، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، الطبعة الأولى2007، ص82

[7] http://post2modernisme.blogspot.com/2018/06/blog-post_27.html

[8] ابن رشد، أبو الوليد، الضروري في السياسة مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العبرية إلى العربية الدكتور أحمد شحلان، مع مدخل ومقدمة تحليلية للمشرف على المشروع الدكتور محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الرابعة2015

[9] نفسه، ص ص 137و 138

[10] نفسه، ص142

[11] ابن رشد، تلخيص أخلاق أرسطو (الأخلاق إلى نيقوماخوس)، ترجمه من العبرية وحقق نصه وقابله بالأصل الإغريقي أحمد شحلان، الطبعة الأولى 2018

[12] نفسه، ص11

[13] ابن رشد، أبو الوليد، الضروري في السياسة مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العبرية إلى العربية الدكتور أحمد شحلان، مع مدخل ومقدمة تحليلية للمشرف على المشروع الدكتور محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الرابعة2015

[14] نفسه، ص137

[15] ابن رشد، تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية) نقله إلى العربية حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1998، ص42

[16] نفسه، ص 42

[17] ابن رشد، رسائل فلسفية "مقالات في المنطق والعلم الطبيعي"، تحقيق جمال الدين العلو، دار النشر المغربية الدار البيضاء1983، ص33.