الأشكلة في الفلسفة اليونانية بين النموذجين السقراطي والأفلاطوني


فئة :  مقالات

الأشكلة في الفلسفة اليونانية  بين النموذجين السقراطي والأفلاطوني

الأشكلة في الفلسفة اليونانية

بين النموذجين السقراطي والأفلاطوني

لا يمكن للمتأمل في تاريخ الفلسفة والناظر في حركة تطورها ومسار تشكلها عبر الزمن، إلا أن يؤكد حقيقة اقتران نشأتها مع انبثاق فعل الأشكلة وتطوره عبر سياقات تاريخية مختلفة، أفرزت إشكالات سلط الفلاسفة عليها الضوء، وتناولوها بسطا وتحليلا باستعمال اللغة والأسلوب المناسبين لروح عصرهم. فمنذ بداية تشكل الفكر الفلسفي عند اليونان، نجد الأشكلة حاضرة مع طاليس الذي لم يتقبل فكر الآلهة المتعددة والقوى غير الطبيعية، ليطرح إشكال أصل الكون ويمهد لقيام الفلسفة ما قبل السقراطية، لكن الأشكلة ستأخذ مسارات أخرى مع سقراط والفلاسفة من بعده، وهذا ما سنعرض له في هذا المقال في محاولة للإجابة عن تساؤل: كيف حضرت الأشكلة لدى سقراط وأفلاطون؟ كيف تمثلا عملية الأشكلة ومارساها في مختلف إنتاجاتهم الشفهية والكتابية؟ هل يمكن الحديث عن تطور لمفهوم الأشكلة مع تقدم تاريخ الفلسفة؟

شكلت الفلسفة اليونانية المحطة الأولى في تشكل الفكر الفلسفي، ولحظة خروجه من حالة الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل بتعبير أرسطو، ولا يمكن لكل من يشتغل في حقل التفكير الفلسفي أن ينكر أهمية الإشكاليات الفلسفية التي أثارها كبار الفلاسفة اليونان، وعلى رأسهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، سواء في مجال الوجود أو الأخلاق أو المعرفة، في مرحلة كانت فيها الفلسفة في بداية التأسيس لذاتها كفكر عقلاني مستقل عن التفكير العلمي من جهة، ومقابل للتفكير الأسطوري السائد حينئذ من جهة أخرى، وما يهمنا هنا ليس بسط تلك الإشكالات وتحليلها، بل هو الوقوف على كيفية بنائها؛ أي رصد حضور مفهوم الأشكلة تصورا وممارسة لدى الفلاسفة اليونان، وخصوصا سقراط وأفلاطون.

1- الأشكلة عند سقراط:

يمكن القول إن الأشكلة هي قطب الرحى في فلسفة سقراط، فهو لم يسع في فلسفته إلى بناء أنساق فلسفية وإثباتها بما يناسبها من حجاج تمنحها قوة إقناعية لكل من يطالعها، كما أنه لم يهدف في محاوراته العديدة إلى تقديم إجابات يفحم بها خصومه بقدر ما كان يسعى لاستفزاز العقول لطرح الأسئلة واستشكال البداهات التي تكون راسخة في ذهن محاوريه. لقد كان التساؤل والاستشكال حاضرا في صميم الممارسة الفلسفية لسقراط، فهو جعل من التساؤلية l’interrogativité القيمة العليا للفكر، ومع وفاته اختفت هاته الفكرة وحل محلها الأنطولوجيا أو ما يسميه ميشيل مايير Michel Meyer بلوغوس النموذج القضوي [1] le logos du modèle propositionnel، وأصبح التساؤل موجها لخدمة القضية أو العبارة، بل تم اختزاله إلى مجرد ملحق خطابي أو سيكولوجي.

لم تكن غاية سقراط من المحاورات التي أجراها الوصول إلى حقيقة يقينية، أو بناء معارف صلبة، بل كان يتساءل مع محاوريه لكي يبرز لهم أنهم يجهلون ما يعتقدون أنهم يعرفونه، وبما أنه يعرف بأنه لا يعرف شيئا، فإن المشكل يظل في نهاية المطاف بلا حل.[2] بهذا نفهم محاوراته الإحراجية aporétique كاحتجاج ضد الحظوة الاجتماعية التي كان يملكها من يعرفون بالأعيان، وهم أولئك الذين يقدمون آراء تتخذ مظهر الحقيقة. وقد شكل السوفسطائيون جزءا من هؤلاء الأعيان، الذين مكنتهم الديمقراطية من احتلال موقع اجتماعي بارز؛ إذ يتحدثون بصفتهم معلمين مالكين لليقين التام، وهذا بالضبط ما كان سقراط يستهدفه من خلال محاوراته، حيث أدى التساؤل الجدلي لديه وظيفة اجتماعية عبر الاهتمام بقضايا أخلاقية وسياسية، من قبيل هل يمكن تعلم الفضيلة «areté»؟ وهل نحتاج حقا إلى معلم كي يلقننا إياها؟ وتأتي قولة سقراط الشهيرة «اعرف نفسك بنفسك» لتؤكد أن الحكمة توجد داخل الذات لا خارجها، وهي حاضرة عند كل إنسان وليست امتيازا لمن يوجدون في وضع اجتماعي أفضل، فعبارة «اعرف نفسك بنفسك» تعني «فكر لنفسك بنفسك». إنها دفاع عن حرية التفكير ونسف للأساس الذي تقوم عليه السيادة المزعومة للأعيان. والذين وجدوا أنفسهم بتأثير هاته القولة لا يعرفون أكثر مما يعرف آخر شخص في المدينة. لقد قلب التساؤل السقراطي نظام المدينة في أثينا، ونسف ادعاء المعرفة الذي كان يتغنى به الأعيان[3]، من هنا يؤكد مايير على الوظيفة النقدية للتساؤل السقراطي في محاوراته الإحراجية[4]؛ ذلك أن هذه الحوارات تتضمن تبادلا للأدوار بين المتحاورين، يلعب في كل مرة أحد الطرفين دور السائل أو المجيب، وهنا لا يحق لنا أن نتحدث عن امتياز يملكه أحدهما دون الطرف الآخر، فقد وضع التساؤل طرفي الحوار معا في نفس المرتبة وساوى بينهما، وبهذا المعنى فإنه؛ أي التساؤل، لا يؤدي إلى المعرفة، وإنما يُبقي على الطابع الإشكالي la problématicité للموضوع المتداول، وهذا ما يمنح حواراته طابعا إحراجيا. لكن سقراط، على خلاف السوفسطائيين، لا يتبنى هاته القضية أو تلك من أجل المال. إنه يتساءل ويبقي التساؤل مفتوحا. يجسد التساؤل عند سقراط إذن، بداية للأشكلة وطريقا لها، فهو يؤدي إليها ولا ينهيها؛ إذ يتقمص السائل في المحاورة دور التلميذ الذي يتوجه إلى معلم، ولا يكون الهدف من سؤاله اكتشاف الجواب، وإنما إتاحة الفرصة للمعلم لكي يتأكد من تفوقه الوجودي كمعلم على التلميذ. إن الجدل السقراطي يؤدي هنا وظيفة نقدية، فهو يهتم بالسؤال أكثر من اهتمامه بالجواب، وهذا ما جعل سقراط ممتنعا عن الكتابة. إنه لا يريد أن يثبت بقدر ما يريد أن يتساءل، والقوة التساؤلية للوغوس السقراطي ظلت حاضرة في كل محاوراته[5]، وهذا اللوغوس يقوم على فكرة تبادل الأدوار التي أشرنا إليها سابقا؛ إذ يتحول داخل المحاورة السقراطية كل سائل إلى مجيب، والعكس صحيح، فالمشاركون في الحوار يضعون أسئلة، ويجيبون عنها، وهكذا يتقدمون في النقاش ويفهم بعضهم بعضا، وحينما يلعب أحدهم دور السائل، يتخذ الآخرون وضعية المجيب. وما يتم تقديمه كجواب يعتمد على المحاور الذي يثبته، فإذا بدا أن هذا الجواب مشكل في ذاته، فإن هذا الأمر لا يكون مشكلا بالنسبة إلى المتحاور الآخر. إن اللوغوس السقراطي إثباتي apocritique وإشكالي problématologique في نفس الوقت، فكل إثبات يمكنه أن يصير إشكاليا، وهذه القابلية للأشكلة problématicité تفرض نفسها على السائل، حيث قد يتحول كل جواب إلى مشكل، ويظل هذا التحول حسب مايير خاصية ملازمة للوغوس السقراطي الذي يتضمن وحدة بين الإثباتي والإشكالي، هذه الوحدة تعبير عن اختلاف يتحقق تناوبيا بين المتحاورين في علاقة جدلية.[6]

لقد أبان التساؤل السقراطي عن ثنائية الجهل الذي يأخذ مظهر معرفة، والمعرفة التي تعرف نفسها أنها جهل، فللجهل مظهر المعرفة في حين أن المعرفة بما هي تأكيد لجهل سقراط هي معرفة واقعية. والتساؤل السقراطي هو تفجير لهاته الثنائية، إذ يحطم المظهر والواقع. إنه يفترض التعددية؛ لأن الإجابة محفورة في فضاء من البدائل. يولد التساؤل دائمًا على خلفية تعددية، وهو يستهدف الحصول على الإجابة؛ أي إجابة واحدة، من هنا نفهم أن معنى التساؤل السقراطي هو حذف التعددية، حذف المظهر للوصول إلى الوحدة، فالتعدد هو مظهر السؤال في حين أن الوحدة هي الفكرة الحقيقية للإجابة. إن السؤال السقراطي يقوم على وحدة المفاهيم المتداولة، فإذا كان الأمر يتعلق بموضوع "س"، فإن سقراط يتساءل دائما ما هو "س"؟ وهو يتطلب جوابا ينهي التعددية المفترضة؛ إذ يبحث بشكل صريح عن كشف مظهر الحقيقة داخل الخطاب[7]، إن كل سؤال حول موضوع "س" يتطلب دائما الإجابة أولا عن سؤال ما هو "س"؟ فالسؤال مثلا: هل الفضيلة نافعة؟ يتطلب طرح السؤال: ما هي الفضيلة؟ هذه الجذرية radicalité في التساؤل تستدعي أشكلة كل شيء، وهذا هو معنى الجدل عند سقراط. إن السؤال ما هو "س" لا يكون ممكنا ولا يمكن طرحه إلا بوجود افتراضات متعددة، فهاته التعددية التي تعني أنه يقبل ما لا نهاية له من الأجوبة الممكنة، هي نفسها ما يسمح بظهور السفسطة، لكن سقراط على خلاف السوفسطائي لا يقوم بتغيير موقفه، واللعب تارة على معنى وتارة أخرى على معنى آخر، وإنما يسعى إلى تثبيت تعريف أو معنى واحد في بقية المحاورة[8]، دون أن يعني هذا الأمر نهاية التساؤل، فالطابع الإشكالي للموضوع يظل حاضرا إلى آخر المحاورة، وفعل التساؤل لا يستهدف التوقف عند إجابة محددة وإنما غايته الأولى أن يكشف لمن يدعون امتلاكها أنهم مخطئون، فالسؤال يظل في نهاية المحاورة كما هو. أما المتحاور، فلا.[9] إنه يكشف عن زيف الإجابات الخاطئة التي يدعيها السوفسطائي؛ لأنه سيعرف أنه لا يعرف شيئا، من هنا يظل اللوغوس السقراطي إشكاليا، وتظل إجاباته أسئلة، وإذا كان التساؤل عند السوفسطائي بلاغيا بامتياز بالنظر إلى كونه يقدم تبريرا لإجابات قبلية، فإنه عند سقراط يمنع من تأكيد إجابة محددة، فأجوبته لا توجد إلا لأجل طرح أسئلة جديدة، وهذا ما يفسر إلى حد كبير امتناع سقراط عن الكتابة.[10]

من هنا يرى مايير أن سقراط قد أسس لبيداغوجيا تساؤلية ومخادعة؛ لأنه يسأل ويرفض تقديم الجواب[11]، فهو لا يؤمن بوجود جواب لا يقودنا مرة أخرى إلى طرح السؤال الأصلي وإبقائه مفتوحا وغير قابل للحل أبدا[12]. إنه يسعى إلى القذف بمحاوريه في حالة من الإحراج والارتباك مقتربا من صورة الجني الذي يزعج الأثينيين في سكينتهم، ويضعهم في تناقض مع ذواتهم[13]، وهذا ما جاء على لسان محاوره مينون الذي يقول في المحاورة التي تحمل اسمه:

"لقد سمعت عنك يا سقراط قبل أن ألتقيك أنك لم تفعل شيئًا سوى أن تجد الصعوبات في كل مكان وتجعل الآخرين يجدونها، في هذه اللحظة بالذات، أدرك الأمر جيدا؛ لأنني لا أعرف ما هو السحر وما هي المخدرات، من خلال تعويذاتك، لقد سحرتني جيّدًا لدرجة أن رأسي مليء بالشكوك. أجرؤ على القول، إذا سمحت لي بمزحة، أنك تبدو لي تمامًا، في المظهر وكل شيء آخر، شبيها بتلك السمكة البحرية الكبيرة التي تسمى الرعاش أو الطوربيد. يخدر على الفور أي شخص يلمسه أو يقترب منه، هكذا يبدو لي ما أنت الآن فاعله معي. ذلك أنني فعلًا وحقًا أشعر أني قد خُدّرتُ نفسًا وجسمًا، ولم أعد أملك الإجابة عن أسئلتك".

لقد كان التهكم السقراطي، في جوهره، منهجا استفهاميا وتساؤليا، يؤدي غالبًا إلى إحراج يصعب إيجاد مخرج منه. ففي محاورة هيبياس الأكبر Hippias، على سبيل المثال، لم يتم اكتشاف التعريف المنشود والمتوقع لمفهوم الجمال، وهذا يعني أننا إزاء نوع من المقاربة الإحراجية، والتي ترسم ملامح المقاربة الفلسفية في نواتها التأسيسية[14]عند سقراط، حيث فعل التفلسف لا يبتغي الوصول إلى حل الإشكالات بقدر ما يبتغي إثارتها والتنقيب عنها، وإزاحة زيف ادعاء المعرفة لدى الأنا والغير معا.

2- الأشكلة عند أفلاطون:

إذا كان فعل الأشكلة عند سقراط يحتل مكانة مركزية في ممارسته الفلسفية، إلى درجة أن اهتمامه بطرح الأسئلة وتوليد بعضها عن بعض يدفع بنا إلى القول إنه كان يسائل السؤال[15]، فإن أفلاطون سيؤسس من بعده لفعل فلسفي آخر لن تكون فيه للأشكلة ذات المكانة؛ إذ سيفقد عنده الفعل التساؤلي قيمته داخل الجدل، والتي كانت له مع سقراط، ولن يعود الجدل تساؤليا، وإنما تحول إلى منهج للتوصل إلى حقيقة ما. وإثبات ما يمكن اعتباره حقيقة أو واقعا. وهنا يذهب مايير في تأكيد اختلاف أفلاطون عن معلمه سقراط، إلى درجة اعتباره مالكا لنزعة تحكمية autoritarisme، أقرب ما تكون لتلك التي كانت لدى خصوم سقراط[16]. وقد توقف مايير طويلا عند محاورة مينون Ménon وعند المفارقة التي تتضمنها؛ إذ من جهة يرى أفلاطون في هذه المحاورة أن التساؤل لا يقود إلى معرفة مستبعدا كل دور إيجابي له في اكتساب المعرفة. فماذا تقول هاته المفارقة؟

في هاته المحاورة الشهيرة لأفلاطون يطرح سقراط مشكل اكتساب المعرفة مع محاوره مينون؛ إذ يؤكد هذا الأخير في جواب عن سؤال تعريف الفضيلة، وإذا كان بالإمكان تعلمها، أن الإنسان إذا كان يعرف الفضيلة، فلا داعي لكي يبحث عنها، وإن كان يجهلها، فكيف يبحث عن شيء لا يعرفه أصلا كيف هو؟ وهنا تكمن المفارقة، فإذا كنا نعرف ما نبحث عنه، فلا نحتاج إذن للبحث، وإذا كنا نجهله، فهذا غير ممكن. (غير ممكن أن تبحث عن شيء لا تعرفه أصلا). باختصار الحقيقة والتساؤل هما حدان متناقضان antinomiques. والفلسفة لا تكثرت لهذا الأخير، كيف يمكن أن نتعلم ما نجهله؟ كيف نتقدم نحو إجابات جديدة إذا كان التساؤل هو الوسيلة غير المجدية أو غير المستحيلة لاكتشافها؟ كما نعلم، يقدم أفلاطون الحل لهاته المفارقة من خلال نظريته في التذكر la réminiscence، أنا أعرف كل شيء مسبقا، ولكني نسيته في هذه الحياة الأرضية والجسدية. إذن، أنا أعرف الإجابات ومن الممكن أن أجدها، يجب علي فقط أن أتذكرها؛ لأن جسدي قام بإخفائها[17]، لكن مايير يرى أن الحل الأفلاطوني ليس مقنعا البتة، وهذا لأنه يعيد طرح مفارقة التساؤل التي من المفروض أن يحلها. إذا كنت أجهل ما يجب علي تذكره، فكيف لي أن أتوصل إليه؟[18]

بالنسبة إلى مايير، سيقوم أفلاطون بقتل الأب "سقراط" مفضلا الجواب عن السؤال ومؤسسا لما يسميه بالعقلانية القضوية rationalité propositionnelle؛ إذ سينتهي أفلاطون بالاحتفاظ فقط بالسؤال حول ما يجعل من الجواب جوابا. إن الجدل عند سقراط يتخذ شكل تساؤل يقود إلى إثبات حقيقة واحدة، وهي الإقرار بالجهل، وكل ادعاء للمعرفة ينبغي ألا يحيد عن هذا الإقرار. أما عند أفلاطون، فإن التذكر آلية سيكولوجية تنضاف إلى آلية منطقية تكمن في المنهج الفرضي méthode par hypothèses لتمكننا من التوصل الى الحقيقة. لم يعد الجدل منصبا على التساؤل، بل جعل من التساؤل وسيلة لتأكيد معرفة ما.[19] لقد أسس أفلاطون لنظام قضوي ordre propositionnel منغلق على ذاته تتوالد فيه الأجوبة من تلقاء ذاتها، وهي أحكام أو قضايا مكتفية بذاتها تشبع رغبة الإنسان في التعلق بيقينيات تخلصه من قلق السؤال.

تؤكد نظرية التذكر عند أفلاطون أن التساؤل غدا مجرد وسيلة لبعث معرفة أو حقيقة مدفونة في أعماق النفس، وتتعزز هاته النظرية بالمبدإ السقراطي الشهير "اعرف نفسك بنفسك"، فحين يتذكر الإنسان ما كان يعرفه، فهو في الحقيقة يتعلم ما كان يجهله، وهنا يرى مايير أن أفلاطون يريد أن يؤسس لتصور للجواب، يقضي على كل إمكانية للرجوع إلى ما يجعل من القول أمرا قابلا للأشكلة [20]la problématicité du dire؛ فهو يجعل من الجدل مكانا لتبرير لوغوس يركز على الابيستيمي Epistémè ويخلو من كل إمكانية للأشكلة، من هنا يرى مايير أن أفلاطون خلص اللوغوس من الأشكلة، وهنا يقول مايير إن التساؤل الفلسفي مات مع أفلاطون، وأصبح أنطولوجيا؛ لأن مشكل اكتساب المعرفة انتقل في نظرية التذكر الأفلاطونية من مجال التساؤل إلى مجال الوجود "الأنطولوجيا"؛ أي إن المشكل كامن في العلاقة بين المحسوس واللامحسوس؛ ذلك أن الاتصال مع العالم المحسوس هو سبب تعلمنا شيئا ما، لكن ليس الشيء المحسوس هو مصدر المعرفة، فالتذكر يعلمنا أننا نسينا ما كنا نعرفه، وندرك من خلاله أن الفكرة أو المثال l’Idée كانت موجودة قبل المحسوس. لهذا يعتبر أفلاطون أن السؤال يعبر عن مسافة بين المحسوس والمعقول، متصورا أن غاية الجدل تكمن في تخليص المعرفة من المحسوس[21].

هكذا يبرز مايير الانتقال الذي حصل من سقراط إلى أفلاطون على مستوى التساؤل والاستشكال ومكانتهما في فعل التفلسف، حيث غدا التساؤل عند أفلاطون مجرد مناسبة لإعمال آلية التذكر، وهي علة يصفها مايير بالمناسباتية cause occasionnelle [22] لاسترجاع معارف كانت منسية من قبل، وهذا يعني كبتا للتساؤل وانتقاصا من قيمة الأشكلة une dévalorisation de la problématisation[23]، إلا أن هذا لا يعني أن أفلاطون قد ينجح في تخليص نظريته من الأشكلة، فالجدل الذي اقترحه لا يقدم صيغة نهائية للخروج من مأزق التساؤل، بل هو منهج للمعرفة الحقة بوصفه في نفس الوقت فن التساؤل الجيد والإجابة الجيدة من جهة، ومن جهة أخرى فن التوحيد والتقسيم في نظام الأفكار. [24] من هنا نفهم أن التساؤل والإجابة، إنما يوجدان بهدف إثبات حقيقة ما، فهاجس الإثبات هو ما يحرك أفلاطون لا هاجس التساؤل والأشكلة، وما يسميه مايير بالاختلاف الإشكالي la différence problématologie أي الاختلاف سؤال- جواب، يذوب في نسق فلسفي قضوي يركز أكثر على الماهيات والأحكام مهملا إلى حد كبير السؤال والسؤال عن السؤال.

يبدو من خلال ما سبق عرضه، كيف خضعت عملية الأشكلة لتحولات جذرية من سقراط إلى أفلاطون، فإذا كانت الممارسة السقراطية تبدأ من الأشكلة وتنتهي إليها، فإن أفلاطون قد جعلها منطلقا لبناء نظريته في التذكر، وهذا التحول طبع تاريخ الفلسفة حسب مايير منذئذ، إذ اختفى مع سقراط النموذج القائم على الاستشكال وساد النموذج القضوي، حيث ينطلق الفيلسوف من الأشكلة والتساؤل محولا البداهات السائدة لدى عموم الناس إلى موضع سؤال، لكنه ينتهي ببناء نسق نظري يغيب فيه عنصر السؤال وتنتصر فيه لغة الإثبات على لغة الاستفهام، وهذا يجعل بعض الفلاسفة أبعد ما يكون عن طبيعة وروح فعل الفلسفة والتفلسف، فلا مجال للحديث عن فلسفة تسعى إلى الإثبات أكثر ما تسعى إلى السؤل والاستشكال. إن الفلسفة تنتهي وتعلن عن موتها الحتمي حينما تتوقف عن التساؤل، فتهدم اليقينيات الراسخة في أذهان الناس لتبني يقينيات أخرى، وكأن الفيلسوف بفعله هذا يهدم أصناما قديمة ليضع أصناما أخرى بديلة عنها.

[1] Meyer, Michel, de la problématologie, philosophie, science et langage, édition Pierre Mardaga ; Bruxelles, 1986, p 71

[2] Ibid; p 72

[3] Ibid ; p 73

[4] Ibid ; p 74

[5] Ibid ; p 76

[6] Ibid ; p 79

[7] Ibid ; p 88

[8] Ibid ; p 89

[9] Ibid ; p 89

[10] Ibid ; p 89

[11] Jean François Robinet, La philosophie et ses pédagogies, in l’école des philosophes, CRDP Lille, Juin 1991 p 93

[12] Meyer, Michel, le philosophe et les passions, PUF, Paris, 1991, p 6

[13] Russ, Jacqueline, les méthodes en philosophie, Armand Colin, 1992 p 33

[14] Ibid, p 30

[15] Philippe, Danino, Le problème philosophique en question: penser l’obstacle, produire l’obstacle, articel disponible sur le lien : Colloque sur l'enseignement de la philosophie au lycée - Association des professeurs de philosophie de l’enseignement public (appep.net)

[16] Meyer, Michel, de la problématologie, op cit; p90

[17] Meyer, Michel, de la problématologie, Que sais-je ? PUF, p. 9

[18] Ibid, p 9

[19] Meyer, Michel, op cit p80

[20] Ibid, p 83

[21] Ibid, p 91

[22] Ibid, p 95

[23] Ibid, p 105

[24] Ibid. p 111