الإخوان المسلمون، الدولة والمجال العام


فئة :  مقالات

الإخوان المسلمون، الدولة والمجال العام

يوما بعد يوم، وفي ظلّ حكم "الإخوان المسلمون" لمصر، يتسرب مزيجٌ سام لمواجهة الثورة على خطوط معركة السيطرة على المجال العام؛ حاليًا، يبدو جليا أن أحد الأهداف الرئيسة للثورة، وإحدى معاركها الشرسة يتلخصان في استعادة المجال العام وإعادة تأسيسه.

في هذا المقال، سأحاول أن أوضح كيف تعمل فكرة المجال العام على مقاومة النزعات الاختزالية لآليات العملية الديمقراطية، وفي المقابل كيف يراهن "الإخوان المسلمون" على السيطرة على أجهزة الدولة، والأهم من ذلك، سلوكهم طريق النظام السابق ذاته فيما يتعلق بقمع ومحاصرة الحق في حرية التعبير. وفي أكثر الرؤى تفاؤلا، يحاول الإخوان المسلمون قمع مسار الثورة والدفع باتجاه عملية ديمقراطية تمثيلية، تختصر التفاعل الاجتماعي والسياسي في إطار آليات انتخابية محددة .

"المجال العام والديمقراطية التشاركية"

تفترض الفكرة الجوهرية للمجال العام، تَوَفُّر أكثر من عنصر من عناصر الحرية المكوِّنة في مجموعها للمناخ الديمقراطي، مثل حرية تداول المعلومات وحرية التعبير والتصرف، وحق الاجتماع والحقّ في توفّر المساحة لهذه التجمّعات. وتتأسّس هذه الفكرة على سلوك اجتماعي وفردي قائم على التحاور والنقاش والتفاوض حول مصالح الجُمُوع، وصولاً إلى الهدف النهائي المتمثل في التأثير في عملية صنع القرار في أجهزة الدولة المختلفة. ووفق بعض التعريفات، فإنّ المجال العام هو تلك المساحة؛ حيث تدور النضالات الاجتماعية وتُطرح بقوة، وحيث يُطلَق العنان للرغبة وللعاطفة لجموع الشعب، وحيث تتشابك الاختلافات بأشكال سجالية عِوَضاً عن أن تكون صِدامية. أكثر من ذلك، فإنّ المجال العام يحتّم النظر للاختلافات نظرة إيجابية باعتبار أنها اختلافات، وليست تشقّقات أو تصدعات في جسد المجتمع.

"الأبنية الشجرية"

يتشارك "الإخوان المسلمون" مع الدولة في أبنية تنظيمية هرمية يُرمَز إليها بـ"الأبنية الشجرية"، غير أنه لا يجدر الخلط بين منظومة الحكم وأجهزة الدولة، كون هذه الأجهزة هي لاعب أساسي داخل الدولة، وليست الدولة برمّتها.

و"الأبنية الشجرية" هي بالتعريف والطبيعة: أوليجارشية وهرميّة وثنائية. وتعكس هذه الأبنية أنماطا تنافُسيةً محدَّدة ومعروفة سلفا بين الحاكم والمحكوم. كما يعمل كل من تنظيم "الإخوان المسلمون" والدولة على تطويع وتوحيد رعاياهما، وتسكينهم في مختلف مدارج التنظيم الهرمي لكل منهما. وغالباً ما يتم التعاطي مع التشققات في الصفوف من خلال محاولات إما إقصائية أو تنميطية تهدف إلى إعادة تطويع الفرد ليتناسب من جديد مع التنظيم، وإلا عزله عن التنظيم باعتباره جرثومة أو ثغرة في الجدار التنظيمي. وتعمل "الأبنية الشجرية"، حين تحاول أن تكون ديمقراطية، من خلال ديمقراطية تمثيلية - نيابية - تحدّ من المشاركة السياسية والاجتماعية وتختصرها في صيغ محدَّدة، مستبعدة الفعل المباشر للحشود أو الأفراد في عملية صنع القرار؛ وبالتالي، فإنّ المشاركة السياسية دائماً ما تكون موسمية وعرضية ومحاصرة إلى حدّ كبير بمقتضى آليات الانتخاب.

وتهدف إعادة اكتشاف المجال العام إلى ممارسة هجوم مضادّ في وجه الدولة وجهدها في إخضاع الشعب، وذلك من أجل السماح بتدشين ديمقراطية تشارُكية جذرية، ديمقراطية يكون فيها الأفراد والمجموعات قادرين دائماً على إعادة توجيه عملية صناعة القرار و التأثير فيه. وعلى العكس من ذلك، تهدف "الأبنية الشجرية" إلى الحفاظ على التراتبية والتدرج الهرمي والانضباط، والحيلولة دون حصول انشقاقات، وإنتاج نماذج معيارية لإصدار الأحكام سواء على الأفكار أو الأشخاص أو التجارب المختلفة.

وتجدر الإشارة إلى أن أجهزة الدولة، تشهد حالياً اضطراباً قوياً في صميم بنيتها. وإلى درجة معيّنة، يمكن القول إنّ هذه الأجهزة لا تعمل كشجرة (بمعنى التدرج الهرمي و الانضباطية التنظيمية)، بل بالأحرى كأرخبيل يقوم التواصل فيه على بقايا الدولة، وهذا الأرخبيل ومعه "الإخوان المسلمون" يقومان بمحاولة مستمرة لإعادة إرساء شرعية الدولة القائمة فقط على القوة المادية، ثم محاولة بعثها كأسطورة و إطار جامع متجاوز ومفارق للعام المادي وله قدسية الإله.

وعلى العكس من ذلك الانهيار الذي أصاب جهاز الدولة، نجح "الإخوان المسلمون" في تجنب تأثير الأمواج الثورية المتتالية حتى الآن، من دون أن تطرأ انشقاقات حقيقية على بنيتهم الأساسية، وقد نجحت الجماعة في الحفاظ على التدرج الهرمي والنظام داخل بنيتها التنظيمية، وفي تحديد محور ونقطة ارتكازٍ تعود إليه كامل سلسلة القيادة.

وتنظر الدولة إلى الحشود على أنها مصدر خطر، وترى في الاختلافات تشققات وانعدام للاستقرار، وتعتبر التعددية قوة تدميرية. ولم يكن التوافق إبان عهود ما قبل الثورة نتيجة لنقاش شرعي وعام، بل كان ناتجاً عن خطاب النظام السياسي وسرديته والتصاق بعض النخب به وبجهاز الدولة كما كان الحال في تسعينيات القرن الماضي في حرب النظام مع ما تم تسميته بالإرهاب الإسلامي.

وإذا نظرنا إلى كيفية إعادة هندسة المدينة، تحديداً في عهد عبد الناصر وحتى الآن، سوف ندرك كيف أنّ الفضاءات العامة لم تُنشأ للسماح بالتجمعات، بل للانتقال السريع من مكان إلى آخر، كما تمت محاصرة الميادين، ولم يسمح قانون الطوارئ بحق الاجتماع لأكثر من خمسة أشخاص. وعلى مستويات صغرى جداً، هناك صراع دائم بين الأمن والشباب في احتلال بعض المساحات للعب كرة القدم على الرغم من اتساع المساحات للهو والتجمع.

لقد تمّ حظر النقاشات السياسية في المقاهي، ولم تكن النوادي الاجتماعية هي الأماكن المناسبة لمناقشة الشؤون العامة، وصارت أدوات لترسيخ وضع طبقي في المجتمع أو لتصعيد كوادر للحزب الوطني والترقي البرجماتي، مثلما كان الحال مع مراكز الشباب في المناطق الشعبية، وكانت الصحف أبواقاً للنظام السياسي. لم يكن هناك مجال عام، إذ سيطر النظام على تلك المساحات، وجُرّدَ المجتمع من بُعده السياسي.

وفي العهد الناصري سُمح للتحركات الجماهيرية باحتلال الساحات فقط في حال كانت تلك التحركات مؤيدة لأحد قرارات عبد الناصر. ومنذ ذلك الحين، رزحت البلاد في ظل قانون الطوارئ؛ حيث كان الاستثناء حالة دائمة. وكان "الإخوان المسلمون" عرضة دائمة لقمع الدولة. لكن الإشكالية الرئيسة تكمن في أن "الإخوان" أدخلوا ميكانيزمات الدولة في تنظيمهم، وهم منذ تأسيسهم، قاموا بتقليد الدولة بشكل منهجي. بالتالي، فإنّ حالة الاستثناء الدائمة تلك تمّ إدخالها بدورها إلى تنظيم "الإخوان"، وهو ما منعهم من خلق أية مساحة للتعددية السياسية وللديمقراطية التشاركية، وعمّم بدل ذلك الطاعة الأوليجارشية الداخلية. هكذا، ومثلما حصل قمع الأصوات والرغبات في ظل الدولة بحجة الأمن القومي، تمّ ذات الفعل داخل تنظيم "الإخوان"، بحجة الأمن التنظيمي. وفي كلتا الحالتين، دائماً ما يتم ربط التغيير الجذري والمجال العام الحرّ بالفوضى، وبانعدام الاستقرار.

لقد دفعت أوجه الشبه والخصائص المشتركة بين الدولة و"الإخوان"، هذا التنظيم الإسلامي الصبغة، إلى اعتماد مواقف متشابهة إزاء الثورة، وهو ما تجسد خصوصاً في محاولاتهم لإغلاق المجال العام.

"المحاولات الأربع لإعادة إغلاق المجال العام"

تمثلت المحاولة الأولى في فوز "الإخوان" بالأغلبية في الانتخابات التشريعية الأولى بعد الثورة في عام 2012؛ حيث تركّز خطابهم الرئيس حول انتهاء الثورة وتجسدها في إطار شرعي تحت قبة البرلمان، لا في الشارع. وهدفت هذه المحاولة إلى التخفيف من ديناميات الثورة، وتحويلها إلى مجرد ميكانيزمات إجرائية، وتحجيم ميادينها وساحات نضالها في إطار البرلمان وحده. وهكذا شهدنا المحاولات الأولى لإصدار قوانين حظر التظاهرات، وتجارب عديدة لتجريم الإضرابات العمالية.

أما المحاولة الرئيسة الثانية، فكانت عندما وصل محمد مرسي إلى السلطة. وقد لجأ "الإخوان" إلى أسلوب ناصري للغاية، عندما حاولوا شرعنة الممارسات الثورية فقط، عندما كانت هذه الممارسات تدعم قرارات الرئيس؛ بالتالي، فإنّ التجمعات الحاشدة تكون مسموحة فقط عندما تدور حول هالة الرئيس. وقد وُلدت العديد من الممارسات الإقصائية، منها شيطنة المعارضة من خلال تصوير رموزها باعتبارهم خونة، والإعلام كأنه رأس الشيطان والحديث عن تحيزه ضدهم، والتعاطي مع التظاهرات والحشود كأنهما مصدر تهديد للدولة ولمؤسساتها. لقد ترافقت هذه المحاولات مع الإعلان الدستوري الذي أعلنه مرسي، والذي أتاح له إحكام قبضته على السلطات العليا في الدولة ، من خلال الاستيلاء على السلطتين التشريعية والتنفيذية ، فضلاً عن تخويله قدرة غير محدودة للسيطرة على المجال العام.

أما المحاولة الثالثة، فكانت الدستور الجديد؛ حيث تتجسد إحدى أهم نضالات المجال العام بأن يتم تأمين وجوده - المجال العام - بموجب القانون والحفاظ عليه، وبالتالي السماح بولادة ديمقراطية جذرية لا ينتهي أمرها بتحجيمها في مجرد كيانات تمثيلية وإجرائية.

على العكس من ذلك، جاء الدستور الجديد ليعزّز من اجتياح الدولة للعديد من ميادين المجال العام، والحدّ لحق التجمّع وتجريم الإضرابات والحؤول دون تشكيل اتحادات ونقابات مستقلة، وإطلاق الأجهزة الأمنية والعسكرية وإعطائها اليد العليا على الفضاءات المدنية بموجب ادعاءات أخلاقية ، وأخرى تتّصل بالأمن القومي.

وقد تجلّت المحاولة الرابعة في السعي إلى فرض قوانين مواعيد إغلاق المحلات والمقاهي والأماكن العامة؛ فمثلما حاول المجلس الأعلى للقوات المسلحة‎ إغلاق المجال العام من خلال مهاجمة ما ظنّ المجلس أنه يشكّل عموده الفقري، عبر ضرب منظمات المجتمع المدني ومنع التمويل عنها، حاول "الإخوان المسلمون" ضرب المقاهي باعتبارها أمكنةً للتجمُّع، في إطار سعيهم للحد من المساحات العامة، وتطويع الأفراد وفرض الانضباط عليهم.

لطالما كان المجال العام في تصوّر الدولة و"الإخوان المسلمين" مسألة تهديد وعدم استقرار. لقد حاولت الدولة دائماً منع وجود هذا المجال العام، والحدّ منه وحظره. ومنذ تداخل "الإخوان المسلمين" مع الدولة، قاموا بأربع محاولات لإغلاقه. وهناك تناقضات بنيوية بين ديناميات المجال العام وتنظيم "الإخوان" القائم على "البنية الشجرية"، وهو ذاته التناقض بين تصوّرهم عن الديمقراطية المحدَّد في إطار ضيق جداً من الديمقراطية التمثيلية من جهة، وبين الديمقراطية الجذرية التشاركية التي يستند عليها المجال العام من جهة أخرى.

ولقد كان واضحاً من خلال الدستور، أننا أمام ثلاث سرديات كبيرة قد يتم قمع المجال العام بموجب ادعاءاتها: شرعية الدولة، والأمن القومي، والشريعة، بالتالي هناك خلطة من خطاب الدولة و"الإخوان المسلمين" مركَّبة مع خطاب ديني. وهذه الخطابات التي تشكّل نموذجاً للحكم، والذي سبق أن استُخدمَ لإدارة تنظيم "الإخوان"، قد يكون مناسباً جداً لأجهزة الدولة على الأقل نظرياً، لكن حتماً سيواجَه بمقاومة شرسة وعنيفة بعد ثورةٍ كان أحد أحجار الزاوية فيها استعادة المجال العام.

* علي الرجال باحث في العلوم السياسية - مصر