الإسلام في الإعلام الأوروبي: النمطية المستدامة


فئة :  مقالات

الإسلام في الإعلام الأوروبي: النمطية المستدامة

كثيرة هي الكتب والدراسات والمقالات والمناظرات التي تناولت علاقة وسائل الإعلام بالإسلام في أوروبا خصوصا، وبالإعلام الأجنبي بوجه عام. بيد أن العديد من هذه الوسائل قد اتخذت من الدين الإسلامي، تيمة قارة وشبه منتظمة، إما من خلال مواد ثابتة أو عبر ملفات محددة أو ببرامج دورية منتقاة. وهي مسألة طبيعية، إذا لم نقل مشروعة، من لدن وسائل الإعلام المتخصصة، أو التي تشتغل في فضاء يكون العنصر الديني مكونا أساسيا من مكونات الفضاءين العام والخاص.

ومع أن هذه الوسائل قد دأبت على ذلك من مدة طويلة، فإنها غالبا ما تحولت عن المعالجة المباشرة للمسألة المطروحة من زاوية مكانة الدين في المجتمعات العلمانية، إلى اتخاذ ذات المسألة مطية، لإثارة نقاشات ذات طابع سياسي صرف، متعلقة بقضايا الهوية والمجتمع وعلاقتهما بالدين، عوض أن تتخذ منها مادة للنقاش الموضوعي الهادئ أو الحوار المدني المتزن والمحايد...

لم يقتصر الأمر على صبغ النقاش حول الدين بالطابع السياسي المباشر، بل ظهرت العديد من المضامين تتجاوز ذلك بكثير، في إحالتها على الطابع العنصري البدائي أو في تلميحها إليه، حتى إذا "استأنس" الجمهور بذات الخطاب، عمدوا للرفع من منسوبه ليتضمن عناصر من الكراهية مقيتة، ومن الحقد الأعمى الذي أفرد للآخر عموما، وللمهاجرين والجاليات المسلمة بوجه خاص.

وبصرف النظر عن الخطابات المباشرة الموجهة لهذه "المجموعة" أو تلك، فإن ثمة خطابات أخرى موازية لها أو تنسج على منوالها، تتغيا تكريس فكرة أن "وجود الإسلام، في المجتمعات الأوروبية، يعتبر في حد ذاته تحديا للعلمانية، للديمقراطية وللقيم الغربية بوجه عام.

إن تقوي نبرة الإسلاموفوبيا والصور النمطية عن الإسلام والمسلمين، في وسائل الإعلام الأوروبية، لا تعتبر تحديا للجاليات المسلمة، باعتبارها جالية مقيمة في الغرب. إنها أضحت تنظر للإسلام، باعتباره تحديا للنموذج الأوروبي في الإدماج والاندماج، مادام أنه (أو هكذا يقال) عصي على "التطويع"، ومتمنع في التكيف والتأقلم. بيد أن هذه النبرة متزايدة المد منذ بداية القرن الحالي، بدأت تسائل أيضا وفي الآن ذاته، القيم الأوروبية نفسها، والرافعة للواء الحرية والتسامح والانفتاح والقبول بالآخر.

إن فهم هذه الوضعية يستوجب أخذ العديد من المعطيات بعين الاعتبار، ليس فقط من لدن الإعلاميين الممارسين، بل أيضا من لدن الذين يمتطون ناصية هذه الخطابات، من كتاب وسياسيين وفلاسفة وما سواهم.

ولعل المعطى الأساس هنا، إنما البدء بالاعتراف بأن الإسلام قد بات، منذ أكثر من ثلاثة عقود، مكونا أساسيا من مكونات الواقع الاجتماعي والثقافي في أوروبا، إذ إن المسلمين في الغرب قد باتوا "مواطنين أوروبيين، يتمتعون بكل حقوق المواطنة. ولذلك، فإنه من المجحف حقا أن نربطهم دائما، بالهجرة والمحيط والبلد الأصلي والمعتقدات الخاصة. هذه المعطيات يجب أن تنعكس في برامج التعليم وفي السياسات الإعلامية، لا بل وفي السياسات العمومية للدول التي يعتمدها هذا البلد الأوروبي أو ذاك.

بالمقابل، فإن الجاليات المسلمة مطالبة، هي الأخرى، بأن تعي جيدا وتتمثل أنها تعيش من بين ظهراني مجتمعات لها خصوصياتها ومميزاتها، وبأن السياق الأوروبي الذي تعيش في ظله، مختلف تماما عن السياق الثقافي الإسلامي الذي تركته خلفها ...في بلدانها/الأصل. هي مطالبة بذلك، ومطالبة أيضا بالامتثال للإطار القانوني القائم بالبلدان الأوروبية، لأنه هو المحك وهو الحكم بالبداية وبالمحصلة النهائية.

ويبدو هنا (وهذا معطى ثاني)، أن "النخب" المسلمة هناك، من أئمة وفاعلين دينيين و"صناع رأي"، إنما غدت مطالبة بدورها، بأن تعي جديا السياق الديني والثقافي والاجتماعي الأوروبي، ومطالبة بالتحديد بفهم ثقافات وحضارات ولغات البلدان التي تشتغل بها أو تقيم.

لا يسمح المجال هنا للتفصيل فيما سوى ذلك من معطيات. بيد أن ثمة نقطة جوهرية لا بد من التوقف عندها في هذا الباب، وتتعلق بما تسميه بشرى شكير بـ "الآخر الإسلامي" باعتباره اختراعا إعلاميا ليس إلا.

تعتبر الكاتبة أن الآخر ليس هوية مطلقة، تماما كما أن الذات ليست دائما هي الأنا المطلقة. ولذلك، فإن "العلاقة مع الآخر تتشكل على أساس متعدد الأبعاد، يبدأ بحكم القيمة (أحب/لا أحب، جميل/قبيح، شبيه/مختلف...إلخ)، إلى القبول أو الرفض. إن الآخر، باعتباره جزءا من الفضاء الهوياتي، غالبا ما يثير الرغبة أو الاشمئزاز والنفور، الاقتراب أو الابتعاد، الإغواء أو الرفض، التعاطف وفي بعض الأحيان اللامبالاة. الموقف التقليدي، ولربما الأقدم على الإطلاق، والمرتبط باعتبارات نفسية، هو الخوف الغريزي من كل ما هو مختلف، بعيد، غريب، غير عادي ومتوحش".

ولذلك فإن الخطاب الإعلامي عن الإسلام لم يأت من فراغ أو من مجال بوار. لقد جاء مشبعا بتمثلات مسبقة، مشكلة على امتداد فترة طويلة من الزمن بين عالمين يبدوان متنافرين: وهما الشرق والغرب. كل منهما له تصور وأحكام مسبقة عن الآخر، لا يستطيع لا هذا ولا ذاك التخلص منها بسهولة. الشرق يرى في الغرب غازيا، مهيمنا، محتلا، فيما لا يرى الغرب في الشرق إلا ذاك العالم المليء بالخرافة والبربرية وحب النساء، ثم الدم فيما بعد.

من الطبيعي، والحالة هذه، أن تفرز هذه "العلاقات" التاريخية حالة من الخوف والخشية والحذر. من الطبيعي أيضا، أن يزداد مد هذا الشعور في ظل فترات الأزمة، وانفجار الهويات وتعقد مشاكل الكون، وبروز ظواهر "مستجدة" ومن ضمنها تحديدا الإرهاب.

تعبير "النمطية" معناه هنا أن ثمة "صورا ذهنية" قائمة لدى هذا ولدى ذاك. إنها "تمثلات مرتبطة بمجموعة بشرية، والتي على أساسها يتم تقسيم وتصنيف مكوناتها إلى شرائح وطبقات. إنها تعميمات سيئة وتصنيفات غير دقيقة، مبنية على وقائع وأحداث حقيقة أو متصورة". ولذلك، فهي غالبا ما تضبب سبل التقييم ووتحرف وجهات إبداء الحكم. إنها تشوش عليه بوجه من الوجوه، وتنحو به في غير حقيقته. لا بل إنها تحد من سبل التواصل والتفاعل بين طرفي المعادلة القائمة.

لا يمكن أن ننكر (تقول شكير) أهمية إنتاج وإعادة إنتاج التمثلات والصور النمطية على مستوى بناء الهويات. ولا يمكن أن ننكر أنها فعل إدراكي لصيق بكل الثقافات والشعوب والأقوام، بيد أن المرء (العربي/المسلم تحديدا) لا يمكنه أن يسلم بسبل توظيفها عن سوء نية مسبق، أو للتعبير عن واقع في العنصرية والتمييز صارخ.

انجرار وسائل الإعلام وراء الترويج للصور النمطية عن الآخر، ليس دافعه هو الإيديولوجيا أو الرغبة في التوظيف فحسب. إنها تتخذ منها وسيلة لاستقطاب جمهور إضافي، متعطش لكذا صور أو لديه القابلية للتسليم بها والاعتقاد بحقيقتها. ولذلك، فأن الإعلام لا يخلق هذه الصور والتمثلات من تلقاء نفسه. إنه يعكسها، حتى وإن عمد إلى تضخيمها و"النفخ فيها من روحه". بمعنى أن هذه الصور كانت قائمة من قرون عدة، ولم يعمد الإعلام إلا على التقاطها وإعادة إحيائها أو إعادة صياغتها للتساوق مع "حاجيات الجمهور"، أو إكراهات المنافسة الإعلامية المراهنة على المزايدة والخروج عن المألوف.

وعلى هذا الأساس، فإن الذي يعمد إليه الإعلام في أوروبا، إنما تأجيج نعرات من طبيعة هوياتية صرفة، تدفع الآخر (طرف المعادلة الضعيف) للانكفاء حول نفسه أو العودة للانتماءات البدائية، التي تفسح في المجال من جديد لاتهامه برفضه الاندماج أو تمنعه في قبول القيم القائمة، أو اعتباره للآخر غريما أو عدوا أو خصما.

بالمقابل، ثمة من الباحثين "الجدد" ("خبراء الإسلام" يقول البعض) من يحاول التصدّي لهذه الظاهرة وتقديم صورة "أقل ضبابية" وأكبر "نصحا"...وهو أمر يستحق الانتباه، إلا أن هؤلاء، بنظرنا وبنظر العديد غيرنا، لا ينجحون في ذلك دائما، إذ غالبا ما يعيدون إنتاج "نصوص" محملة بنبرة "الضحية" أو الشعور "بالدونية"...إنها نصوص تحاول أن "تصلح" الإسلام، للخروج من الصور النمطية القائمة بخصوصه، إلا أنها سرعان ما تفرز قراءة تعمق أكثر "الهوة الدينية" الموجودة أصلا في القراءات: إنها تكرس "إسلاما في مواجهة إسلامات"، تقول شكير.