الإصلاح الديني: أولوية الأولويات (الإصلاح الديني أولويةً)


فئة :  مقالات

الإصلاح الديني: أولوية الأولويات (الإصلاح الديني أولويةً)

الإصلاح الديني: أولوية الأولويات

(الإصلاح الديني أولويةً)


تقديم:

الحاجة إلى إصلاح ديني:

لا يختلف اثنان في أن العالم الغربي، عمومًا، والعالم الأوروبي على وجه التخصيص، قد قطع شوطًا طويلاً وشاقًا من خلال تفكيره في حدود العلاقة الفاصلة بين مجالين، بدا لفترة من الزمن أنهما مجتمعان غير قابلين للانفصال؛ المجال الديني والمجال الدنيوي. إذ احتكرت المؤسسة الكنسية، لفترة ليست بالقليلة، تدبير المجال السياسي، إضافة إلى احتكارها تدبير المجال الروحي. وعليه، لم يسمح لأي شخص، تحت أي ظرف كان، التفكير من خارج المقولات التي تفرضها البابوية، تلك التي تدعي لنفسها التجسيد الحق للمثال الإلهي، ومن ثمة تُلْحَقُ بالأفراد صفات من قبيل: التقوى والورع والطاعة متى اتبعوا الخط المستقيم الذي تفرضه المؤسسة الكنسية، هي الراعي، وهم الرعية. أما تلك التي سولت لها نفسها الزيغ عن القطيع، فسيكون مصيرها لا محالة الضياع والتيه. هذه هي الصورة التي فرضتها الكنيسة على جموع المؤمنين؛ إما الطاعة التامة والمطلقة للإرادة البابوبة تعبيرًا مباشرًا عن الإرادة الإلهية أو التيه في الأرض مقدمةً لمصير أخروي لا يحسد عليه.

هذه الصورة القاتمة التي طبعت القرون الوسطى الأوروبية، من خلال خنق اللاهوت الأرثوذوكسي للمبادرات الرامية للتفكير الحر، تغيرت بفضل المجهود الجبار لعديد من المفكرين الذين كسروا الاعتقاد السائد أن الحقيقة مطلقة، فقد أودعها الله في عقول فئة قليلة من رجال الدين دون سواهم، أولئك الذين أجبروا بقوة الحديد والدم الجميع على السير على هداها. لقد استعيض عن هذه الوضعية بغيرها بفضل أهم الإصلاحات التي شهدها الغرب الأوروبي؛ أي الإصلاح الديني، إذ يعد لا محالة أهم الإصلاحات التي تمخضت عنها باقي الإصلاحات: سياسية واقتصادية[1] واجتماعية...إلخ. وعليه يمكن القول إن العالم العربي الإسلامي ملزم بتوسيع دائرة الإصلاح الديني مقدمةً أساسيةً من دونها تظل الإصلاحات الأخرى مجرد مشاريع بالقوة دون أن تجد لها طريقًا للتحقق على أرض الواقع. إن أهمية الإصلاح الديني في الغرب تتبدى من خلال إعطاء الأهمية للفرد شخصًا مسؤولاً عمّا يصدر عنه من أقوال وأفعال أولاً، وجسر الهوة بين العبد وربه من خلال الأهمية المعطاة للكتابات المقدسة: العهد القديم والجديد ثانيًا، وثالثًا التشديد على حرية المرء في الاعتقاد، وهذه باعتقادنا من بين أهم الإضافات التي حملها مشروع الإصلاح الديني، إذ كل حديث لاحق عن فصل السياسة عن تدبير الحقل الديني وجد جراثيمه الأولى والتأسيسية في كتابات مارتن لوثر، الذي كتب، بنفس فكري، في ضرورة حرية المعتقد مع التأكيد على الفصل بين السلطتين: الروحية والمدنية.[2] والحاصل، أن أهمية الإصلاح الديني تكمن في كونه عبّد الطريق لكل أشكال التقدم الذي عرفه الغرب الأوربي.

قد يعترض معترض بالقول إن الإصلاح الديني الذي دشنه الغرب الأوروبي لا يعني العالم العربي الإسلامي، لاختلاف مقدمات النظر، أهمها أن الغربي الأوروبي عرف المؤسسة الكنسية التي شكلت الوسيط بين العبد المؤمن وربه، وكلنا يعلم حجم الثروة التي خلقها الحكام في أوروبا بفضل التجارة في صكوك الغفران، في حين أن الدين الإسلامي يخلو من السلطة الكهنوتية التي قد تلعب دور الوساطة بين الله والعباد "لا رهبانية في الإسلام"، والإسلام يخير الفرد بين الإيمان من عدمه، إذ يقول الله تعالى: "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"[3]. غير أن التاريخ الإسلامي القديم والحديث يظهر لنا بجلاء أن الهوة بين إسلام الوحي والإسلام الممارس على أرض الواقع هوة شاسعة، ذلك أن الكلام الجميل الذي جاء يحث على حرية المرء في الاعتقاد، وغياب الوساطة بين المؤمن والله، والعدل والكرامة لم يجد له صدى في ممارسات الشعوب من جهة، والحكام ورجال الدين من جهة أخرى، إذ نلحظ اليوم مدى العنف، والحقد والكراهية التي تحرك جزءًا عريضًا من الفئة الأولى؛ أي الشعوب، التي تتصدى بشكل باثولوجي لكل المشاريع الداعية إلى الحرية التفكير والحكم على الأشياء والتصرف بدعوى أنها تخالف منظومة العقيدة، تصدٍ قد يصل إلى حدود التهديد بالقتل،[4] وأما تحالف الفئة الثانية؛ أي الحكام ورجال الدين، فقد أخر، للأسف الشديد، حركة التطور والتقدم. بهذا المعنى يمكن الجزم بأهمية الإصلاح الديني، باعتباره محطة تاريخية لا مجال للتغاضي عنها بغية: تفكيك الوثوقيات واليقينيات التي عششت في أذهان كثيرين ردحًا طويلاً من الزمن من جهة أولى. والاستعاضة عن عقل المطلق الذي نعتقد باحتوائه لمقولات مطلقة يظل الإله الضامن الوحيد لصحتها، بعقل نسبي يؤمن بالإبداع لا الاتباع من جهة ثانية. وتعزيز فكر الاختلاف بدلاً من ثيولوجيا التطابق والتماهي القاتلة لروح المبادرة من جهة ثالثة.

1- مارتن لوثر المصلح الديني:

يلحظ الواحد منا، وهو يقرأ بعض الكتب التي تناولت بالدارسة المسار الفكري لمارتن لوثر التوقف عند السيرة الذاتية للرجل، إذ يتم الإجماع على الطابع الغرائبي والعجائبي الذي وسم السنوات الأولى من حياته؛ شخصية قلقة جدًا، وبناء نفسي قد يبدو للإنسان العادي أنه غير سوي، وجسد أتعبه المرض[5]. يمثل مارتن لوثر أنموذجاً من الشخصيات المعدودة على رؤوس الأصابع، تلك التي لم ترضى بالوضع القائم، فأبدعت، بلغة "توماس كوهن"، براديغم جديد يختلف أشد الاختلاف عن براديغم القرون الوسطى، لقد بلور نظامًا من المعرفة لم تعهده الثيولوجية الكلاسيكية، أهم مميزاته التشديد على العودة إلى الكتابات المقدسة: العهد القديم والجديد،[6] والاتصال المباشر بالكلام الإلهي بدلاً من اللجوء إلى رجال الدين الذين احتكروا عملية تأويل الكتاب المقدس، لهذا يلحظ قارئ مؤلفات مارتن لوثر، وقد جاءت غالبيتها عبارة عن رسائل أو مقالات مطولة بمناسبة حدث ما، استناده على أقوال الكتاب المقدس، باعتباره السلطة العليا التي تعلو على سلطة البابا في روما. أما العمل الأساس الذي جعل من مارتن لوثر الشخصية الأبرز في أوروبا فهو العمل الذي حمل عنوان: "الأطروحات 95" التي عالج فيها بشكل رئيس مسألة صكوك الغفران التي استغلتها البابوية في روما من أجل خلق ثروة ضخمة،[7] إذ يؤكد لوثر أن طريق الخلاص لا يتحقق إلا عبر جسر الإيمان.

لقد تحلى مارتن لوثر بجرأة وشجاعة لا مثيل لهما لمواجهة السلطة البابوية بكل جبروتها وطغيانها، إذ آمن إيمانًا لا تشوبه شائبة بالإرادة والعناية الإلهيتين اللتين رافقتاه منذ نشأته، هو الذي أخذ على عاتقه مهمة تحرير الثيولوجية المسيحية في الوقت الذي رغب فيها والده ولوج سلك القانون. يتلخص المشروع اللوثري بضرورة العودة إلى النصوص المقدسة بغية قطع الطريق أمام أشكال البدع وكافة الهرطقات المكونة لجملة التوصيات والقرارات التي يخرج بها رجال الدين في مجالسهم المغلقة، وهي قرارات تتلخص في ضرورة الخضوع التام والمطلق للسلطة البابوية، باعتبارها التجسيد الأمثل للإرادة الإلهية، ونحن نعلم مدى التهديدات الحقيقة التي تلقاها لوثر من روما، غير أن اهتجاسه بإخراج أوروبا من عالم الظلمات والخرافة إلى عالم التنوير والعقل مكّنه من إحداث انعطاف جذري في التاريخ الأوروبي خاصة، والكوني عامةً.

1-1- الإصلاح الديني سؤال الحرية:

إن الناظر في التاريخ الأوروبي، في العهد الوسط، يتبدى له بأوضح النظر جملة الانتهاكات والجرائم الدراماتيكية التي ألحقتها المؤسسة البابوية بمجموع الأفراد الخارجين عن طاعاتها، إذ فرضت على الجميع نمطًا واحدًا من السلوك والعيش ليس على الفرد الحياد عنه، وحكمت بقبضة من حديد على جميع المجالات سواء التي تهم حياة الإنسان على الأرض، أو تلك التي تعد معبرًا للوصول إلى الخلاص. من هنا كان الرهان الأساس لكل من السلطتين السياسية والدينية تشديد الخناق على الجميع حرصًا على عدم تشكل فئة من الأفراد الأحرار القادرين على هدم الأوثان والأصنام التي عمرت لقرون من الزمن في عقول رجال الدين الذين حرصوا على تأمين لاهوتهم الأرثوذوكسي المانع لنسائم الحرية، فراحوا يُفَسّقون ويُبَّدعون ويُكَّفرون، بل ويقتلون ويحرقون كل من سولت له نفسه قول الحقيقة، مقابل تكريسهم لشتى أشكال الزيف والخداع التي تهم خدمة مصالح فئة بعينها تحوم حول المؤسسة الكنسية.

في هذا السياق، تأتي الجدة التي حملت مؤلفات مارتن لوثر كونها حررت الحقل الديني من السلطة الضيقة لرجال الدين الذين ادعوا الوساطة بين المؤمنين والله، إذ كان هم لوثر رفع الموانع والحواجز بين الفرد المؤمن والله الذي يعلم وحده سريرة الأفراد، وحده القادر على إدخال عباده الجنة أو النار. أما رجال الكهنوت، فقد لعبوا من الأدوار أكبر مما هو مسموح به وشرعي. إن أحد أهم الإضافات التي حملها مشروع الإصلاح الديني بزعامة مارتن لوتر التي أكدت على ضرورة احترام حرية الأفراد في الاختيار دون إشهار لأسلحة الحقد والبغض في وجه المخالفين في العقيدة، لكن دون أن يعني ذلك أن الرجل قد رفع من منسوب الحرية ليتجاوز حدود القانون، كلا ما كان هو ليدافع عن هذه النظرية التي قد تؤدي إلى الفوضى والخراب، بل دعا إلى ضرورة احترم المسيحي التقي والورع للقانون المعمول به من طرف الدولة حفظًا لأمن وسلامة الجميع. فإذا كان المسيحي يجيد أيًّا من المهن أو الحرف التي تساعد الأغيار، فلا بد من أن يقوم بها. في مقابل ذلك، على الدولة أن تضمن للأفراد منسوبًا من الحرية يسمح لهم بالتعبير عن ما في أفئدتهم، إذ ما معنى أن نجبر الأفراد على اتباع مسار ليسوا بمقتنعين به، إذ النتيجة الحتمية هي تشجيع الكذب، والبهتان والزور.

من هنا يمكن القول، إن تنظير فلاسفة العقد الاجتماعي والليبراليين لعلاقة الدولة بالحرية، إنما وجدت الإرهاصات الأولى مع مارتن لوثر، إذ تجد، على سبيل المثال، تقاطعًا كبيرًا بين "رسالة في اللاهوت والسياسة" لاسبينوزا، وما خطه لوثر عن علاقة المملكتين: مملكة الرب ومملكة الإنسان. وقد تجد بعض الفقرات التي تذهب إلى حدود التطابق، خاصة حينما يتحدث لوثر عن ضرورة تمتيع الأفراد بحرية المعتقد. الحاصل، لسنا نتزيد القول إن أقررنا بفضل الإصلاح الديني في الأعم الأغلب مما أنتجه التراث الغربي على مدى ستة قرون.

1-2- الإصلاح الديني: السلطة الدنيوية والسلطة الروحية

من بين أمهات المسائل التي شدد عليها المشروع الإصلاحي ضرورة الفصل بين السلطتين: الدينية والمدنية، أو ما بات يعرف بــ"العَلمانية"، ومرد ذلك استقرائه للتداخل غير المرغوب بين عمل رجال السياسة ورجال الدين، إذ تحالفت الفئتان على فرض نمط معين من الإيمان والاعتقاد. لقد عمل لوثر على رسم خط مائز بين مملكتين: الأولى مملكة السماء، الرب مشيدها، والثانية مملكة الأرض، الإنسان بانيها، ولا مجال لتداخل المملكتين درءًا لفسادهما، فلكل سلطة قوانينها وتشريعاتها الخاصة. "إن السلطة الدنيوية تعمل في حدود القوانين المرتبطة بالجسد والممتلكات الخارجية. أما أرواح العباد، فالله وحده القادر على التحكم بها".[8]

هكذا، تبدأ مع لوثر بوادر التأسيس للعلمانية في أوروبا، إذ تقتصر مهمة رجال الدولة على تدبير المجال السياسي وتنظيم العلاقات بين الأفراد، أما مسألة الخلاص، والثواب، والعقاب، وسؤال الجنة والنار فتلك شؤون تهم، بشكل حصري، العلاقة بين العبد وربه، على اعتبار أن السلطة السياسية إذا شاءت فرض معتقد بعينه على المؤمنين فسيكون لذلك نتائج عكسية، وذلك لأن باب النفاق والخداع سيفتح على مصراعيه. وحدها حرية الشخص في الاعتقاد من عدمه هي التي تضمن صفاء المعتقد وطهارته، يقول لوثر[9] في هذا السياق: "يريد الله لعقيدتنا أن تشيد، حصرًا، على الكلام الإلهي"، مضيفًا[10]: "لا يستطيع أحد من دون اللجوء إلى الله، الإحاطة المعرفية بأفكار ومشاعر الشخص؛ وعليه لابد من اللجوء إلى منهج آخر غير منهج القوة والعنف." والحاصل إن كل تدخل لدولة، بالقوة، في فرض معتقد معين على الأفراد يظل تدخلاً غير شرعي في شأن يهم العبد والله. ومن ثم قطع لوثر الطريق أمام رجال الدولة والدين الذين تاجروا في أرواح العباد.

على سبيل الختم:

الحاصل من كل ما سبق، ضرورة الإصلاح الديني لكل أمة أرادت أن تجد لنفسها موضع قدم ضمن الأمم المتقدمة والمتطورة، ونحن نعتقد أن العالم العربي الإسلامي مدعوٌ اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى الأخذ بمقدمات الإصلاح الديني كما تبلورت في العالم الغربي، بعيدًا عن التشرنق الذاتي والتطبيل لخصوصية تجبرنا على العيش في عوالم ارتكاسية. إن ما يعيشه العالم العربي الإسلامي اليوم عمومًا، والعالم العربي على وجه التخصيص، يفرض علينا وقفة تأمل ونظر عميقين في أسباب هذا الانحدار المهول في سلم الثقافات، إذ الانغلاق التام على الذات انتصارًا لمذهب أو عقيدة قدم لنا في نهاية المطاف أشكال مختلفة من التطرف الديني الذي ذهب إلى حدود حمل السلاح بغية إجبار الجميع على الدخول إلى الدين الحق ضاربين عرض الحائط الآية القرآنية التالية[11]: "وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ".


[1] يمكن الإشارة في هذا السياق إلى العمل المهم الذي ألف ماكس فيبر عن الأخلاقيات البروتستانتية وروح الرأسمالية، إذ يشدد هو على العلاقة الموجودة بين الإصلاح الديني وانبثاق الرأسمالية.

[2] Luther, martin, de l’autorité temporelle et des limites de l’obéissance qu’on lui doit ; œuvres complètes, tome4, labore et Fides Genève

[3] سورة الكهف، الآية 29

[4] يمكن الإشارة في هذا السياق إلى الحركات الإسلامية المتطرفة التي أضحى بإمكانها تجييش الأفراد من أجل القتل والدمار والسعي في الأرض فسادًا، وكان آخر هذه الحركات الأكثر تنظيمًا وفتكًا ما بات يعرف اختصارًا بداعش: إعلان دولة الخلافة في العراق والشام.

[5] يمكن الرجوع في هذا الباب إلى:

René-jacques lovy, Luther: enfance et jeunesse. Paris, puf, 1994

[6] إن ظهور العهد الجديد، في نظر لوثر، لم يلغي العهد القديم؛ إذ إن الاثنين معًا يمثلان كلام الله، غير الفرد مخير بين الأخذ من عدمه في ما يتعلق بالأحكام المبثوثة في العهد القديم.

[7]انظر:

Marc Lienhard ;,martin Luther: un temps, une vie, un message 4e édition Labor et Fides, Genève, 1991, pp: 61-75

[8]Ibid., p: 31

[9]Idem.

[10]Ibid., p: 33

[11] سورة الكهف، الآية 29