السياسي والديني في العالم العربي الإسلامي


فئة :  مقالات

السياسي والديني في العالم العربي الإسلامي

السياسي والديني في العالم العربي الإسلامي

إنّ الكتابة عن جدلية السياسي والديني، ضمن رقعة جغرافية ما زال الإيمان فيها جلياً بضرورة المتعالي كمحرك أساس لحياة الأفراد على هذه الأرض، تقتضي منا مجازفة كبيرة. غير أنّ الناظر إلى الحياة السياسية في العالم أجمع والعالم العربي خاصة، يتبين دون عناء هذا التوتر الحاد الذي تعيشه الدول ما بين مجال يدخل في عداد الدنيوي ومجال ثان تعددت تسمياته من الديني إلى المقدس مروراً عبر الأخروي والمتعالي، والميتافيزيقي، واللاهوتي، والماورائي واليوطوبي. لكن الفرق يبدو واضحاً في درجة حدة التوتر تلك ما بين العالم الغربي والعالم العربي، نظراً لأنّ الأول حسم، وإن ليس بشكل نهائي، في جدل العلاقة بين الدولة والدين، بينما اضطر هذا الأخير لإعلان انسحابه من الفضاء العمومي المستمد لشرعيته بالدرجة الأولى مما هو عقلاني.

لنُسلّم إذن أنّ الدولة نظام أبدعه البشر، حيث سلوكات الأفراد تتقاطع وسلوك الأفراد الآخرين، بينما الدين مجال يهم كل فرد على حدة، حيث الصلة مباشرة بينه وبين خالقه. إنها السمة الأبرز للدولة الحديثة: دولة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي كرّس لها الفلاسفة جهودهم التنظيرية، حتى تسنى بذلك القطع مع دولة القرون الوسطى التي امتدت هيمنتها على جميع المجالات، بما في ذلك أرواح العباد. قد يعترض معترض بالقول: إنّ الدول الغربية التي تتغنى اليوم بحداثتها ما زال الدين فيها محركاً أساساً للعملية السياسية؛ نعم ولكن ليس بالشكل ذاته الذي نجده في العالم العربي الإسلامي.

إنّ الناظر في طبيعة السلطة السياسية السائدة في العالم العربي- الإسلامي تظهر له مدى شموليتها، حيث ضبط سلوك الفرد يتم إما باسم الدين أو باسم الدنيا، نمطان من الحكم يختلفان في المقدمات ويتفقان في النتائج: ضبط، ومراقبة، ولغة متخمة بالممنوع، والمحظور وما لا يجوز فعله، طبيعة حكم تغيب فيها كثير من معالم الدولة الحديثة: دولة الحرية، والفردانية، والعقلانية.

في هذا السياق، يمكن أن نميز في العالم العربي الإسلامي بين الذين فكروا في جدل السياسي والديني من زاوية كون أنّ الدين الإسلامي لم يفصل بين المجالين الروحي والدنيوي، على اعتبار أنّ الإسلام في الأصل هو رسالة وحكم في الآن نفسه، فلا مكان للحديث عن الدين الإسلامي إلا من زاوية كونه يتوفر على مشروع سياسي. هذه هي الرؤية الناظمة، على العموم، لمجمل القائلين بالخلافة والإمامة وإمارة المؤمنين. أما على الطرف الآخر، فينتصب المدافعون عن ضرورة الفصل بين السياسية والدين؛ ذلك لأنّ السياسة تحتكم لجملة من القواعد بعيدة كل البعد عن الدين الذي تنحصر مهمته في إعداد البشر إلى حياة الآخرة. من هنا يمكن القول، إنّ السياسة وتدبير المجال السياسي يهم هذه الأرض التي نحيا فيها، يهم المشترك بين البشر. أما المجال الديني، فهو خاص بكل فرد والعلاقة التي يقيمها مع السماء. الفريق الثاني يحاول تأويل الدين من زاوية أنه لا يكره الناس على الإيمان، هبْ أن العديد من الآيات القرآنية والأحاديث ما يوحي أن تدبير الحياة اليومية للأفراد، إنما هو منوط بهم، وهذا مما لم يكن في حسبان الدين الإسلامي. الحاصل أنّ ثمة فريقين يتقاسمان النظر في جدل السياسي والديني في العام العربي الإسلامي؛ أمّا الأول، فهو القائل بفكرة الخلافة والإمامة وإمارة المؤمنين، في حين أنّ الفريق الثاني يدعو ـ إما صراحة أو ضمناً ـ إلى لزوم فكرة العلمانية بالكيفية ذاتها التي تبلورت بها في العالم الغربي. في هذا السياق، يمكن طرح السؤال الآتي: هل القول بضرورة العلمانية كما عاشها الغرب كافٍ لفرضه كخطاب في العالم العربي الإسلامي؟ إنّ أحد أهم الأجوبة عن هذا السؤال هي التي يقدمها لنا المفكر الجزائري محمد أركون، حيث يأخذ على الأعم الأغلب القائلون بالعلمانية باستسهال القول بالفصل بين السياسة والدين كمعادلة سحرية للتخلص من طبيعة نظام سياسي كلاني إلى نظام أرحم بالبشر، إذ يقول هو بعدم إمكان تحييد الدين بشكل مطلق وجذري؛ لأنّ أحد أبرز محددات الإنسان كونه يرغب في معرفة الإله، ويروم القبض على المجهول والغرائبي؛ وهذه من جملة الأمور التي لن نتمكن من دفنها بشكل نهائي، رغم دعوى الوضعانية في الحسم مع المرحلتين: الثيولوجيا والميتافيزيقية. أضف إلى تعريف الإنسان من جهة الرغبة، كونه يتسم بإرادة تعقل الأشياء؛ من هنا على المجتمعات ـ إن هي أرادت أن تعيش حالاً من النهضة ـ عليها ألا تغلب حداً على حساب حدٍ آخر، كما حصل في العالم العربي الإسلامي في الوقت الذي تم فيه تكفير الفلاسفة والفكر الحر. أو كما يحدث الآن في فرنسا من خلال تبنيها لقيم علمانية بالغة في التطرف.

يلقي المرء نظرة على هذا العالم العربي الإسلامي، ليجد نفسه في موضع المتسائل: ما هي الأسباب الكامنة في تجييش كل هذه الشعوب العربية باسم الدين؟ أترى الأمر يجد سنده في كل هذه الخيبات التي تعرضت لها الشعوب العربية في مواجهة الآخر الغربي المسيحي الذي شدد الخناق على الشعوب العربية، حيث لم يسمح لها بالتطور والتقدم بالكيفية التي تريد؟ أم أنّ الأمر يتعلق بهذه المؤامرة المحبوكة بين السلطات السياسية ورجال الدين في توجيه الأفراد في الوجهة التي يريدون رغبة منهم في عملية تدجين كلي ودمج قسري في رحى المجتمعات السائدة؟ هناك أسئلة عديدة يمكن طرحها في هذه السياق تخص العلاقة التي تنسجها الشعوب العربية مع الدين، والتي تفترض منا التفكر فيها دون اندفاع أيديولوجي أو أطر قبلية صارمة. ذلك أنّ عملية تفكيك البدهي الذي طالما اعتقد فيه المسلم، هو وحده الكفيل بالخروج من هذه البوتقة الضيقة التي تفرضها علينا كل الأيديولوجيات المنغلقة والدعاوى التي تنادي باسم الحقيقة المطلقة الواحدة والوحيدة غير القابلة للنقاش أو الجدال. هذا هو أصل الداء فيما أعتقد، على اعتبار أنّ الأعم الأغلب ممن يحملون صفة المسلم يصعب معهم التحاور دون أن تنتفخ أوداجهم دماً حين يتعلق الأمر بالنسبة إليهم بمجموعة من المعتقدات والأوليات غير القابلة للنقاش، لا تقبل الدحض؛ وبالتالي، إما أن تعتقد معه في المعتقدات نفسها أو ستكون النتيجة: نعتك بالكافر، والملحد، والجاحد، وكل تلك النعوت المجانية التي يبتغي منها إخراجك من دائرة الإسلام، ليقصيك منها تبرئة لروحه وإخلاصاً لمبادئه.

يتعلق الأمر بضرورة لا مهرب منها لكي يتسنى لنا الخروج من هذه السياجات الدوغمائية التي أحكمت قبضتها على العقول؛ هذه السياجات الدوغمائية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. فتحرير العقل الإسلامي من الانغلاق الذي يفرضه بعض رجال الدين الذين يرون أنفسهم أنهم حراس مخلصون للعقيدة هو وحده الكفيل بأن يصبح الدين الإسلامي متاحاً للجميع. لا بد من وضع الدين الإسلامي في التاريخ، أن يُفهم في السياقات الاجتماعية والسياسية التي أنتجته، وليس التسليم به كشيء من المطلق الذي يعلو على التاريخ وجملة التغيرات التي تحدث في التاريخ، إذ هذه من جملة الأسباب التي جعلت السلطات السياسية تفرض نفسها على الأفراد، حيث إنهم لا يتساءلون عن أصول الاستبداد. فالحاكم يتصرف كخليفة لله في أرضه، ومن ثمة فهو معصوم من كل الأخطاء البشرية، ومن الواجب على كل واحد ينتمي إلى دائرة حكمه أن يمتثل إليه كأنه صورة الله في أرضه. ونحن، نعلم تلك الاستراتيجيات التي يتم من خلالها ضبط المجتمعات وفق ما تمليه السلطات السياسية، إذ يتم ذلك من خلال كل الأجهزة التي تقع تحت تصرف السلطات: من المؤسسات السياسية، إلى المؤسسات الدينية، والمؤسسات التربوية، والمؤسسات الاقتصادية؛ كل هذه المؤسسات الكبرى، وكذلك تلك التي ينعتها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو بالميكرو- سلطة تنحو منحى تقوية الحكم الذي لا يستند على الشرعيات السياسية الحديثة، والتي أفرزتها الديمقراطيات الحديثة بقدر ما يتكئ على الدين، باعتباره العامل الحاسم في تجييش الأفراد، دون أن يتوقف أحدهم ليطرح على نفسه السؤال التالي: ما هذا الذي أقوم به هنا والآن؟

كلّنا قد شاهد الكيفية التي انتفضت من خلالها هذه الشعوب العربية على أنظمة الحكم التي رأت فيها أنها ظالمة ومستبدة وقهرية، لا تتسم بالإنصاف الكافي لفئات عريضة من الشعب. عدم رضى الشعوب عن أنظمة الحكم كانت تنتظر الفترة التي ستسمح لها بالانتفاضة، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ لقد صعدت كل الإيديولوجيات التي تنادي بالدين الإسلامي على أنه المخرج لهذا المأزق السياسي، وجرت معها بالتالي كل تلك الشعوب التي يعتمل فيها الدين كمحرك أساس، لا يهم هذه الشعوب النظر إلى الأصول والثوابت التي تنهض عليها هذه الإيديولوجيات، يكفيها أنها إسلامية، لتحظى بالمشروعية المطلقة والتامة. هذا ما حصل في مصر وتونس وليبيا، إذ على الرغم من شعار الدولة المدنية الذي تم رفعه، إلا أنّ الدولة المدنية لن تقوم لها قائمة إلا في إطار ما هو شرعي وديني. وهنا أصل اللبس.

إنّ استنشاق الشعوب العربية الإسلامية لنسمات الحرية والعدل ورفع الظلم والجور لن يتأتى إلا بالاعتقاد بأنّ السلطة السياسية هي مدنية صرفة؛ بمعنى أنّ السلطة السياسية تخضع لموازين قوى بعيدة عن الدين. إنّ الشخص المتدين، بدلاً من أن يوجه كل مجهوداته الجبارة في تغيير الأفراد والشعوب، أن يتوجه إلى ذاته هو، أن يجاهد فيها تاركاً الآخرين يسلكون الوجهة التي يريدون دون تقييدهم في أطر فارغة تجاوزها الزمن. إنّ للسياسة منطقاً خاصاً، وهو منطق دنيوي يهم المشترك بين جميع الأطراف المكونين للجسم المجتمعي. أمّا الدين، فإنه يهم كل واحد منا في علاقته مع ذاته وربه. أن أكون مؤمناً أو كافراً فهذه أمور تخصني أنا وحدي؛ إذ مسألة الخلاص في الحياة الأبدية هي مسألة فردية. هذا هو ما لا يريد المسلم العربي أن يعيه؛ وهو أنّ الصراع حول السلطة السياسية في التاريخ العربي الإسلامي كان وما زال صراعاً سياسياً اتخذ الدين مطية لخدمة مصالحه.

إنّ تحقيق المجتمعات العربية الإسلامية للديمقراطية والعدل والحرية، سيبقى في إطار ما ينبغي تحقيقه، وستظل هي مفاهيم تحلق في الطوبى إن لم يتم الحسم في مسألة أساس؛ وهي أنّ التاريخ نسبي المنطق، الحاكم لمساره هو التقطع والتشظي والانفصالات، وليس التاريخ شيئاً من المطلق ابتدأ في لحظة من اللحظات وما علينا سوى الرجوع إلى الوراء قروناً عديدة لنسخه وإعادة إحيائه. فإما أن نحيا الزمن في اللحظات الأساسية المكونة له؛ وبالتالي أن نعمل عقولنا في كل المجالات والمعارف، حيث يظل العقل هو الفيصل الأساس في المحاجة والجدال، أو أننا سنكتفي بترديد الماضي بمفاهيم الحاضر. غير أنّ عملية تفكيك تلك البدايات المطلقة والمقدسة يحتاج إلى عناء كبير ومجهود جبار يفترض فيه توسل أحدث المناهج التي أنتجها العقل الحديث والمعاصر؛ ونخص بالذكر حقل العلوم الإنسانية. هذه هي المهمة التي طالما دعا إليها مفكران بارزان؛ هما: محمد أركون، وعبد الله العروي.