الإنسان ومكانته في فلسفة هارتمان الأخلاقية


فئة :  قراءات في كتب

الإنسان ومكانته في فلسفة هارتمان الأخلاقية

تكمن أهمية كتاب "الإنسان ومكانته في فلسفة هارتمان الأخلاقية"[1] لمؤلفه محمود سيد أحمد في كونه دراسة تحليلية لإحدى أبرز المساهمات الغربية في النظرية الأخلاقية والتي يمثلها الفيلسوف الألماني نيقولاي هارتمان، في الوقت الذي سادت فيه فلسفة "موت الإنسان" وأفول المعنى في الغرب واختزال كل معاني الشر في الشر؛ وهو ما يمنح للصراع مبررات الوجود، في ظل خطاب إيديولوجي ينتصر للذات ويشيطن الآخر في التداول السياسي والثقافي العربي، ويحجب القارئ العربي عن الرؤية المتوازنة التي تعترف للآخر بموقعه كشريك لا مندوحة عنه في صناعة المستقبل وبناء الحضارة الإنسانية على أساس المشترك الذي يعيد للإنسان وللقيم مكانتهما.

وبناء عليه، يعلن المؤلف محمود سيد أحمد، منذ البداية، أن الدافع إلى الاهتمام بفلسفة هارتمان الأخلاقية هو انخراطها في الدفاع عن الإنسان ضد التقليل من قدره وشأنه وتمنحه استقلاله وحريته التي بواسطتها تؤثر القيم في العالم الواقعي وتمنحه مركزية تعيد إليه دوره الإيجابي في هذا العالم؛ فجاء محتوى الكتاب متضمنا لمدخل وأربعة فصول، ثم ذيّل سيد أحمد مؤلفه بنصوص مختارة من مؤلفات هارتمان.

استعاد الكاتب، في المدخل، السياق الفلسفي الذي برز فيه نيقولاي هارتمان، كفيلسوف أخلاقي ترك وراء ظهره الوضعية والمذهب الذاتي والنزعة الميكانيكية، أي أنه اختار القطيعة الإبستيمولوجية مع أنماط الفكر الفلسفي الذي سادت في القرون الثلاثة الماضية، كما حارب في الوقت ذاته النزعة المثالية والفينومينولوجية؛ فهارتمان يقدم نفسه ليس فقط كمناصر للأخلاق بل كصاحب نظرية أخلاقية واقعية فصّل معالمها في كتابه الموسوم بـ"الأخلاق" "Ethics" الذي صدر عام 1926 في ثلاثة مجلدات؛ الأول تناول فيه "الظاهرة الأخلاقية" "Moral Phnomina"، والثاني "القيم الأخلاقية" "Moral Values"، وفي المجلد الثالث قارب الحرية الأخلاقية "Moral Freedom". ويصرح هارتمان بأن الأخلاق هي المصدر والدافع العميق للتفكير الفلسفي وللفعل الإنساني بوجه عام. ومن ثم، يرى الكاتب سيد أحمد أن هارتمان من أنصار النزعة الإنسانية من حيث تأكيده باستمرار على القيمة المنطقية للشخص، أي باعتباره مقياس الأشياء؛ غير أن هذا الادعاء ليس مطلقا البتة إنما هو من باب بيان المكانة العظيمة التي يعزوها هارتمان إلى الإنسان فهو نفسه يقر بعدم الاعتقاد بأن كل شيء في الحياة يعتمد على الإنسان وحده على خلاف ما ذهب إليه بعض الفلاسفة المثاليين.

عموما، فإن هارتمان كفيلسوف أخلاقي وضع نصب عينيه الدفاع عن الإنسان ضد المحاولات التي تقلّل من شأنه وقدره. كما سعى، في دراساته الأخلاقية، إلى رد الاعتبار للإنسان من الناحية الكونية والميتافيزيقية والإعلاء من قدره بالحرية؛ فهذه هي الفكرة المركزية التي يدور حولها الكتاب، والتي فصّلها المؤلف وبيّن معالمها في فصوله الأربعة.

طبيعة القيم الأخلاقية:

توقف الباحث في الفصل الأول، بالنظر التحليلي، عند الموقف الأنطولوجي والأسس النظرية التي يصدر عنها هارتمان في تحديده لطبيعة القيم الأخلاقية. ولبيان ذلك، عرج الكاتب على التناص الحاصل بين هارتمان وبين من سبقه من الفلاسفة، ابتداء بالمستوى الأنطولوجي، حيث يظهر التأثير الأرسطي بجلاء، فما يميز أنطولوجيا هارتمان هو فكرة الطبقة Strat ورفض النزعة الواحدية في حديثه عن الوجود. لقد أتثبت الأنطولوجيا، في نظره، فساد الرأي القائل بواحدية قوانين الوجود، من حيث إنها تهتم بالتمييز بين الوجود المثالي والوجود الواقعي، وأرسطو نفسه نظر إلى العالم على أنه نسق مؤلف من طبقات، والنتيجة هي أن القيم كما ينظر إليها هارتمان لا يمكن ترتيبها على مقياس واحد.

وعلى الرغم أن هارتمان يعترف بأهمية الفينومينولوجيا، فإن نزعته الواقعية تجعله يقف في موقف المتحفظ من النزعة الترسدنتالية التي تمثلها فينوميلولوجيا هوسرل، فلا يسلم بنزعته المثالية؛ فالفكر عند هارتمان يتجه نحو بناء الموضوعات الواقعية وليس لبناء الذهن. وإلى جانب ما ذكرنا، نجد من ضمن مرجعيات هارتمان كلا من أفلاطون وكانط ونيتشه؛ وعلى رأس تلك المصادر ماكس شيلير، الذي حكاه هارتمان في كثير من آرائه، كما قام بتعديل وإخراج جديد لبعض الآراء.

أما عن السؤال المركزي الذي خصصه الكاتب لهذا الفصل حول طبيعة القيم الأخلاقية كما يتصورها هارتمان، فقد بيّن معالمها من خلال النقاط التالية:

-  القيم الأخلاقية ذات طابع قبلي: على غرار ما أكده كانط وشيلر.

- القيم الأخلاقية مطلقة: فهي غير قابلة للتحويل أو التغيير، ولا يعني ذلك أنها لا صلة لها بالوعي الإنساني، كما لا يعني إبطال الطابع الموضوعي لها.

-  للقيم وجود ذاتي مثالي: فهي أصلا نماذج لمجال أخلاقي مثالي، نماذج عالم له بناءاته الخاصة.

-  للقيم استقلال ذاتي: وهنا يخالف هارتمان ماكس شيلر، فما هو جميل يكون جميلا لذاته، وما هو نبيل يكون نبيلا لذاته.

الإنسان وسيطا بين عالم القيم المثالي والعالم الواقعي:

على الرغم من أن الفيلسوف الألماني نيقولاي هارتمان يؤمن بأن القيم ماهيات مثالية وقبلية ومطلقة، على غرار ما بيّنه سيد أحمد في الفصل الأول من الكتاب إلا أن هارتمان يؤمن في الوقت ذاته بأن هذه القيم تنزع نحو التحقيق الواقعي. ويتخذ هذا النزوع صورة وجوب يلقى على عاتق الإنسان الذي يدرك القيم ويفهمها ويعيها.

فالأمر، إذن، يرجع إلى العلاقة بين القيم والواجب. وقد سبق كانط إلى إثارة هذه الإشكالية في فلسفته الأخلاقية؛ غير أن هارتمان يخالف كانط في أيّهما يصدر عن الآخر؟ فإذا كان كانط يرى أن الواجب هو المبدأ الذي يصدر عنه القيمة، فإن هارتمان يعكس القضية، إذ يذهب إلى أن القيمة هي المبدأ الذي يصدر عنه الواجب. وقد خصص هارتمان جزءا مهما من مؤلفه "الأخلاق" لبيان هذه العلاقة بين القيمة والواجب، كما لم يفت سيد أحمد التفصيل في مفهومي الذات والشخص في علاقتهما بموضوع الأخلاق عند هارتمان.

وخلاصة هذا الفصل، كما يعلن عنها المؤلف، هي أن الإنسان هو الوسيط أو المتلقي بين عالمين: عالم القيم المثالي، وعالم الواقع أو الحياة.

 حرية الإرادة:

خصص المؤلف الفصل الثالث لمشكلة الحرية، وهي من أكثر الإشكالات إثارة للجدل، وتتقاطع حولها تخصصات مختلفة من فلسفة وأخلاق وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا... إلخ.. ولا غرابة في ذلك الوضع، فهي مشكلة الوجود الإنساني. بناء عليه، فقد اختار الكاتب، قبل الخوض في بيان ملامح التصور الهارتماني للحرية، أن يعرج على طبيعة النقاش الدائر حولها منذ الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الحديثة. وانتهى إلى خلاصة مفادها أن الجدل الفلسفي الحديث فصل مشكلة الحرية عن الدين، وحل محلها النقاش حول التعارض بين الحرية والحتمية، وسيظهر هذا بجلاء مع كانط الفيلسوف الذي اعتبره هارتمان نقطة بداية فحسب، فقد جاءت بعده محاولات نظرية عمقت النقاش الفلسفي حول مشكلة الحرية خصوصا من لدن الفلاسفة الألمان من هؤلاء ليبنتز Lebiniz وفيشته Fichte وهيجل Hegel وشلنج Schlling وشوبنهاور Schopenhauor؛ غير أن هارتمان يعدّ كل تلك المحاولات النظرية قصرت دون تقديم حلا شافيا ومقنعا لمشكلة الحرية. والسبب، في نظره، يرجع إلى خطأ الخلط بين مفاهيم وقضايا متعددة؛ منها:

- الخلط بين مفهوم حرية الإرادة ومفاهيم أخرى؛ وهو ما يسمّيه بـ"الجهل بالمطلوب". وقد قد وقع بعضهم في الخلط بين الحرية الأخلاقية والحرية القانونية، وكذلك بين الحرية الأخلاقية وحرية الفعل.

- الفرار من مفهوم حرية الإرادة؛ وذلك نتيجة لتحميله بفروض فرعية ميتافيزيقية وسيكولوجية لا تخصه. والأمر ناتج عن التصور الذي يختزنه البعض لحرية الإرادة باعتبارها "التحرر من شيء ما"؛ فهارتمان يرفض هذا التصور، ويرى أن الحرية الأخلاقية ينبغي ألا تعني مطلقا التحرر من شيء ما، بل تعني "التحديد بصورة دقيقة". ومن ثَمَّ، يتحول مفهوم الحرية من مفهوم سلبي "التحرر من شيء ما" إلى مفهوم إيجابي "التحديد أو الاستقلال الذاتي".

ولتجاوز هذه المنزلقات التي وقع فيها الفلاسفة السابقون، يقترح هارتمان التمسك بالبرهان التحليلي الذي ننطلق منه من موقف أخلاقي معطى. ومن ثَمَّ، يكون لنقطة الانطلاق طابع الظواهر التي نستطيع البرهنة عليها؛ مع أن هذا البرهان لا يحقق سوى يقينا افتراضيا. إننا هنا، كما يرى هارتمان، ننطلق من وقائع مركبة؛ ننطلق من وقائع الحياة الأخلاقية، التي من أهم سماتها: الوعي بالتحديد الذاتي، المسؤولية والمحاسبة، الوعي بالإثم والمعصية.

القيم الأخلاقية قيم شخصية:

ما القيم التي تُعزى إلى الإنسان من حيث إنه شخص؟ يجيب هارتمان عن هذا التساؤل بالنظر إلى العلاقة التي تربط القيم بالشخص على أنها علاقة مزدوجة؛ أي من حيث إنه الذات الفاعلة للسلوك الأخلاقي وهو حامل القيمة، ومن حيث إنه موضوع السلوك والنقطة التي يفضي إليها. وبناء عليه، فإن القيم عند هارتمان هي قيم أفعال وقيم سلوك.

- قيم الأفعال؛ ويندرج تحت هذا النوع من القيم: الفاعلية، والقوة، والحرية، والاستبصار أو بعد النظر، والفاعلية الغائية، ويضيف هارتمان إليها قيمة "الخير".

- قيم السلوك؛ ومن أهم هذه القيم: العدالة، والحكمة، والشجاعة، وضبط النفس والحب الأخوي، والوثوق، والثقة، والتواضع... إلخ. وقد خص الباحث لكل قيمة من هذه القيم حيزا من الشرح والتحليل.

وإجمالا، خلص الكاتب محمود سيد أحمد إلى النتائج التالية:

1_ اتجاه الفلاسفة المعاصرين نحو الواقعية، وإلى عالم الواقع واهتمامهم بالإنسان؛ فلقد أصبح الإنسان لا المذهب هو الذي يعني الفيلسوف المعاصر.

2_ جاءت الدراسة لتؤكد أن الإنسان ليس "شيئا" من الأشياء أو "موضوعا" من الموضوعات؛ بل إنه شخص يمتلك إرادة حرة، وفاعلية غائية واستبصارا أو بعد نظر ولديه القدرة على التنبؤ والتوقع، ووضع غايات بفاعليته وإرادته، ولديه القدرة على أن يكون وسيطا بين مملكة القيم وعالم الواقع.

3_ الأنطولوجيا عند هارتمان هي الحجر الأساس الذي ترتكز عليه فلسفته وموقفه من القيم، وعليها يجب أن يقام أكثر المذاهب أمنا وسلاما.

4_ لا معنى للقيم الأخلاقية بدون حرية. وقد وضحت الدراسة أن حرية الإرادة ليست وهما كما يظن البعض؛ فهناك علامات وأدلة على أنها حقيقية مثل: الوعي بالتحديد الذاتي، والوعي بالإثم والمعصية، والمسؤولية والمحاسبة.


[1] من إصدارات مكتبة آفــاق للنشر والتوزيع، الكويت، عام 2013م.