التربية اليهودية في أرض الإسلام


فئة :  قراءات في كتب

التربية اليهودية في أرض الإسلام

التربية اليهودية في أرض الإسلام[1]

تتميز العائلة اليهودية المغربية بالنظام الأبوي؛ فالأب هو الشخص الرئيس في العائلة يملك كل السلطة، ومن واجبه تربية أولاده؛ فقد عني اليهود بتعليم أبنائهم منذ صغر سنهم؛ إذ يبدأ الطفل تعليمه، عادة، في سن الثالثة في الظروف العادية إلى سن الرشد الديني ثلاثة عشر عاما، حيث يتعلم الطفل في الحيدر وتلمود توراه حروف الكتابة والقراءة، ثم حفظ نصوص من التوراة والصلوات المتعددة. أما في اليشفا أو التعليم العالي، فإن التلميذ يتعمق في دراسة التلمود والتوراة، ويقرأ الكتابات الأخرى، مثل المدراشيم والزوهار والتفاسير المتعددة، وما أن يبلغ التلميذ العقد الثاني من عمره حتى يغادر التدريس، ليلتحق بالأعمال المهنية التي كان يزاولها والده، بالرغم من إجبارية استمرارية التعليم اليهودي الحديث في رابطة الاتحاد الإسرائيلي التي كانت هدفا لهجوم الأحبار واليهود التقليديين.

يعد كتاب "التربية اليهودية في أرض الإسلام" الذي ألفه حاييم الزعفراني، والصادر باللغة الفرنسية عام 1969 من بين أولى مؤلفات الباحث، وهو كتاب يدور موضوعه حول أسس التعليم اليهودي، والتي تناولها الزعفراني في خمسة فصول.

قدم الباحث الفصل الأول في صيغة مقدمة عامة تحت عنوان: أسس التعليم التقليدي؛ التوراة والتلمود، تناول فيه بالبحث تربية أطفال اليهود وتعليمهم، مبرزا أن التعليم يبدأ من السنة الخامسة، كما أن فترة التعلم تمر عبر ثلاث مراحل مهمة، هي:

ــ مرحلة المقرا/ التوراة؛

ــ مرحلة المشنا؛

ــ مرحلة الجمارا.

أما المرحلة الأولى؛ أي مرحلة المقرا، فتنحصر ما بين السنة السادسة والعاشرة من العمر، بينما يصل من الطلاب إلى مرحلة المشنا كل من تتراوح أعمارهم ما بين السنة العاشرة والخامسة عشرة، وفيها يتلقون التوراة الشفوية. فيما تبقى المرحلة الأخيرة؛ أي مرحلة الجمارا، مرحلة تعمق في دراسة ما سبق من النصوص التوراتية.

وعزز الباحث هذا الفصل بعرض بعض المناهج التربوية المثالية الخاصة بالتدريس، ومنها ما عرضه الربي يهودا بن الربي صمويل بن عباس.[2]

ووسم المؤلف الفصل الثاني بالمدرسة اليهودية التقليدية بالمغرب، وفيه قدم جردا تاريخيا ليهود المغرب، موضحا كيف عاش اليهود في عهد إدريس الأول وإدريس الثاني، وفي عهد المرينيين والمرابطين والسعديين، كما أرفق هذا الجرد بوثائق تربوية لبعض الربيين المغاربة، ومنهم:

ــ الربي صول دنان: ينحدر هذا الربي من عائلة عريقة، استقرت بفاس بعد تهجير 1492، تكون تكوينا يهوديا على يد ربيين مشاهير، ثم عين قاضيا بمراكش ثم الصويرة.

وتتضمن الوثيقة التي قدمها المؤلف شهادة واضحة عما قدمه صول دنان عن النظام التربوي والتعليمي في المسيد، وهي كالآتي:

ينقسم التلاميذ في قاعة الدرس إلى مستويات مختلفة، يجلس المعلم في الوسط. يبدأ القسم التمهيدي بقراءة الحروف الأبجدية، ثم الصوائت، ثم تركيب الحروف والنقط، وبعد سنتين أو ثلاث سنوات، يستطيع التلميذ قراءة نص كامل بناء على الطرائق البيداغوجية المستعملة في الحيدر[3]، ثم ينتقل إلى القسم الثاني المسمى بالعبران، نسبة إلى القراءة العبرية، ويبقى فيه مدة سنة كاملة، وفي المستوى الموالي، يبدأ التلميذ بدراسة التآميم؛ أي علامات التنقيط، ثم يهتم التلميذ في المرحلة الموالية بتفسير النصوص، يقرأ المعلم قطعة بالعبرية، ويرددها التلميذ، يترجمها المعلم إلى العربية، ثم يرددها التلميذ دون فهم المعنى الصحيح للنصوص، ويستمر ذلك مدة عام أو عامين، وبعدها يشرع التلميذ في دراسة التلمود.

وفي جانب آخر من هذا الفصل، تحدث حاييم الزعفراني عن التعليم اليهودي التقليدي عند يهود تدغة بالأطلس الكبير[4] وعند الجماعات الناطقة بالأمازيغية، معرفا ببعض الربيين الذين عاشوا هناك، ومنهم الربي ميمون مالكا[5] وموسى مالكا[6] وإبراهام مويال[7] والربي سمون ربيبو[8]. فما أن يبدأ الطفل في التعلم من السنة الخامسة من عمره، ينشغل والده ــ يشير الباحث ــ بشيئين اثنين هما: تعليمه التوراة، وإيجاد العروس المناسبة له.[9]

فالطفل اليهودي يمرّ في التربية عبر مرحلتين؛ الأولى في البيت وفيه يتلقى عناصر التربية الأسرية الأساسية، ثم ينتقل في مرحلته الثانية إلى المدرسة، ليشرع في تعلم الأبجدية بحضوره إلى المدرسة يوميا ما عدا الأيام الرسمية، وزوال يوم الجمعة وصباح السبت. أما البنت، فلا تذهب إلى المدرسة، اللهم بعض الاستثناءات كما في طنجة وتطوان، حيث كانت البنت تتلقّى تعليما يسمح لها بقراءة نص عبري.

وتعدّ مرحلة اليشيفا مرحلة تعليم عال، يصل إليها كل من أراد التعمق في المعارف التي تلقّاها في الحيدر، ليحمل المتعلم في ما بعد لقب تلميذ حاخام.

ويشير الباحث في الفصل الثالث من كتابه، والذي عنونه بزمن التحولات والإصلاحات، إلى التحولات التي أجرتها رابطة الاتحاد الإسرائيلي AIU على التعليم اليهودي التقليدي، فقد أدخلت هذه الرابطة طرائق ومناهج تربوية حديثة، في مدارسها التي فتحت أبوابها في تطوان عام 1862، وفي طنجة عام 1869، والعرائش عام 1873، ثم فاس عام 1881، والصويرة عام 1888. وخص المؤلف الباحث الفصل الرابع للتعريف بربيين مغربيين تحت عنوان سيرتان ذاتيتان، وهما:

ـ الربي يوسف بنئيم: ولد عام 1882، علمه والده إسحاق بنئيم، ثم أرسله في الرابعة من عمره إلى الحيدر، ليحرص على تعليمه تعليما دينيا، تزوج ثم تابع دراسته مع صديقه الربي حاييم بن متاتيا سرورو.

ــ الربي يوسف مساس: ولد بمكناس في 12 نيسان5652/ 9 أبريل 1892، اشتغل والده الربي حاييم مساس في الطباعة، وزاول بعض الحرف الأخرى، كما كان مهتما بدراسة التوراة، عينته طائفة تلمسان لمزاولة مهام ربي، عاد إلى مدينته الأصلية مكناس عام 1940

وفي الفصل الخامس من الكتاب، عرض الباحث بعض النصوص اليهودية العربية، والتي تخص طائفة مراكش وطائفة تنغير.

لقد عني الباحث في هذا الكتاب بوصف مراحل التربية التي يتلقّاها الطفل اليهودي في الأسرة أولا، وفي المدرسة ثانيا، كما وقف عند بعض الربيين الذين ساهموا في إرساء أسس التعليم التقليدي اليهودي، سواء في الحيدر أو اليشفا.

ويبدو أن غرض الأستاذ الزعفراني من هذا الكتاب هو التعريف بمبادئ التعليم اليهودي وطرائقه التربوية، خصوصا في منطقة تدغة بالأطلس وعند الجماعات الناطقة بالأمازيغية. يقول الأستاذ أحمد شحلان معلقا على هذا الكتاب: "التربية والتعليم اليهوديين في بلاد الإسلام 1969 مؤلف أبان فيه عن أصول التربية والتعليم اليهوديين منذ القدم وإلى عهده هو[10]، مقارنا في ذلك بين المناهج التعليمية في الأندلس والمغرب، وبينها في الحيدر واليشفا من جهة أخرى، دون أن ينسى كل التقاليد والأعراف التي كانت ترافق العملية التربوية من المهد إلى اللحد في المجتمعين اليهودي والإسلامي".[11]

وإذا كانت التربية تعني ــ حسب تعريف الزعفراني ـ تكييف الفرد داخل الجماعة قصد التشبع بنفس الروح التي تهدف إلى تكوين شعب متميز، فإن التعليم يسعى إلى إشراك المتعلم في العبادة واكتسابه للتقاليد والتعاليم، حتى يصبح قادرا وحريصا على القيام بالواجبات التي تأمر بها التوراة. وإذا كانت المناهج التربوية التقليدية تحرص على تعزيز وترسيخ ما سلف ذكره في ذهن المتعلم، فإن مدارس رابطة الاتحاد الإسرائيلي سعت إلى نشر مناهج تعليمية حديثة تضمنت تعليم اللغة الفرنسية، ونشر الفكر العلماني، الأمر الذي أثار جدلا في الأوساط الربية اليهودية المحافظة؛ فبعد تأسيس أول مدرسة بتطوان عام 1862م، حرص مدرسو الرابطة على إكساب تلاميذهم مبادئ اللغة الفرنسية ومبادئ الرياضيات، وتعليمهم بعض المهن اليدوية، غير أن هذه الأنشطة لم تحظ بقبول قادة الطوائف اليهودية، ولا سيما في طنجة والصويرة، والذين فضلوا إرسال أبنائهم إلى المؤسسات السفرادية والإنجليزية.

وإذا كان بعض الدارسين قد عنوا في دراساتهم بالتعليم اليهودي، فإنهم لم يتناولوا ذلك بالشكل المرغوب فيه، إذ اكتفوا بوصف المؤسسات التعليمية اليهودية القديمة منها أو الحديثة، وبوصف الطرائق التعليمية في الحيدر أو اليشفا؛ فقد استعرض Paul VALENCE طريقة إلقاء الدرس في اليشفا بقوله: "يقرأ المعلم نصا من نصوص التلمود، ثم يقرأ تعليقا عليه، ثم يقف ويطرح اسئلة، وبعدها يتساءل التلاميذ في ما بينهم، وعندما يستعصي الجواب، يجيب الأستاذ، ويستمر في أسئلة أخرى".[12]

واكتفى LERNER.D في دراسته le Talmud TORAH de meknes بوصف المؤسسة التربوية تلمود توراه بمكناس التي يتعلم فيها أبناء اليهود تعليما دينيا، وأضاف أن هذه المؤسسة تتوفر على أربعة وعشرين فصلا، وتضم حوالي ألف وخمسمئة تلميذ، كما أوضح أن الدراسة تبدأ في هذه المؤسسة التعليمية بقراءة العبرية في الطفولة ثم قراءة التلمود.[13]

أما SEMACHY.D، فتحدث عن دور مدارس الاتحاد الإسرائيلي التي أسهمت في إصلاح المنظومة التعليمية اليهودية، يقول: "إن أول مدرسة للرابطة تأسست بتطوان في 1862 وذلك لمساعدة يهود المنطقة على التعلم، ثم توالى تأسيس المدارس بالمدن الأخرى... ولم تقف عند حد التعليم، بل كانت تقدم مساعدات مادية لأبناء الفقراء (الأدوات المدرسية، الملابس) كما كانت توجههم نحو تعلم الحرف".[14]

على ضوء ما تقدم، يمكن القول إن حاييم الزعفراني لم يحصر التربية في التعليم المدرسي فقط، بل أوضح أن للعائلة دورا فيها كذلك، يقول: "ويتكون الطفل في العائلة على الأقل بمقدار ما يتعلم ويتربى في المدرسة، ويأتي تأثير المعلم لإتمام التربية التي بدأت وتتابعت في الوسط العائلي، وتنحصر مهمته في تعليمه قراءة التوراة، وهو يتلقى تربيته الأولية في البيت، والأم هي التي تلقنه الفضائل الأولية للإحسان واحترام مال الآخر وحب الأرض المقدسة، ويكتسب الطفل معرفة جيدة بواجبات العبادات عن طريق القدوة بالآباء وممارستهم اليومية".[15]

لقد حرص اليهود على تعليم أبنائهم على اعتبار أن التعليم هو أول واجب على الفرد أن يتقيد به بغية اكتساب المعارف النافعة؛ فالمسؤولية الأولى التي تتحملها الطائفة هي توفير هذه المعرفة وإعداد العدة اللازمة لتشجيع هذا التعليم.

[1] - Pédagogie juive en terre d’islam, Paris, librairie d’Amérique et d’orient, maison neuve, 1969

[2] عاش في القرن 13 بالغرب الإسلامي، هاجر إلى المشرق، واشتهر فيه باسم ابي البقاء بن يحيى بن العباس المغربي، عالم وشاعر، وصديق ليهودا هاليفي.

[3] Haïm ZAFRANI, Pédagogie juive en terre d’islam, p.32

[4] تقع تدغة في جبال الأطلس، استقر فيها اليهود عبر ثلاثة أماكن هي: أسفلو 600 نسمة، تنغير 400 نسمة، تاوريرت 200 نسمة.

[5] من مواليد أسفلو بتدغة، انتقل إلى تنغير وهناك تعلم على يد جده يحيى مالكا، امتهن التجارة، ثم اشتغل معلما للعبرية بالريساني في تافيلالت.

[6] تلقى تكوينا تقليديا في تنغير، ثم انتقل إلى الرباط.

[7] تاجر كبير من تزنيت، يتكلم العبرية والأمازيغية، مترجم النصوص العبرية المقدسة إلى اليهودية العربية والأمازيغية.

[8] من مواليد إفران بالأطلس المتوسط، انتقل إلى الصويرة ثم الدار البيضاء

[9] Pédagogie juive en terre d’islam, p.36

[10] يعو د الضمير هو على حاييم الزعفراني.

[11] حاييم الزعفراني، يهود الأندلس والمغرب، ترجمة أحمد شحلان، مطبعة النجاح الجديدة، الجزء الأول، ص 9

[12] Paul VALENCE, la yecheba, BEPM, n 163, janv, fev, 1939, p.7

[13] LERNER, D, LE Talmud TORAH de Meknès, BEPM, n 138, mars 1935, p.104

[14] SEMACHY.D, L’alliance Israelite universelle, BEPM, n83, octobre, 1927p.8

[15] حاييم الزعفراني، الف سنة من حياة اليهود بالمغرب، ترجمة أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986، ص5