التطرُّف ومعركة المصطلحات


فئة :  مقالات

التطرُّف ومعركة المصطلحات

التطرُّف ومعركة المصطلحات(1)

تُعالج هذه المقالة مسألة التطرُّف التي كتب عنها الكثير شرقاً وغرباً، وخضعت مختلف حيثيّاتها وأبعادها وتجلّياتها للتحليل والمدارسة، وقد استرعى انتباهي تركيز الباحثين أكثر على البُعد الميداني الملموس في مقاربة هذه الظاهرة دون تأمّل المراحل القبليَّة التي تسبق نشوء التطرُّف في الواقع المعيش، لا سيَّما على مستوى الوعي السيكولوجي والذهنيّ، ثمَّ مستوى اللّغة والتخاطب، فهناك تشهد نزعة التطرُّف تكوُّنها في شكل مشاعر وانفعالات وردود أفعال قبل أن تُترجم إلى سلوكات وممارسات ملموسة في الواقع.

وقد اكتفيت في هذا التناول بالمجال اللّغوي والتواصلي، الذي يشهد ما يشبه معركة للمصطلحات والرموز والإشارات عادة ما يعتريها الغموض الدلالي والتداخل المعنوي والتوظيف الإيديولوجي. وتجاوزاً لذلك، ميّزت بين مصطلحي الجذرانيَّة والتطرُّف اللذين غالباً ما يُستعملان بالدلالة نفسها رغم الفارق الواسع بينهما. ثمَّ حدّدت مفهوم التطرُّف التحديد المعجمي والاصطلاحي والفقهي الأنسب، الذي يكشف عن تعارضه مع روح الإسلام السمحة والاعتداليَّة. وهذا ما يكاد يغيب في شقّ كبير من الخطاب الإعلامي والفكري الغربي، حيث يتمُّ الخلط بين شتى المفاهيم كالأصوليَّة والأرثوذوكسيَّة والراديكاليَّة والتطرُّف، كما أنَّه قلّما يتمُّ تقديم التطرُّف بكونه ممارسة مردودة في الإسلام؛ كتاباً وسنَّةً وإجماعاً وثقافةً.

صراع على مستوى اللّغة قبل الواقع

يُعتبر "الصراع" من بين المفاهيم التي تشغل حيّزاً مهمَّاً في لغة الإنسان، فهو نزوع نحو إثبات الذات مقابل نفي الآخر، والتمسُّك بأسباب البقاء مقابل درء كلّ ما قد يُفضي إلى الفناء. وهذا يعني أنَّ القابليَّة للصراع شيء غريزي لدى الإنسان، ينشأ في النفس مشاعر وانفعالات تخضع لعمليَّات ذهنيَّة ومنطقيَّة في وعي الإنسان، وعندما يكون الموقف الباعث على الصراع قويَّاً لدى الإنسان يعجز عن التحكّم في الجانب الانفعاليّ، الذي تتحقّق له الغلبة على حساب الجانب المنطقي، غير أنَّه عندما يكون الموقف عاديَّاً يمكن للإنسان أن يتجاوز انفعالاته السلبيَّة، فيجنح إلى السلم والمصالحة بدل الصدام والمشاحنة. وتختلف قوَّة التحكّم السيكولوجيَّة من شخص إلى آخر، وهي تتأثّر بعوامل متنوّعة كالتركيبة النفسيَّة وطبيعة التربية والبيئة الدينيَّة والثقافيَّة والتأثيرات السياسيَّة والاقتصاديَّة.

وهذا يعني أنَّ الصراع في المقام الأوَّل قيمة معنويَّة ونفسيَّة قبل أن تنتقل من الذات إلى الوجود، من الذهن إلى الواقع ومن التصوُّر إلى اللغة، حيث تخضع لطبيعة السياق، فتصطبغ بظروفه وملابساته وتحدّياته، لتتحوَّل إلى قيمة ماديَّة يصبح فيها فعل الصراع ملموساً من حيث تأثيره وآثاره. لذلك ينبغي التركيز أوَّلاً على تكوُّن المفهوم، ليس على المستوى الاشتقاقيّ Etymological فقط، بل على مستوى الوعي النفسيّ والذهنيّ أيضاً؛ هناك ينولد ويتشكّل المعنى الذي تحمله أيَّة لفظة قبل أن تخرج إلى الوجود، فتخضع لتوافق المجتمع، وتصبح مصطلحاً معتمداً بمجرَّد ما يصطلح الناس عليه.

ثمَّ إنَّه عادة ما ينصرف الإنسان إلى مفهوم الصراع في بعده الواقعي المادّي دون أن يتأمَّل جذوره السيكولوجيَّة والذهنيَّة والاشتقاقيَّة، وهذا ما ينطبق على اللّغة بصفة عامَّة، التي نشأت أوَّل ما نشأت في وعي الإنسان قبل أن تنتقل إلى الواقع. ولعلَّ هناك من سوف يعزو التركيز على "ماديَّة" الصراع أو الصراع "المادّي" إلى طبيعة المجتمع المعاصر المعولم، الذي ساهم في إبراز البُعد الماديّ لهذه القيمة، فترتَّب عن ذلك ظهور نظريَّات معرفيّة في هذا الاتجاه، كصدام الحضارات، والهويَّات القاتلة، وما بعد الحداثة، وتفكيك التطرُّف، وغيرها كثير. لكن ما يكاد يُغفل في هذه النقاشات الفكريَّة هو كون تلك الصراعات تبدأ أوَّلاً في سيكولوجيَّة الإنسان، ثمَّ تنتقل بعد ذلك إلى المجال اللغوي التواصلي قبل أن تترجم على أرض الواقع في شكل صدامات وحروب وعمليَّات ميدانيَّة.

بين سياسة الكلمات ومعركة المصطلحات

إنَّ السؤال الإشكالي هنا ينصبُّ بالدرجة الأولى على مسألة الصراع في تجلّيها اللّغوي التواصلي؛ وأُقدّم نموذجاً لذلك مصطلح التطرُّف (الدّيني) الذي بات يهيمن اليوم على لغة الإعلام والسياسة والأدب والفكر، كأنَّ الصراع الذي يشهده الميدان يوازيه صراع آخر على مستوى الخطاب والمفهوم، وهذا ما أستعير له عبارة "معركة المصطلحات" التي نعثر على صدى لها لدى المفكّر إدوارد سعيد في حديثه عن "سياسة الكلمات"، والمفكّر محمَّد عمارة في كتابه حول معركة المصطلحات بين الإسلام والغرب2.

يتحدَّث إدوارد سعيد في كتابه تغطية الإسلام عن مفهوم سياسة الكلمات الذي يعني به التراشق بين الغرب والإسلام، وهو يتَّسم بـ"التحدي والإجابة، وفتح مجالات تعبيريَّة معيَّنة وإغلاق غيرها، وكلُّ ذلك هو ما يشكّل "سياسة الكلمات" التي يحاول عن طريقها كلّ طرف إنشاء مواقف معيَّنة، وتبرير أفعال معيَّنة، وفرض بدائل معيَّنة على الطرف الآخر"3. وهذا يدلُّ على أنَّ الصراع بين الغرب والإسلام صراع على مستوى الخطاب والرموز والمصطلحات، ففي هذا المستوى تتشكَّل العوامل الأولى للمواجهة الميدانيَّة التي ما هي إلّا نتيجة لصراع سيكولوجيّ ولغويّ ورمزيّ. بل إنَّ الأطراف المتصارعة تحدّد مسبّقاً مواقفها وأفعالها وبدائلها من خلال سياسة الكلمات. وهذا ما ينطبق بشكل أو بآخر على معركة التطرُّف التي تبدأ في الوعي والتأويل، ثمَّ تترجم في اللّغة التخاطبيَّة أو الرّمزيَّة قبل أن تُنزّل على أرض المواجهة.

أمَّا محمّد عمارة، فيرى أنَّ العلاقة بين الإسلام والغرب تنطبع باختلاف معاني الكثير من المصطلحات المشتركة بين الطرفين، ما يخلق التناقض والإبهام، ويجعل الحوار والتواصل ضعيفاً وباهتاً. يعبّر عن ذلك بقوله: "إذا نحن نظرنا إلى هذه الألفاظ والمصطلحات من زاوية "المضامين" التي توضع في أوعيتها، ومن حيث "الرسائل الفكريَّة" التي حملتها "الأدوات/ المصطلحات" فسنكون بحاجة، وحاجة ماسَّة وشديدة، إلى ضبط معنى هذه العبارة، وتقييد إطلاقها وتحديد نطاق الصلاح والصلاحيَّة التي يشيع عمومها من عموم ما تحمل من ألفاظ"4. وقد تناول الباحث العشرات من المصطلحات التي يختلف مفهومها بين الاستعمال الإسلامي والتوظيف الغربيّ، ليثبت أنَّ ثمَّة معركة مصطلحات بين العالمين الإسلامي والغربي. غير أنَّ تركيزه انصرف أكثر إلى التعارض الدلالي القائم في استعمال المصطلح الواحد بمعنيين مختلفين ومتضادَّين، إذ يدلُّ في الإسلام على معنى ما يختلف جذريَّاً عن المعنى المعتمد في الغرب.

ما يهمُّ أكثر في هاتين الرؤيتين هو جانب الصراع الذي ينشأ أوَّلاً في اللّغة والخطاب، ويمارس سلطة نافذة ومصيريَّة على القرارات الواقعيَّة، فـ"سياسة الكلمات" هي التي تحدّد طبيعة التعامل السياسي والعسكريّ مع مختلف بؤر التوتّر، و"معركة المصطلحات" هي التي تكشف عن الفجوة المعرفيَّة والإيديولوجيَّة والنفسيَّة بين الذات والآخر. ولمَّا نتأمل مفهوم التطرُّف في ضوء هذا التصوُّر، ندرك أنَّه يحضر بشكل مكثّف في لغة الإعلام والفكر والتخاطب، حيث يخضع لقولبة رمزيَّة وتعبيريَّة واستعراضيَّة، غير أنَّ هذا الحضور الدلالي يشوبه أكثر من خلل وإسفاف.

حول الراديكاليَّة والتطرُّف

إنَّ معالجة مفهوم التطرُّف لا سيَّما في الخطاب اللّغوي التواصلي (الإعلامي) تُلقي بنا في زخم من المصطلحات المثيرة، كالأصوليَّة والأرثوذوكسيَّة والراديكاليَّة والتطرُّف والإرهاب. وعادة ما تُستعمل هذه المصطلحات في وسائل الإعلام الغربيَّة بشكل متقاطع وأحياناً متماثل، رغم أنَّها لا تدلُّ على الشيء نفسه. فكلُّ مصطلح يختلف عن الآخر من حيث حمولته الدلاليَّة وسياق تكوُّنه الاشتقاقي والنفسي والتاريخي. بل إنَّ أغلب هذه المفاهيم غربية المنشأ والسياق والشروط، غير أنَّه غالباً ما يتمُّ إسقاطها على الواقع العربي الإسلامي بشكل حرفي وقسري لا يراعي طبيعة الدّين والتاريخ واللّغة والثقافة. وهكذا نشهد معركة مفاهيم حامية الوطيس يتمُّ فيها ربط كلّ ما هو ديني إسلامي بالتطرُّف، وإن كان الإسلام في روحه يتعارض مع التطرُّف؛ فالقرآن الكريم الذي يزخر بقيم ومفردات الرَّحمة والتسامح والسلم، يوصم من قبل البعض بأنَّه كتاب يدعو إلى العنف والهيمنة والحرب.

كما أنَّ كلَّ مفهوم يحيل في الذاكرة الغربيَّة على دلالة سلبيَّة عادة ما تُلصق بالإسلام دون أيّ تمحيص أو موازنة، فالإسلام أصولي، رغم أنَّ الأصوليَّة Fundamentalism ترتبط في التاريخ الأوروبي بالبروتستانتيَّة، والإسلام أرثوذوكسيّ، رغم أنَّ الأرثوذوكسيَّة Orthodoxie مذهب مسيحي يدعو إلى العودة إلى أصول العقيدة النصرانيَّة، والإسلام راديكالي، رغم أنَّ الراديكاليَّة Radicalism ترتبط تاريخيَّاً بمصطلح الراديكاليَّة الليبراليَّة الذي ظهر أواخر القرن التاسع عشر، ويعني الراديكاليّين التقدميّين الذين كانوا يواجهون المؤسَّسة الليبراليَّة التقليديَّة، وغير ذلك من الإطلاقات المصطلحيَّة. ولا يمكن تفسير هذا الإسقاط المسف لكلّ ما يحمل نوعاً من التمرُّد أو العصيان في التاريخ الغربي على راهن الإسلام إلّا بنزعة الإفراغ السيكولوجي التي عبَّر عنها مونتجومري وات بقوله: "في عالم اليوم، وبفضل ما أسهم به فرويد من أفكار، نعلم جيّداً أنَّ الظلمة التي ينسبها المرء إلى أعدائه ما هي إلّا إسقاط للظلمة الكامنة فيه هو، والتي لا يريد الاعتراف بها. وعلى ذلك فإنَّه ينبغي علينا أن ننظر إلى الصورة الشائهة للإسلام باعتبارها إسقاطاً لما اكتنف عقول الأوروبيين من جهالة"5. ومع أنَّ الغرب بلغ اليوم ذروة التقدُّم المعرفي والتكنولوجي، إلّا أنَّه ما زالت توجد بين ظهرانيه طائفة تتمسّك بالنرجسيَّة الغربيَّة التي تعتبر الآخرين أطرافاً لا معنى لها، أو أطرافاً مُهدِّدة يحقُّ للغرب كسر شوكتها على مستوى الخطاب والواقع.

مع أنَّ الغرب بلغ اليوم ذروة التقدُّم المعرفي والتكنولوجي، إلّا أنَّه ما زالت توجد بين ظهرانيه طائفة تتمسّك بالنرجسيَّة الغربيَّة التي تعتبر الآخرين أطرافاً لا معنى لها  

على هذا الأساس، فإنَّ كلَّ مصطلح ينطوي على معنى لغوي ومفهومي معيَّن، حقاً هناك نوع من التقاطع الدلالي بين بعض المصطلحات، غير أنَّها لا تعني الشيء ذاته. فالأصوليَّة الإسلاميَّة التقليديَّة التي تتمسَّك بالمصادر الأصليَّة على أساس التأويل الحرفي لا تسعى إلى أيّ تغيير "راديكالي"، بل تقف في وجه أيّ تغيير من ذلك القبيل، وتدعو إلى الطاعة الكاملة لأولي الأمر من الحكَّام والأئمَّة، فهي لا تشكّل بذلك أيّ تطرُّف يهدّد استقرار المجتمع. وتحيل الأصوليَّة الإسلامَّية بهذا المعنى على الأرثوذوكسيَّة المسيحيَّة واليهوديَّة التي لا همَّ لها في الحاضر ولا في السياسة ولا في السلطة. إنَّ شغلها الشاغل هو العودة إلى الماضي، والعيش هناك في نوع من الرجعيَّة السلبيَّة. وهذا ما يختلف عن الأصوليَّة البروتستانتيَّة التي ظهرت كردّ فعل تاريخيّ على أزمة الكنيسة الكاثوليكيَّة، وهي تحمل مشروعاً لاهوتيَّاً جذريَّاً ترجم على أرض الواقع الأوروبي منذ أن أطلق مارتن لوثر أطروحاته الخمس والتسعين عام 15176. لتشهد أوروبا حركة راديكاليَّة دينيَّة ساهمت لاحقاً في ظهور البروتستانتيَّة المسيحيَّة كفرع أساسي في الدّين المسيحي إلى جانب الأرثوذوكسيَّة والكاثوليكيَّة.

من هذا المنطلق، فإنَّ ترجمة مصطلح الراديكاليَّة إلى التطرُّف أو التشدُّد ليس في محلّه، لأنَّ التطرُّف نزعة فكريَّة أو أخلاقيَّة لا تعني بالضرورة إحداث تغيير محدَّد، ربَّما قد تشكّل سبباً نحو هذا التغيير، لكن ليس دائماً. في مقابل ذلك، تسعى الراديكاليَّة إلى تغيير جذري معيَّن، ولا يتمُّ دوماً عن طريق العنف والإكراه والإرهاب، إذ هناك حركات راديكاليَّة تبنَّت التغيير الفكري والإيديولوجيّ. لذلك يمكن اعتماد لفظة الجذرانيَّة كمعادل لغوي في ترجمتنا لمصطلح الرّاديكاليَّة.

وتعجُّ وسائل الإعلام الغربيَّة بمختلف الأمثلة على طريقة التعامل مع مسألة التطرُّف، أتوقّف في هذا الصدد عند وسائل الإعلام البلجيكيَّة الورقيَّة والرقميَّة، التي نشرت في شهر يناير 2017 عنواناً بالخطّ العريض مؤدَّاه: الوالون تبدأ 24 مشروعاً ضدّ الرّاديكاليَّة7. وهو عنوان لقصاصة إخباريَّة قصيرة جدَّاً منقولة عن وكالة الأنباء Belga، تتكوَّن من 71 كلمة موزَّعة على ثلاث فقرات قصيرة، لا تعكس في الحقيقة العنوان اللّافت والبَّراق الموضوع لها، لأنَّها لم تتعرَّض إلى نزعة الراديكاليَّة Radicalism نفسها كما يشير العنوان، بل تتعلّق بإطلاق مشاريع تستهدف مواجهة عمليَّة الراديكاليَّة Radicalization، وعادة ما تترجم هاتان اللفظتان معاً في اللغة العربية خطأ إلى التطرُّف، في حين أنَّ اللفظة الأولى Radicalism تعني النزعة الجذريَّة أو الجذرانيَّة، ويقصد باللفظة الثانية Radicalization العمليَّة التي تجعل شخصاً ما يتبنَّى الفكر الجذراني أو يصبح "راديكاليَّاً". ثمَّ إنَّ هذه القصاصة الإخباريَّة لا توضح المقصود من الراديكاليَّة؛ هل الراديكاليَّة المقصودة هي الراديكاليَّة بوجه عامّ أم الراديكاليَّة "الإسلاميَّة" بالخصوص؟ وهكذا يكشف هذا المثال البسيط والقصير عن تناقضات متنوّعة في التعامل مع مسألة التطرُّف والجذرانيَّة، لا سيَّما وقد صدر عن وكالة أنباء من حجم Belga التي مرَّ حوالي قرن على تأسيسها في 1920، وتحتضن 135 إعلاميَّاً وموظفاً، وتنشر سنويَّاً حوالي 231 ألف رسالة إخباريَّة و150 ألف صورة، وتصل أرباحها إلى 17 مليون يورو سنويَّاً8.

لكن ما موقع مصطلح التطرُّف في هذه المعادلة اللغويَّة المعقّدة التي عادة ما يُربط فيها بمصطلحات متنوّعة قريبة أو بعيدة منه دلاليَّاً أو يشحن بما قد لا يحتمله من المعاني والإيحاءات؟ أو بالأحرى: ما التعريف الأنسب لمصطلح التطرُّف حتَّى نتجاوز المعركة اللّغويَّة والرّمزيَّة التي يخلقها غموضه الاشتقاقي والدلالي في الذهن والواقع؟

التطرُّف في مواجهة وسطيَّة الإسلام

إنَّ المعادل اللّغوي للفظة التطرُّف في الكثير من اللّغات الأوروبيَّة المعاصرة هو Extremism، وتستعمل في اللّغة العربيَّة مرادفات قريبة من هذا المعنى كالتشدُّد والتزمُّت. ويُعرَّف هذا المصطلح في المعاجم العربيَّة بكونه نقيضاً للاعتدال والوسطيَّة، وذلك تأسيساً على الدلالة المعجميَّة الأصليَّة، حيث تشتقّ لفظة التطرُّف من الجذر الثلاثي (طرف)، وهو "حَدُّ الشيءِ وَحَرْفُهُ"، ويدلُّ أيضاً على عدم الثبات في الأمر، والابتعاد عن الوسطيَّة، والخروج عن المألوف ومجاوزة الحَدِّ، والبُعد عمَّا عليه الجماعة. ويضيف لسان العرب إلى ذلك معنى "الابتعاد عن الوسط والوقوف في الطرف". وفضلاً عن ذلك، تعتبر المعاجم اللّغويَّة أنَّ للإنسان طرفين: لسانه وذكره، وكلّما مال إلى أحدهما أصبح متطرّفاً أو تطرُّفاً! ورجل طرف ومتطرف ومستطرف: لا يثبت على الأمر. وامرأة مطروفة: تطرف الرجال، أي لا تثبت على واحد9.

تأسيساً على هذه التعريفات اللّغويَّة والمعجميَّة يتَّضح أنَّ مصطلح التطرُّف المشتق من الجذر "طرف" يعني نقيض الوسط أو التوسُّط، ليس بالمفهوم الفيزيقي الذي يشغل فيه الوسط مساحة محدَّدة بين طرفين، بل بالمفهوم المعياري الذي يحيل فيها كلّ تموقع على قيمة أخلاقيَّة أو إيديولوجيَّة معيَّنة؛ فالوسط يشير إلى الاعتدال أو التوفيق، واليمين يعني المحافظة، واليسار يرمز إلى التقدّميَّة. والإنسان الذي يخرج عن حدود الوسط أو المركز يُنظر إليه بأنَّه يكسر المألوف، وينحرف عن الجماعة، لا سيَّما عندما يغلو في الخروج، ويبتعد أكثر عن القيم المعتادة ليس في الوسط فقط، بل في اليمين واليسار التقليدي أيضاً، ما يترتَّب عنه إمَّا تطرُّف يميني، وإمَّا تطرُّف يساري.

ولم يخْلُ المصدر الأوَّل للتشريع الإسلامي الذي هو القرآن الكريم من ورود لفظة الطرف في ثمانية مواضع بمعانٍ مختلفة، منها ثلاثة مواضع بدلالة واحدة، وهي الآية 48 من سورة الصافات (وعندهم قاصرات الطَّرف عين)، والآيتان 52 و56 من سورة الرحمن؛ (وعندهم قاصرات الطَّرف أتراب)، (فيهن قاصرات الطَّرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان). وأثناء مراجعة تفاسير القرآن الكريم يُلْحظُ أنَّ قاصرات الطَّرف تعني حابسات الأعين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم. وحسب استيعابي لهذا التأويل يبدو لي أنَّ الأزواج هنا بمثابة "الوسط" الذي تتمسك به هؤلاء الزوجات اللواتي لا يملن إلى "طرف" غيره.

ويُستنبط أيضاً من التحديدات المذكورة أعلاه أنَّ مفهوم التطرُّف يتَّسم بجملة من الأوصاف مثل: عدم التوسُّط، الخروج عن الوسط إلى طرف معيَّن، عدم الثبات على أمر معيَّن، عدم الالتزام. وهذه كلّها أوصاف تنطبق على الشخص المتطرّف. ثمَّ لا يمكن حصر معنى التطرُّف في صفة عدم التوسُّط فقط، لأنَّ هناك من الناس من يقف في طرف معيَّن، غير أنَّه يبقى متسامحاً في تعامله ومتمسّكاً بقيم مجتمعه. وهناك أيضاً من الناس من لا يثبت على أمر معيَّن، لأنَّ سُنَّة الحياة تقتضي التجدُّد والتغيُّر، لذلك فإنَّ مفهوم التطرُّف لا يكتمل ولا يستقيم إلّا بحضور أغلب هذه الأوصاف والملامح.

وتزخر السُّنَّة النَّبويَّة بمواقف ترفض كلَّ مظاهر التطرُّف والغلو، وتجدر الإشارة هنا إلى الحديث النَّبوي حول المتنطّعين، حيث ورد أنَّ الرسول ـصلّى الله عليه وسلّم ـ قال ثلاثاً: هلك المتنطّعون، "أي المتعمّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم"، كما جاء في حاشية شرح النّووي على مسلم10. والتنطّع بهذا المعنى لا يختلف عن التطرُّف الذي قد يصدر عن أيّ شخص بغضّ النظر عن توجُّهه الفقهي أو المذهبي؛ فالأصولي الذي يبالغ في ليّ النّصوص الشرعيَّة إلى الدرجة التي تجعلها تتعارض مع روح الإسلام قد يكون متنطّعاً ومتطرّفاً، والعقلاني الذي يغلو في توظيف النّظر العقلي والفلسفي قد يكون أيضاً مجاوزاً ومتطرّفاً. أمَّا القتالي الذي يخضع النصوص الدينيَّة لإيديولوجيَّته المذهبيَّة، فإنَّ تطرُّفه يتخطَّى كلَّ المعايير الدينيَّة والمنطقيَّة والعرفيَّة.

ونخلص هنا إلى ثبت ثلاث مسائل جوهريَّة تعتري توظيف مصطلح التطرُّف في المجال اللّغوي المعاصر: أوَّلها أنَّه عادة ما تستعمل لفظة التطرُّف في تداخل أو تماثل مع غيرها من الألفاظ القريبة منها دلالة، بل ولا يتمُّ التمييز في أحيان كثيرة بين الجذرانيَّة Radicalism من جهة والتطرُّف Extremism من جهة أخرى. وثانيها أنَّ مفهوم التطرُّف اللّغوي والمصطلحي والفقهي يثبت أنَّ هذه القيمة السلبيَّة تتعارض مع مبادئ الدّين الإسلامي الذي يتأسَّس على الوسطيَّة والاعتدال. وثالثها أنَّ التداول الإعلامي والفكري الغربي للتطرُّف غالباً ما يتَّسم بالتعميم والإسقاط، إذ تكاد تنعدم الإشارة إلى موقف الإسلام الحقيقي من سلوك التطرُّف، وهو موقف رفض وإنكار.

1 نشر في الملف البحثي "التوحيـد بين الأصل الإسلامي والتأويل الجهادي: الأعلام والنُّصوص" بتاريخ 22 فبراير 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إشراف بسام الجمل، تقديم أنس الطريقي.

2ـ محمّد عمارة، معركة المصطلحات بين الإسلام والغرب، مصر، نهضة مصر، 2004.

3ـ إدوارد سعيد. (2006). تغطية الإسلام (ترجمة: محمَّد عناني). القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع. ص 39.

4ـ محمَّد عمارة، معركة المصطلحات بين الإسلام والغرب، ط 2، القاهرة، نهضة مصر. ص 3، 4.

5- مونتجومري وات، (1403-1983)، فضل الإسلام على الحضارة الغربيَّة، ط1 (ترجمة: حسين أحمد أمين). القاهرة، مكتبة مدبولي، ص 113.

6. Luther, M. (2012) 95 stellingen. Middelburg: Stichting De Gihonbron.

7. De Morgen. (10 januari 2017) ‘Wallonië start 24 projecten tegen radicalisme’. http://www.demorgen.be. Geraadpleegd op 3 maart 2017.

8ـ ينظر الموقع الرّسمي للوكالة: www.belga.be

9ـ ابن منظور. (بلا تاريخ). لسان العرب. القاهرة: دار المعارف. ص 2657-2661.

10ـ النووي، أبو زكريا (1416هـ - 1996م). شرح النووي على مسلم (رقم الحديث: 2670). القاهرة، دار السلام.