الحداثة الأوروبيّة: مسارات التّفكيك ونهاية الريادة


فئة :  قراءات في كتب

الحداثة الأوروبيّة: مسارات التّفكيك ونهاية الريادة

صدر عن دار نشر مؤسسة مؤمنون بلا حدود كتاب للدكتور مصطفى بن تمسك، وهو باحث تونسيّ متخصص في الفلسفة السياسيّة المعاصرة. ويحمل الكتاب عنوان: "الحداثة الأوروبيّة مسارات التّفكيك ونهاية الريادة".

سنحاول في هذه القراءة، التطرق إلى أطروحة الباحث د. بن تمسك ومنهجيته في الكتاب، كما سنقوم بتلخيص بعض الأفكار المطروحة، مسجلين في النهاية بعض الملاحظات حول الموضوع.

أطروحة الكتاب:

يحاول الباحث مصطفى بن تمسك في كتابه تشخيص وضعيّة الحداثة في الطور العولمي الرّاهن، وذلك من خلال الإجابة عن مجموعة من الأسئلة أهمها: هل مازال من المشروع للغربيين أن يتكلّموا عن الحداثة بعد موجات التشكيك والتظنّن في أسسها؟ وهل مازلنا ـ نحن العرب ـ نحلم باستزراع النّموذج الحداثي المتهاوي هذا في تربتنا، بعد كلّ التجارب التعسفيّة الفاشلة؟ ومن هنا تقوم أطروحة الكتاب على تبيّن أفول وتفكك الحداثة الأوروبيّة وتحولها إلى "حداثة عولميّة رأسماليّة" ترعاها الولايات المتحدة الأمريكيّة. فالكتاب يرصد مراحل تفكك الحداثة الأوروبيّة من داخل سياقاتها الذاتيّة، قبل أن تنقذها أمريكا عن طريق تحويلها إلى عولمة رأسماليّة.

منهجيّة الكتاب:

قسم الباحث كتابه إلى محورين؛ محور نظري ومحور عملي، في المحور النّظري تطرق الباحث إلى صيرورات التّأسيس والتّفكيك للحداثة الأوروبيّة، فتناول مخاض تشكل الحداثة في سياقاتها الأوروبيّة (الفصل الأوّل)، ثم السّجال الإيديولوجي والتّفكيك الفلسفيّ الّذي تعرضت له الحداثة (الفصل الثاني)، لينتهي المحور بفصل عن التفكيك الأقصى لأساسات الحداثة القارية وبداية الفراغ الما بعد ـ الحداثي. أمّا في المحور العملي من الكتاب، فقد تطرق الباحث إلى التفكك الجيوـ سياسي للحداثة الأوروبيّة ومقدم العولمة، وتناول الموضوع في ثلاثة فصول؛ عالج في الأول منها تداعيات التفكيك ما بعد الحداثي: نهاية الريادة الأوروبيّة على العالم ثم تناول في الفصل الثاني موضوع المركزيّة العولميّة، وانتهى المحور العملي بفصل عن الحركات المناهضة للعولمة الأمريكيّة.

إن التقسيم المنهجي للكتاب يبدو دقيقاً ومتماسكاً؛ فبعد المقدمة الّتي تطرق فيها د. مصطفى بن تمسك إلى أطروحة الكتاب المركزيّة، نجد محوريْ الكتاب يتكونان من ثلاثة فصول منسجمة، ثم يختم الباحث كتابه بخاتمة يتنبأ فيها بأفول الحداثة المتعولمة على يد حداثات بديلة أكثر إنسانيّة.

من حيث المناهج الموظفة في الكتاب، فهي متعددة، غير أننا نجد أن أكثر المناهج هيمنة على الكتاب: المنهج المقارن، والنقدي، والمنهج التّفسيري والوصفي. وهذه المناهج اقتضتها طبيعة الموضوع؛ فالكتاب نقدي وتفسيري بامتياز.

ملخص الكتاب:

يطرح الباحث في مقدمة الكتاب أطروحته الّتي تتلخص حول تفكك الحداثة الأوروبيّة، ثم يعرج في الفصل الأوّل "الحداثة في سياقاتها الأوروبية: مخاض التشكّل وإحراجات التحقيب" من المحور النّظري "الحداثة الأوروبية: صيرورات التأسيس والتفكيك" إلى الحديث عن مخاض تشكّل الحداثة الأوروبيّة معالجاً فكرة المركزية الأوروبيّة الّتي تتعاطى مع الحداثة على أنّها حالة استثنائيّة في تاريخ الإنسانيّة لا يمكن أن تضاهيها أو حتى تتشبه بها أيّة جماعة إنسانيّة خارج الجغرافيا الغربية (ص: 28)[1]، ويحاول الباحث تصحيح هذه القراءة الّتي تربط الحداثة بالغرب، وعياً منه بمخاطر هذا التّصور للحداثة، والّذي أضحى مسلمة من المسلمات الّتي لا تقبل النّقد. ولهذا، فالباحث مصطفى بن تمسك سيتعامل مع مفهوم الحداثة بحذر معرفي حتّى لا يقع في فخ الإيديولوجيا. ومن هنا، فإنّه حين يبحث في مفهوم الحداثة يستحضر صيرورة تشكّل المفهوم في أوروبّا، فيؤكد أن مفهوم الحداثة اختراع متأخر في مقابل مفهوم التحديث (ص: 32). ومفهوم الحداثة استعمله لأول مرة بلزاك عام 1822، ثم شاتوبريان عام 1833، وكان استعمال هذين الكاتبين للمفهوم استعمالاً عرضياً وليس نسقياً، في حين نجد أن أول من استعمل مفهوم الحداثة في سياقٍ تأسيسيّ وجماليّ، كما يؤكد د. بن تمسك، هو بودلير ضمن كتابه "رسّام الحياة الحديثة" الّذي نشر عام 1863، وجاء في قسمه الرّابع الّذي يحمل عنوان "الحداثة" ما يلي: «هذا الإنسان يجري ويبحث، فعمّ يبحث؟ المؤكّد أن لهذا الإنسان الّذي أصفُ، والمتوحد الّذي يملكُ خيالاً نشطاً، والمسافر عبر صحراء البشر الشاسعة، هدفاً أسمى من هدف متسكع بسيط، وأكثر شمولاً من المتعة الهاربة والعارضة، إنّه يبحث عن هذا الشيء الّذي أستسمحكم في تسميته الحداثة، إذ ليس ثمة كلمة أبلغ من هذه الفكرة» (ص: 32).

وانتبه الباحث مصطفى بن تمسك إلى أن مستعملي مصطلح الحداثة الأوائل كبودلير لم يكن يعنيهم اللّفظ، بقدر اندهاشهم من تهاوي الأنظمة القديمة أمام حماسة الحديث والتحديث (ص: 33) الّذي اقترن في مسار التّطور الغربيّ بالصراع الأيديولوجيّ مع القديم بوصفه تُراثاً راسخاً في القدامة وبوصفه تاريخاً مترسباً في الذّاكرة، وبوصفه أيضاً رؤية معينة للعالم وللتدبير السياسيّ والاجتماعيّ (ص: 34).

ويطرح الباحث مصطفى بن تمسك تعريف هابرماس للحداثة بكونها حالة حدوث مستمرة غير منقطعة، وحاضراً متجهاً باستمرار إلى المستقبل، والقطع مع القديم. ولذلك، يذهب الباحث بن تمسك مع الرأي القائل بأن الحداثة لا يمكنها أن تكون مفهوماً مدرسياً، ولا سوسيولوجياً، ولا سياسياً أو حتّى تاريخياً. إنّها نمط حضاري خاص يتعارض دوماً مع نمط التّقليد (ص: 38).

ثم ناقش الباحث مصطفى بن تمسك الفرضيات الثلاث المرتبطة بالتحقيب للحداثة ونشأتها. متسائلاً: هل الحداثة قطيعة أم استمرارية؟ صلابة أم سيولة؟ فشرح الرأي القائل بأن الحداثة لا تكون إلا على هيئة القطيعة، ثم الرأي المعارض، والّذي يذهب إلى اعتبار الحداثة مسكونة بماضيها، وأخيراً تطرق للرأي القائل بأن للحداثة زمنا استثنائيا.

في الفصل الثاني من المحوّر الأوّل، يتطرق الكاتب إلى السّجال الإيديولوجيّ والتّفكيك الفلسفيّ للحداثة الأوروبيّة، وقد ناقش في هذا الفصل نقطتين أساسيتين: الأولى متعلقة بالتّقليد اللاّهوتي/ السياسيّ في مواجهة الزّمن الاستثنائي للحداثة، وهنا تناول بالدراسة أطروحات كلّ من جوزيف دي ميتر ولويس دي بونالد، وادموند بورك، وشاتوبريان. والنّقطة الثّانيّة متعلقة بالتّفكيك الفلسفيّ للحداثة، وتناول فيها مواقف كلّ من نتشه ومدرسة فرانكفورت وهيدغر.

وأمّا في الفصل الثالث، فتطرق الباحث إلى مناقشة ما بعد الحداثة الّتي تعد تفكيكاً أقصى للحداثة. وقد ذهب الباحث مع الرأي القائل إنّ ما بعد الحداثة فاصلة نقدية ظرفية امتدت من سنوات السبعين إلى التسعين من القرن الماضي، ثم تلتها العولمة الّتي هي الحداثة ذاتها، وقد تطهرت بالنقد الما بعد الحداثي من الشوائب والإخلالات التي انحرفت بها عن غايتها الأولى (ص: 157). ويرى الباحث أن ما بعد الحداثة تقوم على أربعة محاور نقدية؛ أولها نهاية السّرديات الكبرى أو الأنساق الفكرية الجامدة والإيديولوجيات الكبرى المغلقة، فضلاً عن نظريات العلم المتعلقة بالحتميّة والتّاريخيّة الّتي كانت سائدة في مرحلة الحداثة (ص: 157). وثاني محاور النقد الما بعد الحداثي هو موت الإنسان ونهاية أوهام التفوق، وهو نقد موجه للنزعة الإنسانية الحداثية التي أعلت من قيمة الإنسان. أمّا ثالث محاور النقد الما بعد الحداثي، فهو نقد فكرة التقدم أو نهاية الزمن الاستثنائي للحداثة الأوروبيّة، فقد ميزت الحداثة نفسها بالتقدم اللامتناهي للتاريخ وبالحدوث المستمر لذاتها، فأضحى التقدم روح الحداثة وماهيتها وهويتها. وأمّا رابع محاور النقد الما بعد الحداثي، فهو نهاية الديمومة وبداية الفوضى الخلاقة، ففي مرحلة ما بعد الحداثة لم يعد يمكن أن نتحدث عن رابط اجتماعي واحد، أو عن هُوية مشتركة، أو سردية واحدة، بل عن روابط لامتناهية تتداخل فيها مؤسسات التّشريع القانوني والإدارة والمنظومات السياسيّة وسلطة الشركات المتعددة الجنسيات (ص: 176)، ممّا يجعلنا أمام نسبوية معرفيّة وأخلاقيّة وقيميّة، تؤدي إلى الفوضى واستحالة التوافق الاجتماعي والسياسي وهذه الفوضى يصفها رواد ما بعد الحداثة بالفوضى الخلاقة.

وبعد عرض الباحث لمحاور النقد ما بعد الحداثي، يتطرق د. بن تمسك إلى حدود هذا النقد. ويؤكد على أن النقد الما بعد الحداثي لا يعدّ إعلاناً لقطيعة مع الحداثة، بل إن غياب البديل العملي واكتفاء النقد الما بعد حداثي بالبعثرة والحفر دون محاولة تركيب أو وضع نسق بديل، سيؤدي إلى أن تستفيد القوى ذاتها التي ينتقدها؛ أي قوى الحداثة، وهكذا يضع هذا النقد الذي يبدو في الظاهر تمرّداً على الأنساق نفسها بوعي أو بغير وعي تحت تصرّف الأنساق المجردة التي يقتضيها منطق السوق الرأسمالية (ص: 188).

في المحور العملي، وهو المحور الثاني من الكتاب يتطرق الباحث د. بن تمسك إلى موضوع التفكك الجيوـ سياسي للحداثة الأوروبيّة ومقدم العولمة. ويقسم الباحث هذا المحور إلى ثلاثة فصول، يتطرق في الفصل الأول منها إلى تداعيات التفكيك ما بعد الحداثي: نهاية الريادة الأوروبية على العالم. ويناقش في هذا الفصل مفهومي "أوروبّا" و"العالميّة الأوروبيّة" متسائلاً من هي أوروبّا؟ وهل العالميّة الأوروبيّة حقيقة أم مغالطة؟ ويسلط الباحث الضوء في هذا الفصل على مجموعة من الإشكالات التي تعرفها أوروبّا، كالتفاوت الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوربّي، وهيمنة ثالوث القوة الأوروبي: بريطانيا، فرنسا، ألمانيا على دول أوروبا الصغرى والمستقلة حديثاً من هيمنة الاتحاد السوفياتي. فرغم وجود الوحدة المتمثلة في "الاتحاد الأوروبي"، فإن هناك صعوبات تنتج عن الاختلافات الثقافية واللّغويّة والدّينيّة والاقتصادية لبلدان الاتحاد. ولهذا يؤكد الباحث بن تمسك على أن أوروبّا الواحدة والمتساوية في الحظوظ والثروات لا توجد إلا في أذهان الاستعماريين والعنصريين، الذين يرغبون في وأد تنوع الشعوب الأوروبية، وإخضاع الشعوب الضعيفة تحت غطاء الاتحاد الأوروبي. فأوروبّا تعرف نقاشاً حادّاً بين الوحدة من جهة، وبين تمسك الشعوب والدول، داخل الاتحاد، بالسيادات القوميّة. إلا أن هذا التنوع الأوروبّي، كما يؤكد الباحث مصطفى بن تمسك، يتم محوه من خلال مفهوم "الغرب" المتخيل الّذي يشير إلى هُوية عملاقة عابرة للقوميات الأوروبية، وهي هُوية تعمل على محو التّاريخ البالغ التنوع والتباين للشعوب الأوروبيّة، وتجمع هذه الهُوية العملاقة المسماة بـ "الغرب" بين قارتين: أوروبّا وأمريكا، تضاف إليهما أستراليا وكندا واليابان (ص: 207). ومن هنا كان ما يجمع أوروبّا وأمريكا أفكار مشتركة كثيرة ومرجعيات واحدة، جعل العلاقة بين أمريكا وأوروبا علاقة تأثير وتأثر، إلا أن أوروبّا ستصل إلى نهاية عصرها الكوني في مطلع التسعينيات، وستفقد ريادتها الحداثية على العالم، ويبدأ عصر جديد وهو العصر الأمريكي الذي ستصبح فيه أمريكا حامية الحداثة ومنقذتها. ولهذا، فالباحث د. بن تمسك يخصص الفصل الثاني للحديث عن الانتقال من المركزيّة الأوروبيّة إلى المركزية العولميّة الأمريكيّة، وفي هذا الفصل يرى الباحث أن النقلة إلى العولمة سببت أزمة على صعيد القيم وعلى الصعيد السياسي، فلم يكن، بالتالي، العبور إلى مرحلة العولمة سهلاً وسلساً، بل إن الفراغ القيمي الذي أحدثه النقد الما بعد حداثي استمر مع العولمة. أمّا على الصعيد السياسي، فمسألة السيادة لم تعد كما كانت تقليدية مرتبطة بفكرة التعاقد وما يرتبط بها من فاعلين: شعوب، وهيئات التمثل النيابي، وإنّما وقعت تغييرات عميقة متعلقة بآليات التحكم في السيادة. أمّا الفصل الأخير، فقد تناول فيه الباحث موضوع الحركات المناهضة للعولمة الأمريكيّة كالمنتدى الاجتماعي العالمي الذي يضم تياراً كبيراً من المنظمات المختلفة الاهتمامات، والذي يطمح إلى نسج سردية كونيّة جديدة تفضح العولمة الرأسماليّة. كما ناقش الباحث موضوع الحركات الجهادية والحركات الإسلاميّة الأصوليّة التي تقدم نفسها كعدو للعولمة الرأسمالية، في حين أنها تسهم في بقائها وفي خدمتها.

خاتمة

في الختام، إن المتأمّل لعنوان الكتاب قد يبدو له أن الكاتب يقصد تفكك الحداثة كمفهوم يحمل بعداً إنسانياً، في حين أن الكاتب يميز بين أشكال الحداثة المتعددة، ونقده متجه بالأساس إلى الحداثة العولميّة الرأسماليّة الّتي ترعاها أمريكا. كما أن الباحث يعبر عن موقفه من استغلال قيم الحداثة الرومانسيّة في أغراض غير إنسانيّة، بل ومتوحشة وتدميريّة.

وهكذا، فإن قيمة الكتاب العلميّة تكمن في نقده لمستغلي قيم الحداثة الكلاسيكية الرومانسيّة، إن صح التعبير، وفي نقده للحداثة بصورتها الرأسمالية العولميّة، وهو نقد مهم يسهم في تعرية الواقع السياسيّ العالميّ، ويبيّن خلفيات الكثير من القرارات الّتي تتخذ دون الأخذ بعين الاعتبار لقيم الحداثة كما نظر لها الفلاسفة الإنسانويون منذ القرون الوسطى. فالكتاب يعري الرأسمالية العولمية، ويوضح حيلها السياسية في تحريفها لمطالب المجتمع المدني، وذلك من أجل انقاذ نفسها من الفناء.

ويمكن اعتبار الكتاب مرجعاً مهماً للباحثين، وخاصة للمشتغلين في حقل الفلسفة، لأن في الكتاب جانب نظري فلسفي عميق تناول مفاهيم كالحداثة وما بعد الحداثة، كما ناقش أطاريح فلاسفة كبار كنتشه وهيدجر ومدرسة فرانكفورت بجيليها الأوّل والثاني.


[1] المقصود ب (ص) كما سيرد مراراً في هذه القراءة هو رقم الصفحة التي وردت فيها الفكرة من كتاب: مصطفى بن تمسك، الحداثة الأوروبية مسارات التفكيك ونهاية الريادة، مؤمنون بلا حدود، ط: 1، 2018