الدلاي لاما: من اللاهوت الديني إلى الأخلاق الإنسانيّة


فئة :  مقالات

الدلاي لاما: من اللاهوت الديني إلى الأخلاق الإنسانيّة

إذا كان الدين يُمثّل خُلاصة أنطولوجية بالنسبة للأتباع، ولا يمكن للمتديّن أن يرى الخلاص بالنسبة للبشرية جمعاء خارج دينه؛ ساعيا ـ المرّة تلو الأخرى - إلى إقناع الناس بالأهمية القصوى لهذا الدين تحديداً من دون الأديان الأخرى؛ بصفته التموضع الأخير للحقيقة الروحية التي تُساور الإنسان منذ باكورة وجوده في هذا العالَم، وصولاً إلى لحظة الموت، إذا كان هذا الدين غير مُرتبط بمشيمةٍ ميتافيزيقية، أو باللحظة الماورائية إن كان له ارتباط وثيق بعوالم أخرى، خارج عالمنا الزمكاني، إذا كان الأمر كذلك، فإنّ "الدلاي لاما" ـ الحبر الأعظم في التيبت ـ يتجاوز هذه المحنة وذلك بنقل خُلاصته من الأطر اللاهوتية إلى إطار الحكمة الإنسانية، كما جلّاها في كتابه (الحكمة القديمة والعالَم الحديث)[1].

ثمة صورة فوتوغرافية تتداولها وسائل الإعلام العالمية للدلاي لاما [الصورة ذاتها تظهر على غلاف الطبعة العربية من كتابه] يظهر فيها وهو مُنحنٍ قليلاً ـ مثل رسول أثقلته الحمولة الإلهية التي دفقت إليه من أعالي السماء -، رافعاً يده اليسرى وباسطاً كفّها ناحية وجهه ـ كما لو كان نبياً انتهى للتوّ من الإنباء برسالته اللّدنية إلى أتباعه ومريديه -، فيما يظهر على مُحيّاه نوع من الامتنان لِمَن كان ينظر إليهم لحظة التقاط الصورة، كما لو أنه قد امتلأ بمحبتهم التي فاضت منهم، كماء عذب على وجهه، عقب انتهائه من سرد تعاليم نبوءته.

هذه الصورة هي أكبر تعبير عن كتاب (الحكمة القديمة والعالم الحديث) لـ "الدلاي لاما"، فهو شخص تبدو عليه ملامح إنسان انبثق للتوّ من نصّ ديني قديم، فوجد نفسه بين ناطحات السحاب والشوارع المضاءة وأشعة الليزر والهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي والشاشات المُسطحّة ونظرية الكوانتم، والخرائط الجينية والمركبات الفضائية. ولكي يُداري هذه الوحشة الأنطولوجية، يعمل "الدلاي لاما" على صهر خُلاصته الدينية القديمة في نوع من الخلاص المعرفي الحداثوي، لذا نراه قد تجاوز محنة اللاهوت الذي يسعى إلى تبيان حسنة دين بعينه على حساب الأديان الأخرى، وينتقل ـ من ثمّ - إلى الحكمة الإنسانية التي يمكن استشراف مبانيها ومعانيها من العالم القديم وأديانه المختلفة، والعالم الحديث وعلومه الحديثة، شريطة أن تنسجم هذه الحكمة مع الرؤية الأخلاقية التي لا تخضع الإنسان لإكراهات أو استلابات من شأنها الحطّ من قيمتيه: المادية والمعنوية.

وهو إذ يدعو إلى ذلك فإنه يعي إلى أين وصل الاجتماع الإنساني من تشابك واشتباك مع بعضه بعضاً إلى درجة التداخل والتلاحم فيما بينه، بما يستوجب تقديماً للأخلاق على مسلكيات الفعل الإنساني. فكل "عمل ـ يكتب الدلاي لاما - من أعمالنا له بُعد عالمي، ومن هذا المنطلق يشكل النظام الأخلاقي، والسلوك السليم، والفطنة الحكيمة، أساسيات السعادة في الحياة...، فسابقاً كانت العائلات والتجمعات الصغيرة قادرة على التواجد مستقلة نسبياً الواحدة عن الأخرى. دون شك كانت تأخذ بالاعتبار راحة جيرانها، لكن كان باستطاعتها العيش بشكل جيد جداً حتى دون أن تكون معنية بالأمر. لكن حالياً، لم يعد الأمر هكذا. حقيقة الحياة المعاصرة هي من التعقيد، ومن التشابك الواضح، على المستوى المادي على الأقل، بشكل تتطلب فيه الأمور موقفاً آخر. والشيء نفسه فيما يخص إنجازاتنا التقنية، تلك التي لها تأثير واضح حالياً على البيئة الطبيعية. وأهمية شعوبنا تعني أنه لم تعد تسمح لنا بتجاهل الآخر. في الواقع، علاقاتنا متداخلة إلى درجة أننا كثيراً ما نرى مصلحتنا في فائدة الآخرين، ويحدث هذا أحياناً بالرغم منّا. عندما تشترك عائلتان في مصدر واحد للمياه، مثلاً، فالحرص كي تبقى هذه المياه غير ملوثة يصبّ في مصلحة الاثنتين".[2]

وفي الوقت الذي يدعو فيه إلى نموذج أخلاقي، أمكنه استيعاب التجربة الدينية الإنسانية في عموميتها الكليّة، فإنه يُؤسّس لهذه الدعوة بتفريق إبيمستولوجي بين (الدين) و(الروحانية). ففي الوقت الذي يمكن للدين أن يكون عقبة أمام الاجتماع الإنساني، لا سيما ما يمكن أن ينتج من تصادمات بين أتباع الأديان المختلفة، لناحية ادعّاء صاحب كلّ دين بأنه يملك الحقيقة وحده، وما على الآخرين سوى اتبّاع دينه تحديداً؛ فإنّ الروحانية ـ بموجب الطرح الدلاي لاما - هي المُخْرَج الأمثل لمأزق الفُرقة العالمية، بصفتها حاوية لمعانٍ نبيلة وسامية. وفي بداية كتابه يؤسس لهذه الدعوة:

"في الواقع، أعتقد أنه من المناسب إقامة تمييز مهم ما بين الدين والروحانية. أنا أربط الدين في الإيمان بالخلاص، الذي تعدُّ به هذه العقيدة أو تلك، مع القبول بحقيقة ميتافيزيقية أو خارقة للطبيعة بمقدورها بشكل ما أن تتضمن فكرة الجنة أو النيرفانا، وتشتمل على تعاليم العقيدة، والطقوس والصلاة. أنا أربط الروحانية بتلك الخصائص للعقل البشري: المودة، والرحمة، والصبر، والاحتمال، والتسامح، وحسّ المسؤولية، التي تجلب السعادة لنا وللآخرين في الوقت نفسه...، لهذا أقول أحياناً إنّ الدين قد لا يكون أمراً لا يمكن الاستغناء عنه، إنما بالمقابل، تبقى الخصائص الروحية العميقة هي الأساسية".[3]

و"الثورة الروحية التي أوصي بها ليست إذن ثورة دينية. ولا علاقة لها أيضاً بنمط حياة الذي هو بطريقة ما سيكون من عالم آخر، وأقل من ذلك بكثير علاقتها مع أي شيء سحري أو غامض. بل هي بالأحرى إعادة توجيه جذري بعيداً عن اهتماماتنا الأنانية الاعتيادية لصالح المجتمع الذي هو مجتمعنا، بطريقة نأخذ فيها بعين الاعتبار مصالح الآخرين في الوقت نفسه كمصالحنا".[4]

لهذا تتقدّم الأطر الأخلاقية التي يمكن أن تجمع البشرية جمعاء على مائدة واحدة، إلى الأمام، في التجربة الدلاي لاميّة، وتتأخّر الأطر الدينية خطوة إلى الخلف، رغم ما يتمتّع به الدين من احترام كبير من شخصية الدلاي لاما، بحكم تكوينه التأسيسي، إذ تلّقى التعاليم البوذية منذ صغره، فقد وقع عليه الاختيار ـ آنذاك - لكي يكون الحبر الأعظم لأتباع الديانة البوذية في التيبت.

وهو إذ يُقدّم الأخلاق الإنسانية المشتركة، مع ما تتضمنه من قدرة على جمع شتات الجنس البشري، وحلّ مشاكله بالحسنى، فإنه يسعى إلى صهر الأديان في خبرة أخلاقية واحدة، والاستفادة من خيريتها التي رُوكمت على مدار آلاف السنين الماضية، دونما انحياز لدينٍ على حساب الأديان الأخرى، بما يدخل البشرية في طور جديد من أطوار النبذ والتذابح ونفي الآخر المغاير.

لذلك يدعو إلى نبذ التجاهل بين الأديان، من خلال "الحوار مع باقي أعضاء الثقافات الدينية الأخرى الذي يمكن أن يحدث بطرق مختلفة: النقاش بين الباحثين الذين تناولوا بالبحث الاختلافات والنقاط المشتركة للديانات المختلفة... اللقاءات بين المؤمنين من كافة الطوائف... لقاءات عارضة بين مسؤولين دينيين للصلاة لأجل قضية مشتركة... وأخيراً ـ يضيف الدلاي لاما - أعتقد أنه سيكون من المفيد جداً المشاركة في حج يجمع مؤمنين من ديانات مختلفة...، عندما تمارس نشاطات كهذه، فالذي يمارس تقليداً ما سيكتشف أنّ الديانات الأخرى، كديانته، تشكل مصدراً للإلهام الديني ودليلاً للسلوك في الوقت نفسه".[5]

وهكذا، أمكن صهر أتباع الأديان جميعها في ديانة أخلاقية واحدة، يمكن التعويل عليها في بثّ ثقافة التسامح والرحمة بين بني البشر، لا سيما بعد أن كانت الأديان المختلفة سبباً رئيساً فيما شهده عالمنا - قديماً وحديثاً - من حروب شرسة وعنيفة. و"الدلاي لاما" إذ يطرح هذا الطرح المثالي، فإنه يبدأ بنفسه، ناقلاً تجربته الحياتية من مثاليتها الذهنية إلى واقعية السلوك العملي، ويضرب على ذلك كثيراً من الأمثلة في علاقته بالأديان المختلفة، بما يمنح تجربته الروحية صدقاً كبيراً، يفتقد إليه كثير من رجال الدين في عالمنا المعاصر.

ولربما شكّل كتاب (الحكمة القديمة والعالم الحديث) رؤية رحمانية من رجل دين أخلاقي، يمكن أن يستشرف بها معالم معمار إنساني مُحبٍّ، متسامح، ومتعاون من أجل خير البشرية جمعاء.


[1] الدلاي لاما، الحكمة القديمة والعالم الحديث، ترجمة راغدة خوري، دال للنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، ط1، 2015

[2] المرجع السابق، ص ص 221- 222

[3] المرجع السابق، ص ص 47- 48

[4] المرجع السابق، ص 49

[5] المرجع السابق، ص ص 297- 299