الدولة والحكومة: التمييز الضروري لاستكمال الثورة


فئة :  مقالات

الدولة والحكومة: التمييز الضروري لاستكمال الثورة

يلاحظ الناظر إلى مجريات الحملة الانتخابيّة البرلمانيّة في تونس هذا الإصرار الدائم من قبل ناخبي الحزب الإسلامي على الولاء السياسي التامّ له، بصرف النظر عمّا لأفكاره من قدرة على الإقناع، في شبه عناد وتجاهل للمخاطر التي بيّنتها تجربتهم القصيرة في السلطة التي مارسوها على رأس الدولة، حتّى وهم وقتها منتخبون لكتابة الدستور. يبدو أنّ خذلان العقد القانوني والأخلاقي من قبل الإسلاميين لا يكفي ناخبيهم للتشكيك في صدق وعودهم بالاندراج في منظومة المأسسة وما تقتضيه من التزام معنوي وعملي بالقانون، ولا تقام المقارنة أو أنّها تتجاهل بين تعهّدهم لمّا أوصلهم ناخبوهم إلى السلطة بالالتزام بوظيفتهم التأسيسيّة ولمدّة سنة واحدة، وتجاوزهم لتلك الوظيفة وللمدّة المحدّدة لها، رغم ما جرى خلال تلك المدّة نفسها من أحداث لا توحي بعزمهم على الاستمرار في نسق الدولة أصلاً.

الواقع أنّه لا يصعب على الساعي لتفسير هذا العناد أن يجد تبريراته في شعار كلّ الموالين للحركة، أو في استمرار الخوف من عودة الاستبداد، والشعور بتزايد إمكانيّة حدوثه، أو في النّقمة على الدولة القديمة، والخلط بين فكرتي الدولة والحكومة، وتحميل الأولى كلّ سوءات الثانية، أو في استمرار الولاء للإيديولوجيّة الإسلاميّة، والظنّ أنّ الحزب الإسلاميّ ممثلها الوحيد، أو في حساب للمصلحة يقدّر أنّها ستبقى إلى جانب من يواليهم ماداموا الحلقة الأقوى في السلطة.

ليس من المناسب، من وجهة نظر متفهّمة لتعقّد عالمي السياسة والاجتماع وللتركيب الملازم لكلّ عمليّة تأويل لهما، إدانة تلك الأسباب إن وجدت فعلاً، لكنّ ما يدان فعلاً هو العمل من خلال الدولة وبآليّاتها على تهديم هذه الدولة نفسها.

الحقيقة أنّه لم تظهر دراسات اجتماعيّة تنجز استبياناً لمدى تفهّم مناصري الحزب الإسلاميّ لجوهر أطروحته المشروحة في كتب أبرز منظّريه، إن لم يكن منظّره الوحيد، الرئيس الحالي لحركته. ولكن يمكن القول إنّ هذا الوعي غائب عند الأغلبيّة الشعبيّة، ما دام غائباً عند الكثير من المثقّفين. وقد تكفي هنا نظرة بسيطة إلى ما يقال في حواراتهم الإعلاميّة، أو في بعض مؤلّفاتهم المتأخّرة لتأكيد هذا الحكم. ففي هذه المؤلّفات والحوارات ما في الخطابات الشعبيّة البسيطة ما يقنع بأنّ الأغلبيّة سواء في عدم إدراك الفرق الشاسع إلى حدّ التناقض بين مفهوم الدولة الإسلاميّة ومفهوم الدولة[1]. هذا التناقض الذي يجد أسبابه النظريّة في كتابات المؤسّسين، في رؤيتهم شبه الماركسيّة للدولة التي تراها أداة لمشروع متجاوز، يقوم على أنقاضها فيدمّرها وهو يؤسّس المشروع. ويختزل هنا الفرق في معايير التشريع، ولا يلتفت إلى مصدره الذي يؤدّي إلى تقابل تامّ بين المفهومين.

وفي هذه الحالة على من نلقي باللّوم؟ وإلى من نتوجّه للإقناع بالمخاطر المحدقة بنا نحن التونسيين والعرب المسلمين الثائرين مثلنا، والطامحين مثلنا إلى بناء دولتهم في مصر، وليبيا، وسوريّة، واليمن، إن نحن واصلنا التسليم الأعمى بهذا المشروع؟ كيف نقنع الجميع من الموالين له، وهم يحتجّون بأنّ هدفهم تأسيس ديمقراطيّة محصّنة بالدين، حتّى لا تقع سرقتها من الداخل من قبل الفاسدين الذين "لا يخافون اللّه"؟

بصرف النظر عن الهشاشة النظريّة والعمليّة لهذا الربط الذي ينجزونه بين الديمقراطيّة والخوف من اللّه، يبدو أنّ لمخاوفهم ما يبرّرها في تاريخنا القريب والبعيد، فسرقة الديمقراطيّة قد تمّت فعلاً من قبل حكومات أعلنت أنّ خوفها من القوانين والتزامها السياسي أهمّ من خوفها من اللّه سياسيّاً. وفي هذه الحالة فإنّ إقناعهم بأنّنا قادرون على تأسيس الديمقراطيّة بالمؤسّسة نفسها ومعاييرها الوضعيّة، ينبغي أن يجري برفع الخلط الحاصل في الأذهان بين الحكومة والدولة، ولكنّ الأهمّ من ذلك أن نقنعهم بأنّ الدولة التي يدينونها لا وجود لها في العالم العربي، أو هي بناء لم يكتمل حتّى ندينه، فالأجدر أن نستأنف عمليّة البناء المعطّلة، من أن نهدم البناء على من فيه، وأمّا الديمقراطيّة فهي تأسيس ملازم للبناء، فإن لم يتمّ فمن الممكن إلحاقه بعد إكمال الهيكل، هذا ما فكّر فيه أحد بناة الدولة التونسيّة على الأقلّ.

من المعلوم أنّ كشف عدم اكتمال نسق الدولة في العالم العربي قد تمّ على أيدي عدد كبير من المفكّرين في العالم العربي أمثال وضّاح شرارة، وعادل ضاهر، وسمير أمين، وغيرهم. أمّا القول إنّ الديمقراطيّة يجوز أن تبنى بعد بناء الدولة، فقد يبدو للكثيرين فكرة متناقضة، فلا دولة إلاّ وهي ديمقراطيّة، فكيف تضمن ديمقراطيّتها البعديّة إن اكتمل البناء، تكذّب الدول الفاشيّة والنّازيّة والشيوعيّة في التاريخ هذه المزاعم.

الحقّ أنّ الإجابة عن هذه الاحتجاجات لا يمكن أن تكون بنفيها، وإنّما بالغوص أكثر إلى عمق الإشكال الكامن في الخلط بين الحكومة والدولة، ورفعه ببيان أنّ تاريخ الدولة ظاهرة غربيّة النشأة، كان أوّلاً تأسيساً للكيان المعنوي الذي يتحوّل إلى مقرّ للقيمة السياسيّة بصرف النظر عن الحكومات. فهذه هي العمليّة المقصودة بتقريرنا إمكانيّة بناء الديمقراطيّة بعد بناء الدولة، واستحضارها يمليه التشابه بين لحظتنا الراهنة التأسيسيّة للدولة الممتدّة إلى بداية التفكير الإصلاحيّ، وبين اللّحظة التأسيسيّة للدولة في الفكر الغربيّ مع ماكيافال (ت 1527م)، وبودان (ت 1596م)، وهوبس (ت 1679م)، وذلك قبل أن يقع التنظير لدمقرطتها فيما بعد مع مونتسكيو (ت 1755م) وروسو (ت 1778م) وسيياس (ت 1836م).

التشابه هنا ليس كامناً في الصراع الذي أنتج ميلاد التنظير الفرنسي لمفهوم السيادة مع شارل لوازو (ت 1627م)، وبودان[2]، بين ملوك فرنسا من جهة، والإمبراطور والبابا والإقطاع من جهة ثانية، هذه أحداث تاريخيّة ما عدنا نعيشها، ولا عشناها منذ بداية القرن العشرين، رغم الصراع الذي عشناه مع الإمبراطوريّة العثمانيّة، إنّما الهدف من ذلك الصراع هو السعي إلى كسر السلطات الوسيطة التي كانت تتحكّم في الفرد وتهيكل حياته. كانت هذه السلطات في أوروبا إلى حدود القرن الخامس عشر سلطات رجال الكنيسة، والبابا، والإمبراطور، ورجال الإقطاع، والمجموعات الحرفيّة. وكذلك كانت في تاريخنا القريب بنفس التشتّت والتعدّد المكبّل للفرد، وهي تهدّد مجدّداً بعودتها رغم الجهود التي بذلتها دولة الاستقلال في محاربة النزعة القبليّة المعروفة بـ"العروشيّة"، وسلطة الطرق والأولياء الصالحين وأئمّة الدين، وسلطة العائلة الموسّعة، والمجموعة الحرفيّة أو المهنيّة. يبدو أنّ الحديث عن خطر عودتها مبالغ فيه، لكنّ خصائص كثيرة في السلوك الجماعي تبيّن أنّ هذه السلطات ما تزال تعمل عملها الخفيّ الموروث من الذاكرة الجماعيّة، وتنعكس في غياب الولاء النفسي والعملي للدولة، بمظاهر انعدام الوفاء لفكرة القانون.

لمّا قدّم ماكيافال وهوبس وبودان تنظيراتهم للدولة، كانت إيطاليا وفرنسا وإنجلترا ما تزال ترزح تحت الحكم الملكيّ، وخدمة لهذا الحكم كتب الأوّل كتابه "الأمير" (1532م)، وكتب الثاني كتابه "الليفياتان" (1651م)، وكتب الثالث كتابه "الكتب الستّة حول الجمهوريّة" (1576م)، ولكن لم يكن الهدف في الحالات الثلاث تأزيل ذلك الحكم بقدر السعي إلى إعطاء كيان الدولة وجوداً معنويّاً، وإقرارها مبدأ سيّداً لتنظيم الوجود الاجتماعيّ، سيتعالى به هيغل فيما بعد فيعتبره أفقاً للتاريخ.

في "العقد" الهوبسي، كما في "السيادة" البودانيّة، أوجد هوبس مثل بودان الأساس المنتج لاجتماع الأفراد في قلب الصراع الذي كانت الملكيّات المؤسّسة حديثاً وقتها تخوضه ضدّ بقايا ادّعاءات السلطة البابويّة الموحّدة من جهة، وضدّ نظريّة الحقّ الإلهي للملوك المهدّدة لتنظيره من جهة ثانية. وما أرادا فعله هو السعي إلى تأكيد القطيعة مع التصوّر البابوي الإمبراطوريّ للسلطة وبنائها القروسطي المنتهي الصلاحيّة، والتصدّي لدعاوي الحفاظ على الاستمراريّة الدينيّة الضامنة للتواصل الحضاري. نعم كان بين ماكيافال من جهة، وهوبس وبودان من جهة ثانية اختلاف في الظرفيّة التاريخيّة، سبّبته الحروب الدينيّة التي لم يعشها الأوّل، لكنّهم جميعاً كانوا يعملون ضمن الآليّة نفسها.

مع ماكيافال طرحت الدولة بوصفها القوّة الوحيدة الموحّدة للمجتمع، والمؤسّسة الإنسانيّة الضروريّة لإدارة السياسيّ. ولم يختلف الأمر مع هوبس وبودان، فقد كانا ينخرطان بدورهما في ذلك البحث الذي أضنى الفكر السياسي الغربي بإيجاد الإطار السياسيّ الكفيل بالحفاظ على وحدة الأمّة، وعلى إيقاف العنف المتولّد من تنوّع الشرعيّات المحتكرة للقوّة بعد نهاية الحروب الدينيّة (في فرنسا مثلاً بين 1562 و1598م). في سياق ذلك الاستقرار الهش كان ينبغي تأسيس قاعدة جديدة للقوّة لم يجدها الإنسان الغربيّ في الدين أو في الطبيعة أو في الأخلاق، وكانت الدولة هي هذه القاعدة. فبتوضيحه لخصائص السيادة الأربع، وتمحيضها للدولة بوصفها المالك الوحيد لحقّ الأمر، وتفريقه بين الدولة شخصيّة معنويّة، والحكومات الزمنيّة التي تتداول عليها، وبين السلطة والقوّة، بيّن بودان أنّ الدولة كيان مجرّد للقوّة ثابت وقارّ، تتولاّه حكومات ظرفيّة عرضيّة.

وأمّا عمل هوبس في هذا السياق التأسيسي للدولة فكان تأكيداً لهذا المفهوم البوداني؛ أي مفهوم السيادة بمضمونه البنائيّ للدولة هيكلاً مجرّداً للقوّة، بمنحه قاعدته الشرعيّة في العقد الاجتماعي الذي يؤسّس السيادة الدولتيّة على قرار عقلي اختياري إنسانيّ، السيادة هنا ملك للمجتمع، يضعها في مؤسّسة الدولة، ويمنحها للحاكم مقابل عقد.

بهذا العمل الذي أنجزه خاصّة ماكيافال وهوبس وبودان، تأكّدت الدولة جهازاً أعلى يوقف العنف الفوضوي، ويحتكر القوّة الحامية للمجتمع، ويفصلها عن الحكّام. وسيكون تنظير مونتسكيو وروسو وسيياس تخليصاً لهذه المؤسّسة من التماهي التاريخي الحاصل بينها وبين شخص الملك، في اتّجاه وصلها بجوهر الفكرة العقديّة، تمثيلاً لسيادة الأمّة، تضعها في مؤسّسة الدولة، وما يمنح للحكّام مقابل العقد هو أدواتها، أي السلطة الضروريّة، أمّا السيادة فتبقى ملكاً للأمّة، فقد أكّد بودان منذ القرن السادس عشر أنّ السيادة مطلقة، لا تنقل ولا تنقسم، وأنّ مقرّها ثابت في الدولة.

متى نظرنا إلى تاريخنا المعاصر الواقع في سياق المنوال الحضاري الغربيّ المنتشر كونيّاً، لا يعسر علينا أن نجد في إرثنا الإصلاحيّ، وهو تاريخيّاً أوّل من فكّر في تأسيس الدولة عندنا، بعض أوجه الشبه المبدئيّة مع تنظير ماكيافال وهوبس وبودان للدولة. صحيح أنّ فرقاً واسعاً يفصل بين الفريقين، فالأوّل فكّر في سياق توسيع الإيديولوجيا الدينيّة لتحضن التطوّر التاريخيّ، بينما الثاني كان يعمل في نسق علمنة أفقه على استقلال السياسي عن كلّ ما عداه، ولكنّ كليهما كان يسعى إلى منح الدولة كياناً معنويّاً قارّاً، ويجعلها مقرّاً للسيادة والسلطة مستقلاّ عن الحكّام.

رأى الفكر الإصلاحي، عندنا في تونس، النهضة تحديثاً على النمط الغربيّ للسياسة أوّلاً، وتفطّن إلى جوهره، تقييداً للسلطة للفصل بين الدولة مقرّاً للسيادة والحكّام. ورغم أنّه احتفظ لهذه السيادة بمضمون ميتافيزيقيّ دينيّ برّر سلطة الحاكم الفرد بمقتضاه، إلاّ أنّه من داخل ذلك المضمون نفسه كان يعزله أيضاً عن الدولة، بإسنادها شرعيّة متعالية وجدها في الشريعة.

وحين قام أول مشاريع بناء الدولة التونسيّة بعد الاستقلال ما كان له أن يتخلّص من ذلك الإرث الإصلاحيّ المودع فيه بالضرورة بفعل الوعي الجمعي الذي ما كان أيضاً ليتحمّس له ويمنحه المشروعيّة لو لم يستجب لشروط ميراثه البعيد والقريب. وحتّى وهو ينفلت من قيود المأسسة وتجريد السلطة ليلتحم بالقائد الملهم صاحب الكاريزما، فإنّ ذلك الوعي كان يقبل ذلك ويقبل عليه من منظور وفائه لفكرة المشروع الدولتي التحديثي، ولكن أيضاً المؤسّس للدولة.

فهل يجوز أن نعتبر مع الإسلاميّين أنّ الدولة على الطراز الغربيّ هي سبب نكباتنا فلا بدّ من تقويض المشروع؟ ألا ندين الدولة بذنوب من تداولوا على تولّيها، فنكرّر بهذه الصورة خطأ تاريخيّاً فادحاً وقعت فيه أوروبا، كما وقعنا فيه في تاريخنا البعيد، بل في التاريخ السابق للثورة لمّا شخّصنا السلطة فتماهت في ذهن الكثيرين الدولة ورئيسها؟

تبدو اللحظة الراهنة فارقة في تاريخنا، فبعيداً عن نظريّات الحتميّة التاريخيّة، لا مفرّ لنا للّحاق بركب الحضارة ولإنجاز ما وعدت به الثورة، من أن نستعيد النسق المقطوع الذي باشره مصلحونا لتأسيس الدولة، أمّا دمقرطتها فهي أمر يلازم ذلك التأسيس، وستقودنا الدربة، وقد بدأنا نخوضها فعلاً، إلى تفعيل هذا التلازم، ولن ننتظر ربّما مدّة القرنين اللّذين أمكن للثورة الفرنسيّة بعدهما أن تفرح بنجاحها في تجسيم تنظيرات بودان ومونتسكيو وروسّو، وقد نتفادى أكثر الأخطاء التاريخيّة التي وقعت فيها الديمقراطيّات لمّا ظنّ أنّ الديمقراطيّة عتبة لا تراجع دونها متى تمّ تخطّيها، متى تمكنّا من تحويل هذا الوعي الجنيني بالمواطنة إلى أساس لفلسفة المواطن التونسي والعربي في الحياة.


[1]ـ يبدو أنّ من الأعمال القليلة التي تنبّهت لهذا الفارق من مدّة طويلة، كتابات عياض بن عاشور.

[2]ـ من المراجع المهمّة المعرّفة بمفهوم السيادة، كتاب: فتحي عبد الكريم، الدولة والسيادة في الفقه الإسلاميّ، دراسة مقارنة، مكتبة وهبة، ط2، 1984، وكتاب:

De Jouvenel Bertrand, De la souveraineté, Paris, 1955