الدين بين حياديّة الدولة وتديّن المجتمع: العلمانيّة المرنة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة


فئة :  قراءات في كتب

الدين بين حياديّة الدولة وتديّن المجتمع: العلمانيّة المرنة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة

الدين بين حياديّة الدولة وتديّن المجتمع:

العلمانيّة المرنة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة

(تقديم كتاب: "الدين في السياسة: جوانب دستوريّة وأخلاقيّة" لمايكل ج. بيري)


كتاب "الدين في السياسة. جوانب دستورية وأخلاقية"، تأليف مايكل ج. بيري، ترجمة عربي ميقاري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014، عدد الصفحات: 222.

حيويّة الدين في أمريكا أبهرت العديد من المراقبين والدارسين منذ زمن أليكسي دو توكفيل وإلى وقتنا الحاضر، حيث أشار دو توكفيل إلى أهمّية حياديّة الدولة من جهة، وانتشار مؤسسات طوعية محلية وفيدرالية تمكن الطوائف والجماعات الدينية من الاندماج في المجتمع الأمريكي، ومن المشاركة السياسيّة الفعالة من جهة أخرى. ومن بين الدارسين البارزين لقضية الدين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، مايكل ج. بيري (Michael. J. Perry)، الذي خصّص كتابًا ثانيًا لهذا الموضوع بعنوان "الدين في السياسة. جوانب دستورية وأخلاقية" الصادر عام 1997، والمترجم إلى اللغة العربية عام 2014.

أوّلاً - أهمّية الكتاب

يعدّ الدين قضيّة مركزية في سياسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، لكون أغلب الأمريكيين يعتنقون دينًا ما، وهم من أكثر الشعوب تديّنًا، حيث يعلن حوالي 95%من الأمريكيين البالغين إيمانهم بالله، ولكون المجتمع الأمريكي أيضًا يعرف تعدّدية الفئات الدينيّة؛ من يهود ومسيحيّين ومسلمين وبوذيّين وسيخ؛ وهي فئات تؤمن بالتعدّدية، وبمعارضة سيطرة المؤسسات الدينية أو رجال الدين على القانون والسياسة والتعليم والفن. فمؤسّسو جمهورية الولايات المتّحدة الأمريكيّة أسّسوا لحياة عامّة يحكمها نظام جمهوري علماني، متميّز على مستوى علاقة الدولة والدين عن العديد من الدول العلمانية الأخرى؛ تميّز عبّر عنه واحد من أكبر علماء اللاهوت الأمريكيّين في القرن العشرين رينهولد نيبوهر (Neibuhr Reinhold) بقوله: "إنّ الأمريكيين في الوقت نفسه أكثر الشعوب تديّنًا وأكثرها علمانية، فكيف لنا أن نفسّر هذا التناقض؟ هل يمكن أن يكون أحد أسباب ذلك كون الأمريكيين هم الأكثر تدينًا أم إنّهم أكثر الثقافات علمانيّة؟".[1]

ولا تخلو هذه العلاقة بين الدولة والدين في الولايات المتّحدة من التعقيد والتصادم على مستوى تجربتها التاريخيّة.

ونظرًا لتركيز الكاتب على دراسة هذا الأنموذج العلماني المتميّز، من خلال عرض الأطروحات الدستورية، والأطروحات الأخلاقية حول المجالين الديني والسياسي، ومناقشة حالات واقعية، واجتهادات حيوية للمحكمة العليا، وكذا من خلال تساؤلات مثيرة تمسّ الجوانب المعقّدة في علاقة الدولة بالدين، فإنّ الكتاب يكتسي أهمّية كبرى، لاسيّما في ظل تزايد الاهتمام في العديد من الدول، خاصّة الإسلامية، بالبحث عن تنظيم معقلن لعلاقة الدولة والدين، ولاسيما أنّ الكتاب يأتي من مؤلّف متخصّص، هو مايكل ج. بيري الذي أصدر كتابًا قبل هذا في الموضوع ذاته، تحت عنوان "الحبّ والسلطة: دور الدين والأخلاق في السياسة الأمريكيّة".

ثانيًا - العلاقة بين الدين والدولة: قواعد دستورية

توافق واضعو دستور الولايات المتّحدة الأمريكيّة لعام 1787، على إزالة الإشارات إلى الله في الوثيقة الدستورية،[2] وصياغتهم لما أطلق عليه بعضهم الدستور "الذي لا إله له"، حيث لم يعترفوا رسميًّا بأي طائفة من طوائف المسيحية ولا بالمسيحية نفسها دينًا للولايات المتّحدة الأمريكيّة[3]، وهو ما سيشكل اللبنة التأسيسية للعلمانية الأمريكية، حيث سهّل مأمورية معدّلي الدستور لبلورة أسس واضحة لعلاقة الدولة والدين، من خلال عدّة موادّ. هكذا نصّ التعديل الأوّل لدستور الولايات المتّحدة الأمريكيّة على أنّه "يحظر على الكونغرس إصدار قانون يؤسّس لدين من الأديان أو يمنع الممارسة الحرّة لهذا الدين، أو الحدّ من حرّية التعبير أو الصحافة ..."، ونصّ التعديل الدستوري التاسع على: "إنّ تعداد الدستور لحقوق معيّنة لا يجوز أن يفسر على أنّه إنكار لحقوق أخرى يتمتّع بها الشعب، أو انتقاص منها"، كما نصّ التعديل الرابع عشر على أنّه: "لا يجوز لأي ولاية أن تضع أو تطبّق أي قانون ينتقص من امتيازات أو حصانات مواطني الولايات المتّحدة. كما لا يجوز لأيّ ولاية أن تحرم أي شخص من الحياة أو الحرّية أو الممتلكات من دون مراعاة الإجراءات القانونية، ولا أن تحرم أي شخص خاضع لسلطاتها من المساواة في حماية القوانين...".[4]

فهذه النصوص الدستورية، إضافة إلى اجتهادات المحكمة العليا في العديد من القضايا، تؤطر دستوريًّا لعلاقة الدولة والدين، القائمة على قاعدتين أساسيتين هما: قاعدة حرّية الممارسة، وقاعدة عدم التأسيس.

1- قاعدة حرّية الممارسة:

وتعني عدم جواز منع حرّية الممارسة الدينية من طرف الحكومة سواء على المستوى الفيدرالي أو على مستوى الولايات. ويطرح الكاتب في هذا الإطار مسألة بالغة التعقيد، متمثّلة في السؤال التالي: ما هي الممارسات التي لا يجوز منعها؟

إنّ حرّية الممارسة الدينية لا تعني التمتّع برخصة لأن يفعل بناء على معتقدات دينية، من شاء ما شاء حيث شاء متى شاء؛ بل المقصود بذلك، هو منع الحكومة من إصدار قرارات أو قوانين معرقلة لأيّ ممارسة دينية، بناءً على اعتبارها أقل في بعدها القيمي مقارنة بممارسة أخرى؛ أي عدم التمييز بين المعتقدات والممارسات الدينية، وكذلك، منع التضييق المباشر وغير المباشر على الممارسة الدينية، كحرمان أشخاص من حقوق أو مكاسب نتيجة إيمانهم أو معتقداتهم.

2- قاعدة عدم التأسيس:

وتتمثّل في منع الحكومة من مناصرة دين أو أكثر باعتباره كذلك على حساب أديان أخرى، أو اعتبارها لمعتقد ديني على أنّه أقرب إلى الحقيقة، وكذلك منع الأعمال المباشرة أو غير المباشرة من طرف الحكومة التي من شأنها منح أو منع الاستفادة من حقوق أو مكاسب، بسبب الانتماء إلى دين معيّن. وهو ما يعني أنّ الحكومة الفيدرالية والحكومات الولائية، يحظر عليها تبنّي دين معيّن، أو مناصرة معتقد أو أكثر على حساب معتقدات أخرى، سواء على مستوى خطابها أو أفعالها، كاتخاذ قرارات مناصرة للطقوس المسيحيّة ضدّ الطقوس اليهودية.

ويعتبر الكاتب هذه المسألة بالغة الأهمية لأنّه من السيئ ترك الحكومة الفيدرالية أو الحكومات الولائية حرّة في الانحياز إلى دين أو أكثر أو إلى ممارسات أو عقائد دينية، ولأنّ منع الحكومة من تبني دين معين، يعتبر مهمًّا للدينيّين واللادينيّين، ويحمي الدين نفسه باعتباره يحقّق المساواة الدينية، ويمنع استغلال الدين سياسيًّا، وتدجينه وتحويله إلى آلية لمراقبة السلوك، أو لتعبئة الناس وتحقيق غايات سياسية.

ثالثًا - قواعد العلمانية الأمريكية وصراعات الممارسة

بالرغم من نص الدستور الأمريكي على حيادية الدولة تجاه الدين، فإنّ الممارسة لا تخلو من صراعات سياسية، لاسيما بين التيارات السياسيّة الرئيسية؛ المحافظين والليبراليين سواء تعلّق الأمر بالقضايا المتّصلة بحرّية الممارسة الدينية، أو تعلق الأمر بالقضايا المرتبطة بقاعدة عدم التأسيس.

1- حرّية الممارسة: ضرورة مواءمة الممارسة الدينيّة مع التطوّرات القانونيّة

انطلاقًا من سؤال بالغ التعقيد، متمثّل في: هل قاعدة الممارسة الحرة، "تمنع بالإضافة إلى التصرف المانع التمييزي، على الأقل بعض الأعمال الحكومية التي على الرغم من أنّها غير تمييزية، إلا أنّها تعرقل الممارسة الدينية؟"،[5] يعرض المؤلف طروحات ومبرّرات موقف المواءمة الذي يذهب إلى تفسير قاعدة الممارسة الحرة تفسيرًا واسعًا، حيث لا تمنع هذه القاعدة الحكومة من التمييز ضد الممارسات الدينية فقط، بل تفرض عليها توسيع مجال الممارسة الدينية إلى أبعد الحدود، وذلك من خلال استثناء الممارسة الدينية من التضييق والقيود القانونية. فعلى سبيل المثال، إذا سنّت سلطات الولاية قانونًا يمنع استهلاك المشروبات الكحولية، فإنّ عليها أن تستثني استهلاك الخمر في "سير القربان المقدّس المسيحي"،[6] إلاّ في حالة يكون فيها هذا الاستثناء مهدّدًا لمصلحة عامّة ذات أهمّية.

فحسب هذا الطرح فإنّ الحكومة ملزمة بمواءمة الممارسة الدينيّة من وقت إلى آخر، وذلك عن طريق استثنائها من التضييق القانوني المطبّق في شؤون أخرى.

ومن ثمّ، فإنّ الحكومة تعتبر مانعة لحرّية الممارسة ليس فقط عن طريق منع الممارسة الدينية، بل كذلك، حتّى في حالة عدم استثنائها من التضييق القانوني.

وبالرغم من وجود سجال بين طرحين دستوريين؛ الأول مدافع عن المواءمة والثاني معارض لها، فإنّ الكاتب يذهب إلى أنّ الممارسة الدستورية والقضائية منذ ستينيات القرن التاسع عشر تدعم موقف المواءمة وتنسجم معه.

وأكبر دليل ممارساتي في هذا الصدد هو أنّ أغلبية المحكمة العليا عندما أصدرت عام 1990 قرارًا رافضًا لموقف المواءمة، لقيت معارضة شديدة من طرف العديد من القوى المدنية في الولايات المتحدة التي ضغطت على الكونغرس من أجل إلغاء القرار.

ونجحت في ذلك، حيث صوّت مجلس النوّاب بالإجماع، ومجلس الشيوخ بأغلبية ساحقة عام 1993 على قانون "استعادة الحرّية الدينية" ((Religious freedom Restoration act المقيّد لسلطة الدولة في تنظيم الحرّية الدينية[7] الذي كان غرضه إعادة تأكيد نظرية المواءمة في ما يتعلق بتفسير قاعدة الممارسة الحرة، ومن أجل جعل هذه النظرية جزءًا من التقنين الأمريكي، حيث ينص القسم الثالث من قانون إعادة الحرّية الدينية على ما يلي: "لا يجوز للحكومة أن تثقل بشكل كبير على ممارسة الشخص الدين حتى إذا كان هذا العبء ناتجًا من قاعدة التضييق العام، إلا إذا قاد ... البرهان إلى أنّ إلقاء هذا العبء على الشخص يدخل في إطار تطوير مصلحة حكومية مقنعة، وأنّه أمثل الوسائل تضييقًا لتطوير هذه المصلحة الحكومية المقنعة".[8]

ويذهب الكاتب إلى أنّ نظرية المواءمة تتوافق مع ما تنصّ عليه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان كالمادّتيْن 18 و29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 18 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسيّة، والمادة الأولى من الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصّب والتمييز القائمة على أساس الدين أو المعتقد، والمواثيق الإقليمية لحقوق الإنسان، كالمادة 12 من الاتفاقيّة الأمريكيّة لحقوق الإنسان، والمادة التاسعة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

وتنصّ كلّ مادة من هذه المواد على منع الحكومة من التمييز ضد الممارسة الدينية أو الممارسات الوجدانية، وكذلك التنصيص على ضرورة اجتنابها التدخل في مثل هذه الممارسة إلاّ عند الحدّ "الضروري لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحّة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرّياتهم الأساسية".[9]

2- قاعدة عدم التأسيس والصراع السياسي:

شكّلت العديد من القضايا المتصلة بمبدأ عدم التأسيس، موضوعًا للسجال السياسي في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حيث اتخذت الحكومة الفيدرالية أو حكومات الولايات جملة من القرارات التي اعتبرت من طرف عدة أطراف سياسية ومدنية متنافية مع قاعدة عدم التأسيس التي ينصّ عليها الدستور الأمريكي، وبلغ الأمر إلى عرضها على المحكمة العليا، التي عبّرت في اجتهاداتها بشأن قضايا شائكة على الدولة الحيادية تجاه المؤمنين وغير المؤمنين، ومنع توظيف سلطة الدولة لعرقلة الديانات والتحيّز لصالحها.

ويعرض الكاتب أربع قضايا في هذا الإطار، وهي:

- فرض الصلاة في المدارس العمومية أو أيّ نوع معيّن من الصلاة، واعتبرته المحكمة العليا خرقًا لقاعدة عدم التأسيس.

- عرض الحكومة لرمز ديني، الذي اعتبرته المحكمة العليا قادراً على أن يشكّل خرقًا لقاعدة عدم التأسيس، إذا كان ذلك مبنيًّا على نظرة الحكومة بأنّ دينًا أو أكثر، أحسن من لا دين.

- ذهبت المحكمة العليا في اجتهاد آخر، إلى أنّ منع تدريس نظرية الخلق أو نظرية التطور الذي فرضته بعض الولايات على مدارس حكومية، يعتبر انتهاكًا لقاعدة عدم التأسيس.

- أيّدت المحكمة العليا في أحد قراراتها، إمكانية تقديم الحكومة لمساعدات مالية للمدارس ذات الانتماء الديني، بما فيها الابتدائية والثانوية، إذا كانت المعايير المعتمدة لتقديم المساعدات، معايير محايدة من الناحية الدينية، وألاّ تكون المساعدات ذريعة لمناصرة دين أو أكثر بوصفه كذلك.

وبذلك تكون المحكمة العليا حامية للعلمانية المتساهلة، ومناصرة لها، والتي لا تخدم الديمقراطية فقط، بل تخدم بدرجة أساسية تحقيق بعض الغايات الدينية.

رابعًا - الأطروحات الدينيّة والفضاء العام: معارضة "خوصصة الدين"

إضافة إلى الإشكاليات السابقة يتناول الكاتب كذلك إشكالية الأطروحات الدينية في الثقافة العامة، وفي هذا الإطار يميّز بين الجائز دستوريًّا والجائز أخلاقيًّا، ويذهب إلى القول بأنّه ليس هناك ما يمنع من طرح المواضيع الأخلاقية والاقتراحات المستندة على أسس دينية في النقاش العام، وتمرينها جيئةً وذهابًا، لاسيما في المجتمعات الليبرالية الديمقراطية مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حيث يستطيع الكثير من الناس ترك مسافة تقديرية بينهم وبين معتقداتهم الدينية.

تبعًا لذلك، يدافع المؤلّف بشدة عن أهمية تقديم الأطروحات الأخلاقية ذات الأساس الديني ومناقشتها في الفضاء العام، والترحيب بعرضها في جميع مجالات الثقافة العامة، وتشجيع تجريبها في المجتمع الأمريكي، خاصة أنّ المنطلقات الأخلاقية الأساسية المشتركة في الثقافية اليهودية والمسيحية، ما زالت تشكل أفقًا أساسيًّا لمعظم الأمريكيين.

إنّ الخطاب الأخلاقي المبنيّ على الدين لا يعتبر دائمًا طائفيًّا وعنصريًّا أكثر من الخطاب الأخلاقي العلماني، بل يمكن أن يكون-أحيانًا- أكثر اعتدالاً، وأبعد من ذلك، يمكن أن يكون الخطاب الديني الطائفي، مساهمًا مساهمة قيّمة في النقاش العام حول القضايا الأخلاقية الصعبة. وبناءً على هذا المبرّر تعتبر الأطروحات الداعية إلى "خوصصة الدين" وإبقائه بعيدًا عن الساحة العامة غير منطقية وغير واقعية. ومن الأطروحات المدافعة عن خوصصة الدين، أطروحة كنت غريناوالت التي ينتقدها المؤلّف بشدّة.

فإذا كان كنت غريناوالت يذهب إلى أنّ المشرّعين والمنفذين يجب ألاّ يعرضوا أطروحات دينية في النقاش السياسي العام، باعتبار ذلك قد يؤدي إلى التهميش والإقصاء الرمزي، فإنّ مايكل ج. بيري يعتبر عرض مثل هذه القضايا لا يتعارض مع المساواة الأخلاقية والسياسيّة؛ ذلك أنّ المشرع ملزم بإظهار جميع الأطروحات ذات المصداقية والملائمة التي يمكن أن تساهم في جعل المواطن يدعم الخيار السياسي محلّ النقاش، سواء كانت هذه الأطروحات دينية أو علمانية.

وينتقد المؤلف أطروحة أخرى، وهي أطروحة الفيلسوف جون راولز التي يذهب فيها إلى التمييز بين العقول العامة والعقول غير العامة، ومن بين هذه الأخيرة، نجد عقول مختلف الجمعيات، كالكنائس والجامعات والجماعات المهنية...، وإلى ضرورة حل المسائل السياسيّة عن طريق إثارة قيم العقل العام، فممثّلو الشعب والقضاة والمواطنين، ملزمون جميعهم في تبنّيهم لخيار سياسي، الاحتكام إلى العقل العام، حيث يستند تبنّي خيارات سياسية على مبررات علنية، متمثلة في قيم العدالة السياسيّة، وليس على مبررات خفية. فإذا كان باستطاعة المواطن تبرير خيار سياسي على أساس منطلقات، يعتقد أنّ المواطنين الآخرين قد يقبلونها، فإنّ عليه عرض القضايا حتّى وإن كانت دينية في النقاش السياسي العام، وأثناء النقاش والتصويت فإنّ المواطنين عليهم احترام حدود العقل العام.

يعتبر مايكل ج. بيري أنّ استحضار العقل العام لا يؤدي دائمًا إلى رأي واحد حول قضيّة متنازع حولها، لذلك من الضروري الانطلاق من مبرّر أو عدّة مبرّرات غير عامة سواء كانت دينية أو غير دينية، ذلك أنّ الاعتماد على العقل العام غير كاف، ولابدّ من الاعتماد ولو بشكل جزئيّ على العقول غير العامّة الدينية منها والعلمانية.

خامسًا - الأطروحات الدينيّة واتخاذ القرار السياسي

إذا كان طرح المواضيع الأخلاقية المستندة على أسس دينية في النقاش العام، من طرف المشرّع أو الموظّف الرسمي أو المواطن مفيد لتجربتها قصد الوصول إلى اتفاقات وحلول، فإنّ قاعدة عدم التأسيس المنصوص عليها دستوريًّا، تفرض كذلك عدم السماح للحكومة بتبنّي خيار سياسي في ما يتعلق بأخلاقية السلوك البشري إلا إذا توفر أساس منطقي علماني مقبول، فتبنّي الحكومة لخيار سياسي بشأن أخلاقية السلوك البشري كالإجهاض مثلاً يتوقّف على وجود أساس منطقي علماني مقبول يدعم هذا الخيار.

لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه، هو، هل يمكن "للمشرّعين والآخرين أن يعتمدوا على طرح ديني في اتخاذ خيار سياسي يتعلّق بأخلاقية السلوك البشري حتى لو لم يوجد، في نظرهم تبرير علماني مقنع أو حتّى معقول يساند الخيار؟".[10]

يجيب المؤلف على هذا السؤال من خلال عرض نوعين من الأطروحات الدينية حول السلوك البشري يعرفهما المجتمع الأمريكي، أوّلهما متمثّل في الأطروحات المتعلقة براحة الإنسان، ويذهب المؤلف إلى أنّه في إطار تبنّي خيار سياسي متعلق بأخلاقية السلوك البشري، يفرض على المشرّعين والموظّفين الرسميين عدم الاعتماد على الطرح الديني المتعلق بمتطلبات راحة الإنسان إلا إذا كان هناك طرح علماني مستقل توصّل إلى الخلاصة نفسها فيما يتعلق بهذه المتطلّبات. إنّ السيناريو المعروض ههنا سيناريو مشروط، متعلّق بوجود أطروحات دينية في النقاش السياسي العام تدافع عن متطلّبات راحة البشر. والمشرّعون والحكومة، لا يمكن لهم اعتمادها قاعدةً لاتخاذ القرار السياسي إلاّ في حالة وجود طرح علماني توصّل إلى الخلاصة نفسها.

وثانيهما متمثّل في الأطروحات الدينية المتعلّقة بقيمة الإنسان، ومضمونها اعتبار كل البشر مقدّسين، ويتسق ذلك مع القانون الدولي لحقوق الإنسان بمختلف مكوناته؛ والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسيّة، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكذا مع المواثيق الإقليمية لحقوق الإنسان، كالإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان وواجباته (1948)، والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان (1978).

فالإنسان مقدّس، يعتبر موضوع اتفاق بين الأخلاقيات الدينية والأخلاقيات العلمانية، ومكوّنًا أساسيًّا للثقافة الأخلاقية الأمريكية. ومن ثمّ، يمكن القول إنّ الحكومة والمشرّعين الآخرين - في إطار قاعدة عدم التأسيس- يستطيعون الاعتماد على الطرح الديني الذي مضمونه أنّ كلّ إنسان مقدّس، سواء وجد طرح علماني معقول مدعّم أو لم يوجد، مادام تقديس الإنسان مسألة مشتركة بين المؤمنين وغير المؤمنين، ومادام اتخاذ القرار السياسي على ضوء ذلك لا يؤدي إلى تفضيل دين على حساب دين آخر، أو دين على لادين.

بالرغم من تخصّص الكاتب وجدية الكتاب وغناه على مستوى المضمون، إلاّ أنّه تُسجّل عليه جملة من الملاحظات، يمكن التشديد من بينها على ما يلي:

- تجاهل عرض الأطروحات السياسيّة للمحافظين والليبراليين وموقفهم من الأطروحات الدينية المثارة، وكذا موقف التيارات المتطرّفة.

- عدم عرض مواقف اليمين المسيحي المعارضة بقوة لقاعدتيْ؛ حرّية الممارسة، وعدم التأسيس.

- عدم التطرّق إلى تطور موقف السلطات الفيدرالية في السنوات الأخيرة من الدين، ذلك، أنّ بعض الدراسات تسجّل تزايد حماسة السلطتين التنفيذية والتشريعية لتعزيز أشكال التعبير الديني في الحياة العامة، بالرغم من وجود قاعدة عدم التأسيس في الدستور الأمريكي.[11]

- إغفال تناول بعض مشاكل العلمانية الأمريكية في السنوات الأخيرة، من قبيل المشكلة السياسيّة الأوضح المتمثّلة في تحوّل الفضاء العام إلى ساحة معارك بين المتشدّدين؛ من علمانيّين حازمين ومتديّنين راديكاليين لا يقبلون الوضع الراهن للعلمانية المتساهلة.[12]

- عدم التطرّق إلى الجهود الكبرى المتعلّقة بمسألة التفاهم بين الأديان وإقامة جسور التواصل بينها المبذولة من طرف المجتمع المدني والجامعات، حيث يعرف مجتمع الولايات المتّحدة الأمريكيّة ممارسات متميّزة وجديرة بالدراسة، لاسيما منذ التسعينيات من القرن الماضي، على رأسها احتضان شيكاغو عام 1993 لـ"برلمان ديانات العالم"، حيث تجمّع سبعة آلاف شخص من كل عقيدة دينيّة، من جميع أنحاء العالم، ومن جميع أنحاء أمريكا.[13]


[1] كوزمين باري أ.، "العلمانية المتساهلة، معاينة للنموذج التاريخي الأمريكي"، مجلة الاستغراب، السنة الثانية، عدد 2، شتاء 2016، ص 99

[2] هيبارد سكوت، السياسة الدينية والدول العلمانية - مصر والهند والولايات المتّحدة الأمريكيّة، ترجمة الأمير سامح كريم، سلسلة عالم المعرفة، عدد 413، يونيو 2014، ص 248

[3] إيك ديانا ل.، أمريكا المتدينة الجديدة، ترجمة نجاة يونس، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2008، ص 86

[4] يمكن مراجعة دستور الولايات المتّحدة الأمريكيّة في: لووى ثيودور وجينسبرج بنيامين، الحكومة الأمريكية، الحرّية والسلطة، ترجمة عبد السميع زين الدين ورباب عبد السميع زين الدين، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، ص ص 810- 838

[5] بيري مايكل ج.، الدين في السياسة - جوانب دستورية وأخلاقية، ترجمة عربي ميقاري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2014، ص 52

[6] المرجع نفسه، ص 53

[7] لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة: كورو أحمد ت.، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين- الولايات المتحدة، فرنسا، تركياـ، ترجمة ندى السيد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2012، ص ص 88- 89

[8] بيري مايكل ج.، المرجع نفسه، ص 57

[9] الإعلان بشأن إلغاء كل أشكال التعصب والتمييز القائمة على أساس الدين أو المعتقد.

[10] بيري مايكل ج.، المرجع نفسه، ص 124

[11] كورو أحمد ت.، المرجع نفسه، ص 81

[12] كوزمين باري أ.، المرجع نفسه، ص 103

[13] في هذا الإطار يمكن مراجعة، إيك ديانا ل.، مرجع سابق، ص ص 514- 528