السياسة السيكولوجيَّة: الليبراليَّة الجديدة والتكنولوجيّات الجديدة للسلطة


فئة :  قراءات في كتب

السياسة السيكولوجيَّة: الليبراليَّة الجديدة والتكنولوجيّات الجديدة للسلطة

السياسة السيكولوجيَّة: الليبراليَّة الجديدة والتكنولوجيّات الجديدة للسلطة

قراءة في كتاب

الكاتب: ستيوارت جيفريز([1])


معلومات الكتاب

السياسة السيكولوجيَّة: الليبراليَّة الجديدة والتكنولوجيّات الجديدة للسلطة

المؤلف: شول هان بويونغ[2]

دار النشر: فيرسو

سنة النشر: ديسمبر 2017

أثناء فاصل إعلاني تجاري في المباراة النهائيَّة لدوري كرة القدم الأمريكيَّة (Super Bowl) للعام 1984، بثت شركة أبل إعلاناً من إخراج رادلي سكوت يصوّر عُمّالاً بمظهر كئيب وثياب رماديَّة يجلسون في قاعة كبيرة رماديَّة اللون وهم يستمعون لخطب الأخ الأكبر (Big Brother) على شاشة عملاقة، ليلقي رياضي منعزل -وهو خادم ستيف جوبز- بمطرقة ثقيلة على الشاشة ليهشمها، ويستحمّ بذلك العمال في نورشاف. في 24 يناير جاء في تعليق صوتي: "سيطلق كمبيوتر أبل ماكنتوش، وسوف ترون كيف أنَّ عام 1984 لن يكون مثل [أوريل] 1984".

فكرة الإعلان، كما كتب الفيلسوف الألماني الكوري الأصل شول هان بيونغ، جاءت لتظهر أبل ماكنتوش كمحرّرة للحشود المضطهدة من دولة المراقبة الشموليَّة. بالفعل، فإنَّ ما تلا ظهور أبل، الإنترنت، تويتر، فيسبوك، أمازون، ونظّارات غوغل، يعني أنّنا نعيش اليوم في ما يشبه الكابوس الذي تصوّره أوريل. مع ذلك، كان الأخ الأكبر بحاجة إلى الصعقات الكهربائيَّة والحرمان من النوم والحبس الانفرادي والمخدّرات ونشر البروباغندا المتغطرسة للحفاظ على السلطة، بينما حرصت وزارة الموارد على أن تكون السلع الاستهلاكيَّة غير متوفرة للتأكّد من أنَّ الأشخاص في حالة احتياج مصطنع.

يجادل هان، بأنَّ مجتمع المراقبة الجديد الذي برز منذ العام 1984 يشتغل بشكل مختلف، بَيْدَ أنَّه أكثر كياسةً شموليَّة وظلماً من أيّ شيء وصفه أوريل[3] وجيرمي بنتام. حيث يكتب: إنَّ "الاعتراف المتحصّل عليه بالقوَّة استُبدل بالكشف الطوعي"، "واستبدلت الهواتف الذكيَّة بغرف التعذيب" ليس تماماً، إذ ما زالت غرف التعذيب موجودة، لكنّنا فقط في الغرب النيوليبرالي قمنا بتعهيدها (التقدير، رحلات الترحيل السرّي)، حتى يدّعي ذلك الفحش الذي يُدعى مجتمعاً مهذباً أنَّه لا وجود له.

ورغم ذلك، فإنَّ ما أدركته الرأسماليَّة في الحقبة النيوليبراليَّة، كما يقول هان، هو أنَّها لم تكن بحاجة لأن تكون قاسية وإنَّما مغرية. وهذا ما يسمّيه السياسة الذكيَّة. بدل أن تقول: لا، تقول: نعم. وبدلاً من حرماننا من خلال الوصايا والانضباط والعوز، يبدو أنَّها تسمح لنا بأن نشتري ما نريد وقتما نريد، وأن نصبح ما نريد ونحقق حلمنا بالحريَّة. بدلاً من المنع والحرمان فهي تشتغل من خلال الإرضاء والإشباع. وبدل جعل الناس مذعنين، فهي تهدف إلى جعلهم عالة.

يعتبر هان أنَّ هاتفك الذكي ذو أهميَّة كبيرة في هذا الصدد، فهو أداة متعدّدة الوظائف لاستغلالنا الذاتي. نحن جميعاً "الأخ الأكبر" الآن. في جزء منه هو كاثوليكيَّة مع تكنولوجيا أفضل، مسبحة عصريَّة، وهي كرسي اعتراف محمول وجهاز مراقبة فعّال في وقت واحد. "تخدم كلّ من المسبحة والهاتف الذكي هدف المراقبة الذاتيَّة والتحكّم"، كما يشرح ذلك هان "تعمل السلطة بشكل أكثر فعاليَّة عندما تفوّض المراقبة للأفراد المنفصلين. ونحن ننتظم في طوابير طوال الليل للحصول على النموذج الأخير؛ فنحن نرغب في الهيمنة الخاصَّة بنا. ولا عجب أنَّ شعار كتاب "هان" هو شعار الفنّانة الأمريكيَّة "جيني هولزرز": (احمني ممَّا أريد).

يعتبر هان أنَّ الشكل القديم من الرأسماليَّة الظالمة التي تمَّ تجسيدها في "الأخ أكبر" قد وجدت التعبير الأكثر عمقاً الذي يعبّر عنها في مفهوم بنثام للبانوبتيكون panopticon))[4]، بحيث إنَّ جميع سجناء المؤسَّسة مراقبون من قبل مراقب واحد دون أن يكونوا قادرين على تحديد ما إذا كانوا مراقبين أم لا. وقد حفز اختراع بانثام بدوره أفكار المنظّر الفرنسي ميشال فوكو عن سلطة الضبط والعقاب التي نشأت مع الرأسماليَّة الصناعيَّة، ممَّا دفعه إلى صكّ مفهوم السياسة الحيويَّة. ولأنَّ الجسد كان القوَّة المركزيَّة في الإنتاج الصناعي، يقول هان، فقد كانت سياسات الانضباط والمعاقبة وكمال الجسد مركزيَّة لأسباب مفهومة لفكرة ميشال فوكو حول كيفيَّة اشتغال السلطة.

إلّا أنَّ مثل هذه السياسات الحيويَّة قد عفا عليها الزمن في الحقبة النيوليبراليَّة الغربيَّة المنحسرة التصنيع. عوض ذلك، ومن خلال نشر البيانات الضخمة "big data" فإنَّ النيوليبراليَّة قد اخترقت الحقل النفسي واستغلته لتخلص إلى نتيجة وضعها "هان" بأنَّ "الأفراد قد انحطّوا إلى أعضاء تناسليَّة لرأس المال". ضع في اعتبارك ذلك في المرَّة القادمة التي تطالع فيها عمليَّة شرائك من "آرغوس"، أو بث الإباحيَّة أو إعادة نشر تغريدات بول ماسون. وبدلاً من مراقبة السلوك البشري يقوم نظام مراقبة البيانات الضخمة الرقميَّة بإخضاعه للتوجيه السياسي السيكولوجي.

ولكن ربَّما قد تتساءل: ما هي "البيانات الضخمة" big data؟ "البيانات الضخمة عبارة عن مؤسَّسة تجاريَّة ضخمة"، كما يشرح ذلك هان. "البيانات الشخصيَّة هنا لا تتوقف عن الاستثمار والتسويق التجاري. الآن يتمّ التعامل مع الناس والمتاجرة بهم كحِزم من المعلومات للاستخدام الاقتصادي. وهو ما يعني أنَّ البشر أصبحوا سلعة". وقد تخطّينا جدليَّة العبد والسيّد في المفهوم الهيغلي بعد أن أصبحنا العبد والسيّد في آن واحد.

وبما أنَّها ليست أوريليَّة[5]، فقد باتت لدينا نحن ـ العصريين الشبكيين ـ لغتنا الخياليَّة. ومن ذلك أنَّ الحريَّة على سبيل المثال تعني الإكراه. وقد كان أوَّل شعار إعلاني لشركة مايكروسوفت يقول: "أين تريد أن تذهب اليوم"؟ ممَّا يستحضر عالماً بإمكانيَّات لا محدودة. هذه اللّامحدوديَّة كانت كذبة. يقول هان: "تتحوَّل اليوم كلٌّ من الحريَّة اللّامحدودة والتواصل إلى تحكّم ومراقبة شاملين...لقد حرَّرنا أنفسنا فقط من السجن (البانوبتيكون) الانضباطي، ثمَّ رمينا بأنفسنا في سجن (بانوبتيكون) جديد وأكثر فعاليَّة". ويمكن أن يضاف إلى ذلك، أنَّنا لسنا بحاجة إلى مراقب، حيث إنَّ العباقرة الشياطين للنيوليبراليَّة -مارك زوكيربيرغ وجيف بيزس- ليسوا مضطرّين للعب دور الأخ الأكبر. فهم شيطانيّون بالتحديد لأنَّهم جعلونا نلعب هذا الدور بأنفسنا.

على الأقل أنَّه في عام 1984 لم يشعر أحد بالحريَّة. بينما يشعر الكلّ بأنَّه حر في عام 2017، حسب هان، وهذه هي المشكلة "بإرادتنا الحرَّة نضع كلَّ المعلومات التي يمكن تصوُّرها عن أنفسنا على الإنترنت دون أيّ أدنى فكرة عمَّن يعرف ماذا ومتى أو في أيّ مناسبة. هذا الافتقار للتحكّم هو ما يمثل أزمة الحريَّة التي يجب أن تؤخذ على محمل الجد.

لقد تحوَّلت السياسة بدورها في عصر السياسة السيكولوجيَّة. فنحن غير قادرين على تصوُّر السياسة كنشاط اجتماعي بعد أن تعوَّدنا على كوننا مستهلكين أكثر من كوننا مواطنين. فالسياسيون يعاملوننا كمستهلكين يوصلون لهم السلع، ونتذمّر بدورنا من السياسة مثلما يفعل المستهلكون مع المنتجات أو الخدمات المخيّبة لآمالهم. وتبقى الصدمة وندم المشترين السلوك الملائم الوحيد تجاه السياسة المتصوّرة كامتداد للتسوُّق.

سيكون عالم السياسة السيكولوجيَّة الذي يسلخه هان مألوفاً بالنسبة إلى المعجبين بأبرز الساخرين، شارلز بروكر ودايف إيجرز. تمَّ استبدال شعار برودهون في سلسلة بلاك ميرور السابقة ورواية ذا سيركل الأخيرة "الملكيَّة سرقة" بشعار آخر هو "الخصوصيَّة سرقة".

إنَّ أي شخص يرفض الاعتراف في العلن هو مبغوض. أنت تغرّد إذن أنت موجود، تضع إعجابك فيوضع لك إعجاب، تعترف بكلّ تفصيل مملٍّ عن نفسك وسوف تنجو. يقول هان: "النيوليبراليَّة هي رأسماليَّة الإعجاب (اللايك)".

هناك ثغرة صغيرة في هذه البكائيَّة القويَّة والتي أحبّها بشكل خاص "هل حقاً نريد أن نكون أحراراً؟ يسأل هان. ربَّما، إنَّه يتأمّل الحريَّة الحقيقيَّة كعبء لا يحتمل، ولذلك اخترعنا الإله لنكون مذنبين وندين لشيء ما. لهذا السبب قتلنا الإله، واخترعنا الرأسماليَّة. ومثل الإله، إنَّما بشكل أكثر كفاءة، تشعرنا الرأسماليَّة بالذنب بسبب إخفاقنا، وربَّما تكونون قد لاحظتم أنَّها تشجعنا لنكون غارقين في دَيْنٍ جامد. ويُضعف هان مع ذلك قضيته بالمبالغة فيها، ففي فصل عن عقيدة الصدمة لـ نعومي كلين[6]، تطرَّق لفكرة ميلتون فريدمان[7] التي تقول: إنَّ الكارثة الاقتصاديَّة المخلوقة ذاتيّاً تقدّم للرأسماليَّة فرصة لتسبّب لنا صدمة تدفعنا للخضوع. وهذا بالنسبة إليَّ يشبه كثيراً ما حدث منذ العام 2008، والذي أصبحنا بعده نعمل أكثر من أجل مال أقل، على الرغم من اعتراض هان بالقول: إنَّ "السياسات النيوليبراليَّة سياسات ذكيَّة؛ فهي تسعى للإرضاء والإشباع، لا للقمع". ولكنَّ الحقيقة بلا شكّ أنَّ غرف التعذيب واقتصاد الخدمات المستقلة (gig economy)[8] والهشاشة الاقتصاديَّة (precariat)[9] بقدر ما تشكّل السياسة الذكيَّة واقعنا السياسي: الإرضاء والتحقيق في السياسة السيكولوجيَّة لهان، فإنَّ المفارقة أنَّها توجد إلى جانب عقيدة الصدمة القمعيَّة لنعومي كلين لإبقائنا منصاعين. ويبدو أنَّ هذا الاقتران يتخطّى فلسفة هان.

على أيَّة حال، كيف بإمكاننا مقاومة السياسة السيكولوجيَّة؟ وفي هذا الصدد يمثل هان شخصيَّة مثيرة للاهتمام. إذ نادراً ما يقوم بخرجات علنيَّة أو يجري مقابلات (وعندما يفعل ذلك فإنَّه يطلب من الصحفي إغلاق آلة التسجيل)، ويبدو أنَّ معجبين إسبان هم الذين أنشؤوا صفحته على الفيسبوك، كما أنَّه أنشأ مؤخّراً بريداً إلكترونيّاً قلما يستخدمه. هو ليس غير موجود على محرّك البحث غوغل ولا هو خارج شبكة التواصل الاجتماعي، وإنَّما هو برفسور في جامعة برلين للفنون وقد كتب (16) إصداراً أنيقاً وجميلاً من النقد الثقافي الراقي (أوصي بشكل خاص بكتبه: المجتمع المنهك، عطر الزمان، إنقاذ الجمال، إخراج الآخر، وهي متوفرة كلها بالإنجليزيَّة)، وغالباً ما ينوّه بها إلى جانب ماركوس غابرييل وريتشارد دافيد بريتش كفلسفة ألمانيَّة عبقريَّة نامية حديثاً سهلة القراءة وغير مسبوقة.

من أجل ذلك كله، وهذا مديح منّي، فإنَّ شول هان أحمق. حيث يكتب: "لقد ضاعفت الشبكات الرقميَّة والتواصليَّة الشاملة بشكل واسع من الإكراه للامتثال. فالعنف المصاحب للإجماع يكبح العته".

وبالفعل فقد عنون الفصل الأخير من الكتاب باسم "العته"، حيث يتتبع التاريخ الغني للفلسفة من الحماقة المقاومة للثقافة. وقد عَلِم سقراط شيئا واحداً فقط هو أنَّه لم يكن يعرف شيئاً، من جهته شكّك ديكارت في كلّ شيء "أنا أفكر، إذن أنا موجود". ويسعى هان لاستعادة هذا التقليد الأبله. في زمن التعبير الذاتي الإلزامي، يزرع الهرطقتين التوأمتين اللتين تتمثلان في الأسرار والصمت.

وعلى نحو مماثل، ربَّما من أجل رفاهيتنا الخاصَّة، في عصرنا المتّسم بكثرة الكلام وانحسار التفكير يجب أن نتعلم فضيلة الصمت.


[1]ـ نشر في صحيفة الغارديان بتاريخ 30 ديسمبر 2017:

www.theguardian.com/books/2017/dec/30/psychopolitics-neolberalism-new-technologies-byung-chul-han-review

[2]ـ شول هان بيونغ: فيلسوف ألماني من أصل كوري، مواضيعه تتركّز حول النيوليبراليّة والتكنولوجيا الرقميّة وأدوات السيطرة والتحكم الجديدة، له مؤلفات عديدة، أهمها: المجتمع المنهك -عطر الزمان- إنقاذ الجمال.

[3]ـ إشارة إلى أعمال جورج أوريل حول الدولة ذات السلطة التي تمارس سلطتها وسيطرتها الكليَّة على المجتمع. وأعمال جيرمي بنثام حول المجتمع المراقب.

[4]ـ مفهوم ابتدعه جيرمي بنثام، وهو عبارة عن تصميم لسجن يستطيع من خلال غرفة واحدة مراقبة جميع السجناء دون أن يعلموا أنَّهم مراقبون. ويعتبر كنموذج رمزي لمؤسَّسات الضبط في القرن التاسع عشر، ووظيفتها خلق أشخاص خنوعين. ويشير في المعنى الحديث كما استخدمه فوكو إلى المراقبة الذاتيَّة للمجتمع دون الحاجة أيضاً لمؤسَّسات، من خلال سلسلة من الاختراقات للمجتمع بحيث يُراقب ولا يدري أنَّه مُراقب.

[5]ـ نسبة إلى جورج أوريل، وتعني حالة وسياسة وحشيَّة من السيطرة لتدمير رفاهية العيش في المجتمعات الحرَّة.

[6]ـ كاتبة سياسيَّة كنديَّة مهتمّة بالمواضيع عن النيوليبراليَّة وانتقادها والشركات المتعدّدة الجنسيات، وعقيدة الصدمة: صعود رأسماليَّة الكوارث هو كتاب ألفته وترجم للعربيَّة يفسّر كيف اجتاحت رأسماليَّة الكوارث العالم، ويعتبر بحسب النقاد من أفضل الكتب السياسيَّة والاقتصاديَّة.

[7]ـ ميلتون فريدمان يعتبر عرّاب رأسماليَّة الكوارث الذي تحدّثت عنه نعومي كلاين، وأفكاره حول كيفيَّة استفادة الرأسماليَّة من أيّ كارثة، سواء من فعل الطبيعة أو فعل فاعل.

[8]ـ مصطلح يستخدم إشارة للاقتصاد القائم على العقود قصيرة الأجل، والتعاقدات مع موظفين مستقلين لأوقات قصيرة.

[9]ـ مصطلح أطلقه البرفسور في جامعة باث البريطانيَّة لوصف طبقة اجتماعيَّة تعيش في وضع اقتصادي اجتماعي هش دون ضمانات.