السيرة النبوية وول ديورانت؛ معالم من مركزية الاستشراق في الفكر الغربي


فئة :  مقالات

السيرة النبوية وول ديورانت؛ معالم من مركزية الاستشراق في الفكر الغربي

السيرة النبوية وول ديورانت؛

معالم من مركزية الاستشراق في الفكر الغربي

 

بنداود رضواني

شئنا أم أبينا يبقى خطاب "التمركز" ذي الطابع المادي، من أوضح الخطابات الذهنية التي ترصد جدلية العلاقة بين طرفين متناقضين؛ علاقة لازم بملزوم كما يقول المناطقة، إذ المركز يستدعي بالضرورة وجود الهامش؛ والأنا لا بد أن يكون في مقابل الآخر، والتحضر مقابل التوحش. ...ثنائية ترتب على إثرها دون ريب، معيار تعالي الذات / انتقاص الآخر، مولدا بذلك صورة مُجحفة عن الأغيار في حين يتم تركيب صورة الأنا بطريقة أخَّاذة ومتعالية....، يقول حسن حنفي: "ينسج المركز لنفسه صورا نقيضة مثل العقلانية والإنسانية والتقدم والعلم في مقابل الحضارات الأخرى التي لم تعرف إلا السحر والخرافة والإلهام والنبوات والإلهيات والخلود"[1].

مركزية الاستشراق في الخطاب الغربي

يرسم خطاب التمركز في أفضل حالاته حين ينظر إلى الأغيار صورا مشوشة وملتبسة، بغية تعزيز التنميطات السلبية، وإخضاعه لمعايير الأنا بما يتوافق مع عقيدته الدينية ورؤاه السياسية والشخصية وخلفيته الاستعراقية[2]...!. فتلك أفضل حالات أطروحة "المركزية المادية" وقد تذهب هذه الأطروحة منحى مُغاليا - وهذا هو السائد في الأيديولوجية الغربية - بالإصرار على نفي الآخر وطمس معالمه الأصيلة مرة واحدة، وليس إبعاداً فقط في جهة النقيض كما يقول حنفي.

والمعلوم أن شأن الحقل الاستشراقي كشأن الحقول البحثية الأخرى، تطور في أحضان المدنية الغربية خصوصا الفلسفة التفوقية لهيجل وخضع قسرا لمركزية الإنسان الأبيض، لكن الغير المتداول عند فريق معتبر من المشتغلين بنقد الاستشراق؛ تأثيره وهيمنته على مفاصل المعرفة الغربية برمتها، فهو النواة المركزية للفكرة الغربية، والحيز الأكبر داخل بنيتها الثقافية، فهو تمركز داخل تمركز، وتحيز ضمن تحيز، فلا تحامل حين يُنعت الاستشراق بأنه يتحمل وزر تلك التمثلات الفكرية والاجتماعية...السلبية والمعادية للشرق!.

لقد أرَّقَت الفكرة الإسلامية منذ وجدت مضجع الاستشراق، فجعلته مهموم الفكر، مشوش الرؤية. بفعل قوة الصدمة التي أصابت الانتظارات الشعبية والنخبوية المرتبطة باكتمال النبوة في بيت داود عليه السلام حصرا!!!. لذا لم يستنكف رد فعل المقالات الاستشراقية عن ترويج خطاب الاستحالة؛ أي استحالة بروز مركز حضاري خارج السياقين؛ الإيماني للكتاب المقدس، والعرقي/ الإثني الذي يتجسد في السلالة الغربية!!!. فالسبيل الأوحد حسب هذا الخطاب هو الاقتناع أن المكان المناسب للمشروع الإسلامي هو الهوامش والأطراف وليس المركز، ولا ضير إن رغبت المجتمعات الإسلامية في التقدم، فأمامها طريق أوحد هو إلغاء المفاهيم ذات الأبعاد الإنسانية كالخصوصية والهوية والحرية....والتي توحي بالاختلاف والتنوع....، والقبول بآصرة شبيهة بتلك التي تربط الأقنان بالأسياد والمملوكين بالمالكين... والبادي من خلال الحفر التاريخي في جذور مركزية الاستشراق في الفكر الغربي، أنها تقتات من عمق التربة التوراتية[3] فـ "عملية النبذ في العهد القديم إلى فكرة أن الاختلاف يحمل الدَّنس، ومنذئذ يُهَمَّش- اجتماعيا - كل من أبدى اختلافا مثل المرأة، أو يُنبذ خارج المُتَّحد مثل الجُذاميين...، والأجانب مع اسداراس، أو يبادوا مثلما حصل للشعوب الكنعانية."[4].

ففوبيا الغير هاته أو الغيرية المَرَضية التي تجثم على صدر الاستشراق تحصلت بفعلين اثنين: الأول؛ الذِّهنية الفِرِّيسيَّة المتشبعة بالتمركز حول الذات؛ فكلمة "فِرِّيسي لا تعني في اللغة الآرامية إلا الإنسان الانعزالي، والثاني؛ الفقه التلمودي الخاضع لسكولوجية العداء للآخر، والذي كتب زمن الذل والانكسار اليهودي، وبالضبط في فترة السبي البابلي. لقد عهدنا العقل الغربي دائم المساءلة للقضايا الفكرية والاجتماعية والنفسية......، لكن من جملة المُستثنيات من النقد؛ الرواية الاستشراقية المتحيزة، إذ يتم إبعادها عن مبضع التدقيق والكشف والتصحيح بوعي مقصود، وهذا إخلال بمعايير العقلانية السليمة. لذا، فليس هناك إذن من مُحفز لطرح الأسئلة الأخلاقية والإنسانية على السرديات الاستشراقية؛ لأنه وحتى اليوم وفي السياق الحواري بين الشرق والغرب، يعز العثور على أصوات استشراقية غير متحيزة تستنكر فظاعة الغرب الاستعماري في صلته بالشرق، وحتى إن وجدت؛ فتظل أصواتا خافتة بين ضوضاء وضجيج الأصوات المنافحة عن مركزية الاستشراق في الفكر الغربي.

السيرة في "قصة الحضارة"؛ بين تقويض المبنى والتباس المعنى

هل بمقدورنا تصنيف سردية "قصة الحضارة"[5] ضمن خانة الكتابات الغربية الجِدِّية للسيرة النبوية...؟ وهل استطاع ول ديورانت التخلص من تركة الاستشراق القديم وتحيز الاستشراق المعاصر في علاقتهما بالمُقدَّس الإسلامي...؟

أمران لابد من التذكير بهما في علاقة موسوعة "قصة الحضارة" بمؤلفها: أولهما؛ الجهد الكبير والنفس الطويل الذين أمْضاهُما ول ديورانت في كتابتها لمدة تزيد عن أربعين حولا كما يقول. والأمر الثاني؛ فَمُضَمَّن في النزر اليسير من الإنصاف، لكن في حدود الأبعاد المادية للحضارة الإسلامية. وأما أخلاق صاحب الرسالة عليه الصلاة الله والسلام، فقد تلطفها أحيانا حتى لتبدو - في الظاهر - أشد تقديرا من تعابير بعض المسلمين أنفسهم، إذ يقول: "ولم يتعاطَ الخمر التي حرمها هو على غيره، وكان لطيفاً مع العظماء، بشوشاً في أوجه الضعفاء، عظيماً مهيباً أمام المتعاظمين المتكبرين، متسامحاً مع أعوانه....". لكن لم لا نشعر بالارتياح بعد الفراغ من دراسة مجموع الفقرات الخاصة بالسيرة النبوية؟، ولِمَ تتَقوى المحاذير مما خطَّه ديورانت حولها...؟

المعهود في مفهوم "المعيار" في المتن الفلسفي؛ هو التمييز وعدم الوقوع في الخطأ. والأكيد من وجهة نظرنا أن أزمة ول ديورانت مع السيرة وبعيداً عن التحليل الساذج، هي أزمة معيارية في المرتبة الأولى تهم المباني والمعاني الحاضنة لمفهوم النبوة، باعتبارها التجلي العملي للمُقدس الإسلامي. فالحمولة اليسوعية والقلق الفكري الغربي؛ سيطرا على ثقافة الرجل، فما بثه من أغاليط وأوهام بين ثنايا "قصة الحضارة"؛ ما بين تصريح وتعريض - شبيهة بتلك التي نُسجت حول موسى التوراتي وعيسى الإنجيلي -، مما جعل من كلمات الإنصاف التي نثرها في حق محمد صلى الله عليه وسلم موضع دهشة واستفهام، ساهم في ذلك ارتكازه على منهج الهدم بعد البناء والتشكيك بعد التطمين؛ بأسلوب استدراكي ولغة بلاغية هادئة...

وبخصوص سياق المعيار الخبري - أي سياق المبنى - فقد أجاد الكاتب صهر الروايات الصحيحة بالأخبار المنحولة في بوتقة "قصة الحضارة"، واجتهد في تغشية النبوة الصادقة لمحمد صلى الله عليه وسلم بنبوة مُتَخيَّلة في اصطفاف بائن إلى جانب النبوة كما هي في التقليدين اليهودي/ المسيحي، فتعقب لهذا الشأن الوقائع ولاحق الآثار دون بوصلة علمية؛ ودون اهتمام بالمعنى المٌقدس الذي جسدته السيرة المحمدية. موليا وجهه تجاه تكريس سياق افتراضي بمفاهيم ظنية تخمينية كـ "ربما، لعل". فحيناً يَدّعي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ربما رحل للشام عدة مرات، مع عمه ثم منفردا في تجارة بعد ذلك، حيث تعلم في هذه الرحلات من النصارى واليهود، وربما تردد على المدينة قبل البعثة عدة مرات، وربما التقى اليهود وتعلم منهم. ويذكر في السياق ذاته زعما آخر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما كان يصاحب أحد أحبار النصارى النسطوريين في مكة "ورقة بن نوفل".

كما أسلفنا، كان المتوقع أن يتمكن ديورانت بما توفر لديه من مصادر كثيرة من كتابة السيرة لاتدع مجالا لنقده والرد عليه...لكنه وقع أسير الإجراءات الانتقائية للاستشراق، ومسلوبا بتاريخ ثقافي موسوم بالتوهم حيال الآخر، دون أن نغفل تأثره المُلفت بالنظرية الغربية لنقد مصادر الكتاب المقدس، مما يقوي أطروحة أن السردية الاستشراقية المتحيزة رغم دعوى العلمية، فإسقاطاتها وتعميماتها غير موضوعية، ومضامينها زئبقية ومزدوجة المعايير والتقيّيمات.

كان لعمليتي الإسقاط والتعميم هاتين فعل في بروز سمة الاضطراب كسمة لاَزِمَة للاستشراق، تكشَّفت بوضوح مع معيار (المبنى - الخبر) عند ديورانت، خصوصا في استدعاء "قصة الحضارة" لتاريخ مستهجن للسيرة المحمدية، تابع لتاريخ أنبياء بني إسرائيل ابتغاء صرف ميزتي "الاكتمال الرسالي" و"الختم النبوي" عن النبوة المحمدية، وإلزاقهما باليهودية والمسيحية لكونهما - في نظر الكاتب - مركز النبوات وروح الرسالات السماوية...!!!، أما محمد صلى الله عليه وسلم، فله وضعه الإصلاحي في "قصة الحضارة" لا أكثر، ولا يعدو أن يكون مجرد تلميذ يجتر مقالات أستاذيه موسى وعيسى..!!! لأن المعهود في نظر الاستشراق المتحامل أن السابق مُعلم للاحق، فحياته بهذا المعنى ماهي إلا صدى فقط لحيوات أنبياء الكتاب المقدس. لكن لِمَ انْتَقدت المتونُ الحديثيةُ اليهوديةَ والمسيحيةَ ثم تأخذ عنها؟!، وقبل ذلك؛ لم عبّر النص القرآني عن عدم رضاه عما آل إليه محتوى الكتاب المقدس وأحوال تابعيه، بل رسم في مواضع كثيرة ألا علاقة لليهود والمسيحيين الأوائل والمعاصرين لنزوله بموسى وعيسى عليهما السلام؟. بلا شك فتسويق تبعية النصوص الإسلامية لراوية الكتاب المقدس؛ محض اختلاق ومجرد مغامرة بحثية وزلل منهجي سقطت فيه أغلب الكتابات الاستشراقية المتعصبة لمقولات شاخت وكولد تسهير.

وبخصوص علاقة الوحي بسيكولوجية الصرع وما يلازمها من نوبات واضطرابات عصبية[6]، يثار سؤال المعيار مرة أخرى، لكن معيار (المعنى - الحقيقة) هذه المرة؛ فقد خُيل للنبي - حسب ديورانت - في ذات ليلة أنه انتقل من نومه إلى بيت المقدس، وقد يكون ارتجافه - ناشئاً من نوبات صرع؛ فقد كان يصحبه في بعض الأحيان صوت وصفه بأنه يشبه صلصلة الجرس، وتلك حالٌ كثيراً ما تحدث مع هذه النوبات. لكنه يستدرك فيقول: "وليس في تاريخ محمد ما يدل على انحطاط قوة العقل التي يؤدي إليها الصرع عادة...". لكن لم يَبُثّ الرجل التشكيك ثم يستدرك بالتطمين. الظاهر أنه توظيف مخادع؛ مادام إقحام حالة "الصرع"[7] حافظت على صورتها المستفزة، ومادامت دلالة الوحي عنده مرتهنة لأدبيات الانتقاص الكنيسي والقدح الاستشراقي في محمد صلى الله عليه وسلم. فالوحي بالنسبة لنبي الإسلام في الديباجة الاستشراقية متوزع بين حالة نفسية؛ انفعال عاطفي؛ تنويم ذاتي؛ تجربة ذهنية؛ حالة مرضية؛ إشراقة صوفية؛ وتجليات عبقرية. مما يفيد أن النص الإسلامي ليس نصا سماويا مقدسا، وإنما تمخض جراء تجربة ذاتية تشبَّعت بلاهوت الكتاب المقدس... مزاعم متضاربة لا تعبر في الجوهر إلا عن شيء واحد، ألا وهو المدى السيكولوجي الذي بلغه التمركز حول الأنا، والذي ظل سمة لم تفارق الفكر الغربي في نظرته للآخر، خصوصا إذا كان هذا الآخر هو الحضارة الإسلامية والعربية.

[1] حسن حنفي هل النقد وقف على الحضارة الغربية، فلسفة النقد ونقد الفلسفة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2005. ص7

[2] أدخل وليم جراهام سمنر، عالِم الاجتماع الأمريكي مصطلح "الاستعراق" في كتابه الوحيد "العادات الشعبية" عام 1906م. عرّفه على أنه النظر إلى جماعة ما على أنها مركز كل شيء، وجميع الآخرين يوزنون ويرتبون بعدهم.

[3] ورد في سفر اللاويين رقم 26: "أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب"

[4] البيرتو دانزول، اليهود والغيرية. غير اليهود في منظار اليهودية، ترجمة ماري شهرستان. دار الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق 2009. صفحة 95. حط

[5] انظر الفصل الخاص ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، موسوعة "قصة الحضارة". ول وايريل ديورانت. نشأة الحضارة. تقديم الدكتور محمد الدين صابر، ترجمة لدكتور زكي نجيب محمود. بيروت، تونس.

[6] "يبدو الوحي في بعض صوره اليهودية مجرد خيالات بحيث تكون مخيلة النبي مهيأ حتى وهو في اليقظة على نحو يجعله يتخيل أنه يسمع صوتا أو يرى شيئا بوضوح". سبينوزا باروك. "رسالة في اللاهوت والسياسة". ترجمة وتقديم حسن حنفي. الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، مصر، 1991، ص 126

ويقول إبن ميمون أن الوحي "يأتي على جهة التكهن والشعور، أو الرؤيا الصادقة". موسى ابن ميمون. "دلالة الحائرين" ط2. مكتبة الثقافة الدينية، مصر. 2008

[7] بهجة كامل عبد اللطيف. صور من افتراء المستشرقين حول الرسول صلى الله عليه وسلم وبطلانها. ص 727/ 730