الضّمير العالميّ الغائب وأزمة الأخلاق الدّوليّة


فئة :  مقالات

الضّمير العالميّ الغائب وأزمة الأخلاق الدّوليّة

شهد العالم حربين عالميّتين أبادتا عددًا كبيرًا من البشر، وخضعت كثير من الدّول إلى استعمارٍ استُنزفت فيه ثروات الشعوب، ونُكّل بهم. والقضيّة الفلسطينيّة، ليست سوى فصلًا من فصول الاستعمار والاستيطان اللذين مارسهما الغالب على المغلوب، فحكم على كثير من الفلسطينيين بالتهجير بعد سلب ممتلكاتهم، واحتلال أراضيهم، وظلّ الباقون من أصحاب الأرض يعانون سياسة التوسّع الاستيطاني والبطش الصهيونيّ، الذي حوّل حياتهم إلى جحيم في ظلّ غارات شُنّت على المدنيّين، ومذابح انتهكت أبسط قواعد حقوق الإنسان في الحياة، فما بالك بالحريّة؟. وقد عاشت أجيال متتابعة على أمل التوصّل إلى حلّ عادل يعيد المهجّرين إلى أراضيهم، ويوقف عدوان القوّة العسكريّة الإسرائيليّة على شعب شبه أعزل، ولئن اتّخذت كثير من المواقف المناصرة للشعب الفلسطيني من موقع الانتماء إلى الوطن العربيّ الإسلاميّ، فإنّ مواقف أخرى قد تولّدت من منطق الدّفاع عن حقوق الإنسان، ونصرة قيم الحقّ والعدل. ولكن بعد أكثر من سبعة عقود من محن الشعب الفلسطيني، تفاقمت أزمات العالم العربيّ، وظهرت قضايا أخرى، لا تقلّ خطورة عن القضيّة الفلسطينيّة. فاليوم، يعيش العالم على وقع القضيّة السوريّة، والقضيّة اليمنيّة، والقضيّة الليبيّة، والقضيّة العراقيّة، والقضايا مرشّحة للزيادة. ووسط كلّ تلك الملفّات، تحوّلت كثير من الدّول إلى ساحة للصّراعات الدوليّة، والتقاتل على المصالح الإقليميّة. وآخر المعنيّين بالصراعات؛ هم شعوب تلك المناطق، الذين يتهدّدهم الفقر، والتشرّد، والموت، وتتقاذفهم قرارات الدّول العظمى، وانتهازيّة الجماعات المسلّحة من أجل نيل السّلطة وحكم البلاد والعباد.

1- الحرب والمصلحة:

الحرب هي أبشع مصير للإنسانيّة، ولكن يبدو أنّها كانت ملازمة للبشريّة، ولقد تعاقبت الحروب منذ وجد الإنسان على سطح الأرض؛ فقصص الخلق الأولى، تنقل صراع الإخوة، ومصير القتل الذي حكم العلاقة بينهما. ولعلّ الفيلسوف "توماس هوبز" كان محقّا، عندما اعتبر الحالة الطبيعيّة للإنسانيّة هي حالة الحرب[1]. فما تكاد تنتهي حرب حتّى تبدأ أخرى، وقد ساد الاعتقاد، بأنّ نهاية الحرب الباردة أو (السّلم الساخنة)، كما دعاها البعض؛ هي نهاية الرّعب الدّولي، والتنافس المسعور على امتلاك أسلحة الدمار الشامل. ولكن وبمجرّد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكّكه، ظهرت أطروحة صدام الحضارات، لتفتح جبهة صراع إيديولوجي وعسكريّ، وتشهد نشاطًا منقطع النظير للجماعات الأصوليّة. وقد وفّرت حرب الخليج أرضيّة خصبة لنشاطها؛ إذ بدأت سلسلة من الحروب والأزمات (السّياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة)، ولم تعرف شعوب تلك المنطقة استقرارًا، منذ أوّل رصاصة أطلقت إبّان غزو الكويت حتّى الآن؛ إذ لا تزال الحكومة العراقيّة تخوض حربًا ضروسًا في الموصل، من أجل استرجاع سيادتها، وفرض النّظام على أراضيها، وقد ذهب ضحيّة تلك الحرب، ملايين البشر، وتولّدت عنها حروب أخرى لا تبدو آفاق نهايتها، أو محاولات رأب صدعها قريبة. فبإغلاق ملفّ الدكتاتوريّة، التي بدت آنذاك الشرّ الأعظم، تولّدت أزمات أكثر تعقيدًا؛ إذ صار العراق ساحة للنّزاعات الدوليّة، والصراعات الطائفيّة. وصارت ثرواته عرضة للنهب، وعاش الشعب، الذي يمتلك ثروات نفطيّة ضخمة، يكتوي كلّ يوم بنار القنابل والتفجيرات العشوائيّة، فضلًا عن التنظيمات المسلحة التي خرقت ميثاق السّلم الاجتماعي، واختارت حلّ العنف، وتحوّلت كلّ أطراف الصّدام بين الحضارات إلى فاعلين مؤثرين في الحرب العراقيّة.

لم تكن كلّ التّبريرات التي قدّمها الغرب لحربه على العراق، وروّج لعدالتها مقنعة؛ فتكالب الشّركات على الاستثمار في العراق، والنهم الغربيّ على النفط العراقيّ، جعلا كلّ تلك المبرّرات مجرّد ذريعة لتحقيق المصالح الأمريكيّة، وذهبت وعود الحرّية والديمقراطيّة سدىً؛ إذ لم تكن تلك الوعود، سوى وسيلة لنصرة طائفة لم تنل حظّها من الغنائم والحكم، فصارت ممارساتها على الطوائف الأخرى أكثر عنفًا، وتفكّك الجيش العراقيّ حين كان القرار بيد الأجنبيّ، لتحتلّ الميلشيات المسلّحة مكانه، وتنتشر الجماعات العنيفة بأسمائها الطّائفيّة وعناوينها الجهاديّة، التي جرّت كثيرًا من الشباب، المتحمّس للدّفاع عن الإسلام، إلى ساحات الحرب والموت، بدل التنعّم بالحياة وبخيرات الوطن، التي صارت عرضة للنّهب من قوى في الدّاخل والخارج. فهل تحوّلت الأخلاق إلى شعارات جوفاء، يروّجها السّاسة في خُطَبِهم، ليقنعوا شعوبهم المنشغلة بحياتها اليوميّة بجدوى الحروب الخارجيّة؟ وهل يمكن لشعارات الحرّية والديمقراطيّة وحقوق الإنسان أن تستوعب كلّ تلك البرامج الاقتصاديّة والمصالح الغربيّة في كثير من الدّول المستضعفة؟

قد يكون الحديث عن أخلاق دوليّة ضربًا من الوهم، في ظلّ نظام رأسماليّ، إلهه الربح وقبلته المصلحة؛ فهي في شريعته قدس الأقداس، وجنّة الخلد التي وُعد بها الرأسماليون. إنّها: "رأسماليّة نصّابي الأموال، وكبار المضاربين، ومتعقّبي الامتيازات الاستعماريّة، وكبار المتموّلين. ولاسيّما، عند أولئك الذين يختارون مشاريعهم في مجال استغلال الحروب، وهو ما يرتبط به اليوم، وفي كل يوم، قسم وقسم فقط، من التجارة الدوليّة الكبرى"[2]. فهل يمكن، بعدئذ، الحديث عن حقوق دوليّة وضمير عالمي يتحلّى بأبسط القواعد الأخلاقيّة؟ وهل يمكن لديمقراطيّة محمولة على ظهور الدبابات وتفرضها أسلحة "الناتو"، والجماعات المسلحة التي تقوم بتمويلها قوى خارجيّة، أن تحقّق ما تتطلّع إليه الشعوب المستضعفة من حرّية[3]؟

لقد سعت الأديان والفلسفات والعلوم إلى سعادة الإنسان، واجتهدت في تثبيت وجوده، وقهر كلّ قوى العدم التي تتهدّده، ولكن ما بال السياسات التي تتّخذها كثير من الدول، تسير ضدّ منطق الأخلاق الإنسانيّة، وتزرع بذور الشرّ حيثما كانت؟ هل يصحّ القول: إنّ السياسة مكيافيليّة أو لا تكون[4]؟ وهل يمكن للأديان أن تستعيد الضمير العالميّ الغائب؟

2- الأديان وأزمة التّأويل المزدوج:

قد يكون اللّجوء إلى الأديان تحت مسمّيات كثيرة، يعبّر عنها الحالمون باستعادة الماضي، مثلًا؛ بالصحوة الإسلاميّة. ويعبّر عنها كثير من المعتقدين بحاجة الإنسان المعاصر إلى المقدّس، أنها. سلاح أنطولوجي، أمرًا مغريًا في ظلّ جموح الأنظمة الرأسماليّة، وتعطّل مكابحها الشيوعيّة. بيد أنّه، يمكن أن نصطدم بعائق تأويلي لا مناص منه، فقد ظلّ الاختلاف قائمًا بين تأويلين متضاربين؛ يرى أنصار التيّار الأوّل: أن الأديان تضمن حقّ الجماعة المؤمنة في القضاء على الجماعات الكافرة، وسلبها والاستيلاء على ثرواتها، بينما يرى فريق آخر: أن روح الأديان قائمة على السلم والتّسامح، وهو ما نرصده في الديانة المسيحيّة، مثلًا، "فثمّة من يرى أن الإنجيل يحدّد طقوسًا لا خلاص من دونها. وآخر، يعلن سُدى الطقوس الأولى، ويدعو إلى اللاّتسامح، وإلى الإيمان المفروض قسرًا، وإلى معاقبة الخطيئة بالنار. وآخر يدعو إلى احترام حرّية الضمير، وإلى الوداعة اللانهائيّة حيال النعجة الضالة. الأوّل يجيز الحرب، والآخر يدينها إلى الأبد. الأوّل؛ يمجّد الفقراء، ويصبّ جام غضبه على الأغنياء، ويدين من يجمع المال؛ بل من يعمل للريح. أمّا الآخر؛ فهو يعترف بالثروة ويريد الحفاظ على صنوف التسلسل القديمة، ودعم النظام الاجتماعيّ"[5].

تعتبر المسيحيّة أكثر الأديان التي عرفت تطوّرًا؛ فقد تمّ الإعلان في المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي انعقد بين سنوات 1962إلى1965م، عن قرارات جريئة وإصلاحات جوهريّة، كان لها أثرها في علاقة المسيحيّة بالأديان الأخرى، وبمفاهيم الحداثة وحقوق الإنسان. وقد شهد الدّين الإسلاميّ، بدوره، تطوّرًا من خلال نشأة جيل من المصلحين، حاول تغيير مسار التأويل الديني من العنف إلى التّسامح، ونقد التيّارات الأصوليّة، التي كانت تؤمن بالمواجهة، وتعتبر أصحاب الدّيانات الأخرى على ضلالة، وتشرّع لحربهم وقتالهم. وإن كان أثر التّسامح جزئيًّا ونخبويًّا، فإنّه أضحى يمثّل تيّارًا يواجه النزعات الأصوليّة، التي مازالت متشبّثة بتأويل يرى في الدّين مشرّعا للعنف وعداء للمختلفين. وشهدت اليهوديّة، بدورها، جدلًا بين تأويلات أصوليّة تؤمن بتفوّق اليهوديّ، وتهبه الحقّ الإنسانيّ المطلق، وتأويلات أكثر انفتاحًا، تنقد نزعة الانغلاق، وتشرّع لصلح مع الحداثة. وقد تجسّد ذلك الصّراع التأويلي من خلال الجدل القائم بين لاهوت موت الإله، ولاهوت التحرير؛ إذ لا يمكن الحسم، تأويليًّا، بين الفريقين[6].

نتيجة لهذا الصراع التّأويلي؛ لا يمكن الحسم اعتمادًا على الخطاب الديني، لإدراك حلّ أنجع لأخلاق إنسانيّة، تنشر ثقافة حقوق الإنسان والحرّيات، فكلّما قام فريق يشرّع لأديان متسامحة، قام فريق من المنتمين إلى نفس الدّين يعارضون تأويله، ويدحضون حججه. فهل استطاعت الحداثة أن تؤسّس ضميرًا عالميًّا قادرًا على تحقيق العدالة وضمان حقوق الإنسان؟

3- الحداثة وزيف الضمير العالمي:

بشّرت الحداثة على لسان فلاسفتها وعلمائها، بواقع جديد تشهده الإنسانيّة، ويتحرّر فيه البشر من سلطة الآلهة، ويستعيد حقوقه المنهوبة من نواب السّماء على الأرض، وأعلن بعض الفلاسفة عن موت الإله، استبشارًا بولادة الإنسان الجديد صاحب الحرّيات. وكان الإنسان وفق هذه التصورات محور المسألة الأخلاقيّة؛ فقد اعتبر كانط (Emmanuel Kant) (ت 1804م): "أنّ المبادئ الخلقيّة ضروريّة، حسب العقل في استعماله العمليّ. كذلك من الضروريّ، حسب العقل في استعماله النظريّ؛ أن نسلّم بأنّ لكلّ واحد أن يأمل بالسعادة، بالضبط على قدر ما يجعل نفسه جديرًا بسلوكه، وبأن نظام الأخلاق؛ هو، بالتالي، مربوط بلا انفكاك بنظام السّعادة؛ إنّما في فكر العقل المحض وحسب"[7]. وحاول سبينوزا (Baruch Spinoza) (ت 1677م)، أن يرسم هندسة للأخلاق، فسعى إلى خلاص الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، من أجل بلوغ الخير الأعظم، والفوز بالسعادة الحقيقيّة. وكان يطرح على نفسه سؤالًا، هو: "ماذا يجب أن أفعل كي أفوز بالسّعادة؟"، واتّصل تصوّره للسّعادة الإنسانيّة بالحرّية، وسبل الارتقاء بالذهن إلى مستوى الكمال والسبيل إلى ذلك[8]. ولكن رغم كل تلك الدعوات، فقد ظلت الحروب منتشرة في العالم؛ بل إنّ أكبر الحروب، اندلعت في الدول الأكثر حداثة، وهي لا تزال ترتبط بالدّول الأكثر تقدمًا، رغم الإيهام بأنها ترتبط بثقافة العنف وتخلف الشعوب، مثلما روجت لذلك الدراسات الأنثروبولوجية المحكومة بنزعة المركزيّة الإتنيّة؛ فالقويّ يظلّ أكثر تحفّزًا للعنف، وإن لم يوظفه، فهو يلوّح به، ويهدّد باستعماله. و"العلم الذي أسعد أوروبا، وحقق لها كل هذا التقدّم؛ هو سلاح ذو حدين، كما اكتشف الأوروبيون، في وقت لاحق، وبشكل مفاجئ، فقد يؤدّي إلى تدمير الحضارة عن طريق الأسلحة الفتّاكة، التي ساهم في صنعها، مثلما أدّى إلى تشكيل الحضارة. وقد يؤدّي إلى تدمير البيئة والمناخ والكوارث الطبيعيّة، إذا زاد عن حدّه، فكلّ شيء يزيد عن حدّه ينقلب إلى ضدّه، كما يقول المثل"[9].

هل يمكن القول، بعد كلّ هذا العجز المستفحل عن كبح جماح القويّ، والحدّ من عدوانه على الضعفاء: إنّ الحرب أمر طبيعيّ، يجد فيها القويّ سبيلًا لاستعباد الضعيف؟ وهل كان الفلاسفة الذين روّجوا لفكرة الخير الإنسانيّ مخطئين في فهمهم لحقيقة الإنسان؟[10] وهل يمكن "إيجاد شكل لشركة، تجير وتحمي بجميع القوة المشتركة، شخصَ كلّ مشتركٍ وأمواله، وإطاعة كلّ واحد نفسه فقط، وبقاؤه حرًّا كما في الماضي مع اتحاده مع المجموع؟"[11] وكيف يمكن حلّ هذه المعضلة الأساسيّة بالعقد الاجتماعيّ؟ وهل يمكن لهذا العقد الذي ينشأ بين أفراد الدّولة الواحدة، أن يتحوّل إلى عقد دوليّ، يحمي حقوق الشعوب المستضعفة، ويوقف سياسة الاستعباد والهيمنة التي تمارسها القوى العظمى من موقع السّيادة، وتتأذّى بها الدّول الضعيفة من موقع العبوديّة؟

هل يمكن أن تكون الديمقراطيّة هي الحلّ السحريّ لمعاناة الشعوب؟ وهل يمكن للديمقراطيّة، التي تقنن بها الشعوب المتقدّمة حياتها السياسية في الدّاخل، أن تكون آليّة تقنّن العلاقة مع الشعوب الأخرى؟ أليس قصورها الدّاخلي عن تحقيق تمثيلية حقيقية للمواطن هو السبب الذي يجعل الحروب بيد الطّبقة الرّأسماليّة الحاكمة؟

لقد حاول "روسو" (Jean-Jacques Rousseau) (ت1778م)، أن يبيّن أنّ المواطنين ينبغي أن يكونوا معنيّين مباشرة بوضع قوانينهم، وإلاّ، فلا حرّية. وأظهر أن الحريّة؛ هي فعل ظرفيّ، يرتبط بفترة انتخاب أعضاء البرلمان، ليس غير، وحالما ينتخب الأعضاء، يستبعد الشّعب، ويصبح غير ذي شأن[12]. ولكنّ المسار التاريخي للدّيمقراطيّة، كان على غير ما تشتهيه سفنه، ويحقّ القول على ماركس (Karl Marx) (ت1883م): "الذي آمن أنّ السّوق الحرّة، والدّولة القائمة على أساس مواطنين متساوين سياسيًّا في المجتمع الرأسماليّ، ما هما إلاّ شكلان صوريّان، يخفيان واقع الحكم الذي تمارسه الطبقة الرأسماليّة، وأنّ السّبيل الوحيد لتحقيق المساواة السياسيّة والاقتصاديّة الحقيقيّة، والتحوّل الديمقراطيّ، على نحو كامل للدولة والمجتمع، هو القضاء على النظام الرأسماليّ، واستبداله بالاشتراكيّة، وفي نهاية المطاف بالشيوعيّة"[13]. ولكنّ مسار التاريخ، جعل من النظام الرأسماليّ أنموذج العالم المتقدّم، ونهاية التاريخ، وصيّر الاشتراكيّة والشيوعيّة رسْما دارسٍ يبكي أطلاله بعض الحالمين بالعدالة.

4- ضمير السّوق العالميّة:

"تتطلّب الأسواق، تطبيق قواعد التّفاعل الاجتماعيّ، والتّبادل الاقتصاديّ بالتراضي، ولم يعبّر أحد عن هذا الأمر، أفضل من "ديفيد هيوم" (David Hume) (ت 1776م)، منذ مئتين وخمسين عامًا خلت، حين قال: إنّ هناك ثلاثة قوانين وحسب، للطبيعة: حق الامتلاك، والتبادل بالتراضي، والوفاء بالوعود. هذه هي الأساسيات الجوهريّة للنّظام، الذي يجعل الأسواق والرخاء أمورًا ممكنة التحقيق. استمدّ "هيوم" قوانين الطبيعة الخاصة به، من الوصايا القديمة: لا تسرق، ولا تشتهي ما يملكه جارك، ولا تشهد زورا؛ فالسّرقة تستهلك الثروات، وتثني البشر عن إعادة إنتاجها. واشتهاء أملاك الغير، يدعو لوجود دولة قاهرة، تعيد توزيع الثروة، ممّا يعرض محفّزات إنتاج حصاد الغد للخطر. وتقوّض شهادة الزّور أساس المجتمع، ومصداقية الإدارة، وثقة المستثمر، والربحيّة بعيدة المدى، والتبادلات الشخصيّة التي تضفي علينا السمة البشريّة"[14].

لقد أثبت الواقع، أن جميع مواثيق السّوق وأخلاقيّات الرّأسماليّة، التي بيّن "ديفيد هيوم" أسسها، قد تمّ خرقها والعمل بضدّها؛ فالعين الرأسماليّة الشرهة، لا تنفكّ تطمع في ثروات العالم، وهي تستعمل أسلحتها الفتاكة، لتحقيق مآربها سواء أكان ذلك بالشكل الاستعماريّ القديم، أو بالشكل الأمريكيّ المشرعَن بسلطة الأمم المتحدة وحقوق الإنسان. وما الدّول المنكوبة بحروب مفتعلة من الخارج في الوطن العربي، سوى دليل على السّرقة والّنهب المنظّمين، اللذين تمارسهما الشّركات المدعومة بقوة السلاح. وأمّا شهادة الزّور، فيؤدّيها الإعلام العالمي، الذي يرى، بعدسته المكبّرة، حجرًا يلقى من يد طفل فلسطيني بائسٍ؛ إرهابًا. ويظهر الحروب المدمّرة على؛ فلسطين، ولبنان، والعراق، وسوريا، حروبًا شرعيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان، ونشر قيم العالم الحرّ. ويُظهر القنابل الحارقة، التي تنزل على الفلّوجة وبغداد، ومن قبلها على اليابان والفيتنام، بردًا وسلامًا على أهلها، تمهّد سبل الحرّية والديمقراطيّة. فيكون الإعلام، بذلك: أكبر شاهد زور عرفه التاريخ[15]، يجعل من الظّالم مظلومًا، ومن الضحّية جلّادًا. فمن سيكون النّاطق باسم الضمير العالمي الغائب؟ وكيف يمكن تأسيس عقد دوليّ بين الشعوب يضمن حقوقها الشرعيّة، ويكبح جماح الطّامعين في ثروات جيرانهم وإخوانهم من البشر الجياع؟

ليس هناك أيسر على البشر من شرعنة العنف، باسم الدّين؛ دفاعًا عن المقدّسات، وحلمًا بتحقيق الدولة الدينيّة. أو باسم الحداثة؛ دفاعًا عن شعارات الحريّة، وحقوق الإنسان. وإنّه لمن المفارقة، أن يلتزم أصحاب هذه الأطروحات بحقوق الإنسان، وحرمة الدّماء، متى تعلّق الأمر بالمنتمين إلى جماعتهم أو دولتهم، وأن ينتهكوا كلّ تلك المواثيق متى تعاملوا مع الآخر المختلف.

لعلّ قول ونتسون تشرشل (Winston Churchill) ( ت1965م)، يمكن أن يختزل أزمة الضمير العالمي؛ فقد لخّص في هذه العبارات حقيقة الأزمة الأخلاقيّة، يقول: "لقد ارتكبت من الجرائم لصالح بريطانيا، ما لو ارتكبته بداخلها، لقضّيت حياتي كلّها في السجن". فهل سيأتي على السّاسة حين من الدّهر، يحاسبون فيه على جرائمهم الدّوليّة، مثلما يحاسبون على جرائمهم الداخليّة؟ أم سيظلّ المنطق المكيافيلّي مبرّرًا الضمير العالمي الغائب؟


[1] يقول هوبز: "إنّ التنافس على الثروات، أو الشرف، أو الإمارة، أو غيرها من السلطات، ينتج ميلًا إلى النزاع والعداوة والحرب؛ لأنّ سبيل المنافس إلى تحقيق رغبته، هو قتل الآخر، أو إخضاعه، أو هزيمته، أو طرده. وبصورة خاصّة، ينتج التنافس على نيل المديح ميلًا إلى تبجيل الأقدميّة؛ لذلك، فإنّ النّاس يتنازعون مع الأحياء لا مع الموتى، وهم يولون هؤلاء أكثر ممّا يستحقّون، حتّى يلقوا بظلالهم على أمجاد الآخرين". توماس هوبز، الليفياثان الأصول الطبيعيّة والسياسيّة لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حرب وبشرى صعب، ط1، بيروت- أبو ظبي، دار الفارابي- هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث كلمة، 2011م، ص 106

[2] ماكس فيبر، الأخلاق الرأسماليّة وروح الرأسماليّة، ترجمة: محمّد علي مقلّد، ط1، بيروت، مركز الإنماء القومي، د.ت، ص 9

[3] انظر: زيبغنيو بريجنسكي، الاختيار السيطرة على العالم أم قيادة العالم، ترجمة: عمر الأيوبي، ط1، بيروت، دار الكتاب العربي، 2004م، ص ص 249- 250

[4] يقول مكيافيللي: "إذا نظرنا إلى الأمور نظرة صحيحة، وجدنا أنّ بعض ما يبدو فضائل، قد يهلكنا لو طبقناه. والبعض الآخر، الذي يبدو من الرذائل، قد يسبّب سلامة الإنسان وسعادته". الأمير، ترجمة: أكرم مؤمن، ط1، القاهرة، مكتبة ابن سينا، 2004م، ص 81

[5] أبار بايه، أخلاق الإنجيل، دراسة سوسولوجيّة، ترجمة: عادل العوا، ط1، سوريا، دار كنعان للدراسات والنشر/ دار الحصاد، د.ت، ص 9

[6] يقول عبد الوهّاب المسيري: "إنّ التوتّر بين لاهوت موت الإله، ولاهوت التحرير: هو نفسه التوتّر القديم، بعد أن تصاعدت حدّته بسبب معدّلات العلمنة، وبعد أن أصبح الخطاب الوثنيّ أكثر صقلًا، وأكثر إلمامًا بالخطاب الديني، وأكثر امتلاكًا لناصيته. ويبدو أنّ حسم مثل هذا الصّراع، أمر صعب للغاية؛ بسبب التركيب الجيولوجي لليهوديّة، الذي يوفّر لكلّ المتحاورين، إمكانيّة أن يجدوا سوابق وشواهد تدعم وجهة نظرهم، وتعطيهم شرعيّة دينيّة". موسوعة اليهود واليهوديّة نموذج تفسيري جديد، ط1، مصر، دار الشروق، 1999م، ج 5، ص 455

[7] إيمانيوال كانط، نقد العقل المحض، ترجمة: موسى برهومة، ط2، بيروت، مركز الإنماء العربي، 1988م، ص 387

[8] سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة: جلال الدين سعيد، ط1، تونس، دار الجنوب للنشر، د.ت، ص 354

[9] هاشم صالح، معارك التنويريّين والأصوليّين في أوروبا، ط1، بيروت، دار السّاقي/ رابطة العقلانيّين العرب، 2010م، ص 360

[10] يقول روسو: "لا يمكن للحرب الخاصّة أو حرب الإنسان على الإنسان، أن تكون في الحال الطبيعيّة؛ حيث لا يوجد ملك ثابتٌ مطلقًا، ولا في الحال الاجتماعيّة؛ حيث يكون الجميع تحت سلطان القوانين؟" روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسيّة، ترجمة: عادل زعيتر، ط2، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربيّة، 1995م، ص 37

[11] المرجع نفسه، ص ص 43- 44

[12] انظر: غيورغ سورنس، الديمقراطيّة والتحوّل الديمقراطي، السيرورات والمأمول في عالم متغيّر، ترجمة: عفاف البطاينة، ط1، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015م، ص 25

[13] المرجع نفسه، ص 26

[14] توم جي بالمر، أخلاقيات الرأسمالية، ترجمة: محمد فتحي خضر، ط1، مصر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013م، ص 111

[15] انظر، مثلًا: عبد الحليم حمود، الإعلام التضليلي، دور الدعاية والإعلان الغربيّة في تشويه صورة الإسلام، ط1، بيروت، دار المؤلف، 2010م، ص ص 162- 187