الضمير والرأي: حرّيتهما بين الدين والعلمانيّة


فئة :  مقالات

الضمير والرأي: حرّيتهما بين الدين والعلمانيّة

 الضمير والرأي: حرّيتهما بين الدين والعلمانيّة*


 1) أتناول في هذا المقال معاني بعض المصطلحات اللغوية، وبالأخص (الحريّة) و(الضمير) و(الرأي) و(العلمانية)، التي تستعمل في معرض الحديث عن علاقة الفرد أو المجموعة بالدولة أو المجتمع، هادفاً من وراء ذلك استجلاء الأرضية النظرية لوجهات النظر المختلفة المتعلقة بهذه المواضيع ولانعكاساتها في الأحوال السياسية القائمة أو المتوخاة، وخاصة في الدول المنطبعة بشكل أو بآخر بالديانات الساميّة الثلاث. وأستهل ببعض الملاحظات اللغوية المختصرة للمصطلحات التي نحن بصدد الحديث عن معانيها، لعلها تفيد القارئ في تتبع مجرى الأفكار التي سوف أحاول أن أعبّر عنها في ما سوف يتلو.

فالحرية كما تستعمل اليوم ـ مصطلحاً أو معنى ـ لا تحمل في ثناياها مدلولاً أخلاقياً، بل هي وصفية لحالة أو كيفية لشيء ما، حركة كانت أو وضعاً أو ما شابه، ولا تختلف في هذا عن أيّ مصطلح وصفي عام ـ كالسرعة مثلاً ـ وحين تنسب إلى الأشخاص ـ أفراداً كانوا أم جماعة- فهي تصف مجال حركاتهم والعلاقات فيما بينهم ذهنية كانت أم جسمية. ويتفق جمهور الفلاسفة اليوم على توصيف "أيسياه برلين" لها بأنها نوعان: إيجابية وسلبية؛ فالأولى تصف ما هو بمقدور الناس أن تفعل إن أرادت، والثانية ما هو بمقدورها أن ترفض فعله (على افتراض استبعادنا لنظرية الحتمية المطلقة)، فترتبط إذن ارتباطاً وثيقاً بالمقدرة أو بمساحة الأفعال الممكنة للإنسان كإنسان، وأمّا اعتبارنا للحرية أنها خير فإنما هذا أمر نضيفه إليها كصفة، كما نصف السرعة مثلاً أنها حسنة أو لا، وذلك قياساً لاعتبارات أخرى، فالخيرية (أي القيمة الأخلاقية) هي كذلك صفة مضافة للحرية كما هي صفة مضافة لأمور كثيرة أخرى هي بذاتها خالية منها، وقد توصف بها مشروطة أو لا بحسب اعتباراتنا المختلفة والظروف التي تحيط بوضعها عند وصفها. وإن صحّ القول إنّ أصل المصطلح (الحر) يحمل في طياته بُعداً قيمياً بالقياس لـ (العبد) في تاريخنا العربي، فليس هذا هو الجانب موضع النظر عندما نتكلم اليوم عن موضوع الحرية، بل ذلك الذي يكون الحكم القيمي بشأنه موقوفاً إلى أن تتبين طبيعة وظروف وأوصاف الحرية موضع النظر.

وأمّا مصطلح (الضمير) فهو بأصله في العربية ما يضمره الإنسان بنفسه أو لنفسه، ويدلّ عليه في اللغة كاسمه، فيخصّه هو بالذات، ولكنه أصبح مستعملاً في الأدبيات ليدلل على وجدانه أو على عصب حسي في نفسيته يخفق خفياً كنبضات قلبه، ومن شأنه أن ينتفض طبيعياً وتلقائياً كأيّ عصب لا إرادي فيه، أمام غبن في حقّ الإنسان أو إنسان ما، وهو لذلك يشار إليه كأنه وازع أخلاقي منغرس في طبعه، فيقال إنّ من لا ضمير له بمثابة من لا وازع أخلاقياً له، ولقد تبلور هذا المفهوم في اللغات اللاتينية الحديثة بخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، (وإن كان المفهوم نفسه كما يرى الباحثون في تاريخ المسيحية أقدم من ذلك، ويربطونه بكلمة في اليونانية/الإنجيلية يمكن ترجمتها بـ "النيّة")، وكانت الفيلسوفة حنة أرندت من أوائل من تطرّق لهذا المفهوم حديثاً في إطار الجرائم النازية ومحاكمة مرتكبيها، (كانت إسرائيل قد اختطفت إيخمان، وأجرت له محاكمة في القدس قامت أرندت بالكتابة عنها)، فأثارت مفهوم الـ(دايمون) السقراطي، أولاً لتحديد المعنى المستحدث لـ (الضمير)، وثانياً للبتّ بأنّ مرتكبي تلك الجرائم لا يمكن وصفهم بأنهم يتحلون بوجود ضمائر لديهم يمكن أن تستوقفهم في أعمالهم أو تثنيهم عنها أو تؤنبهم فيما بعدُ على ارتكابها، وبهذا تقاربت المعاني لهذا المصطلح باللغات المختلفة، ويجري الحديث بالعربية عن تأنيب الضمير تماماً كما يفهم ذلك الآن باللغات المختلفة، وأصبح الضمير بمثابة تلك الخاصيّة في الإنسان التي تفصله عن غيره من الكائنات، أو التي تفصل بين من يتحلى منهم بالإنسانية عن غيره، وبمعنى آخر فـ (الضمير) في هذا السياق وخلافاً لـ (الحرية) يحوي في ثناياه حسب استعمالاتنا اللغوية بُعداً قيمياً أو أخلاقياً واضحاً.

وأمّا (الرأي) فهو ما يكوّنه أو يحمله الإنسان، وقد يكون بشأن أخلاقي أو بأي شأن آخر، فهو بذاته كالحرية، وخلافاً للضمير، لا يحمل في ثناياه أو مضمونه بُعداً أخلاقياً، فإذا ما كان بشأن أمر أخلاقي فيكون هذا الأخير ما يضفي صفة أخلاقية عليه، فهو إذن بنفسه أي وحده يخلو من المضمون أو المحتوى الأخلاقي بالأصل. فمن الواضح أنّه إذا ما أتينا الآن على ربط المصطلحات ببعضها بعضاً، وأضفنا (حريّة) لـ (الرأي) لا نكون بفعلنا ذلك قد أضفينا صفة أخلاقية على موضوع كلامنا، فلا هذا ولا ذاك يحوي تلك الصفة أصلاً. وكما سبق فلا يفترض أن يكون الرأي المقصود رأياً أخلاقياً بالذات، ولا يفترض أنّ صاحبه لن يجيز لنفسه تغييره إن ارتأى ذلك في حوار عقلاني منفتح، وقد نجد أنفسنا نحمل آراء لم نكوّنها وأخرى نعمل على تكوينها، وذلك في شتى المجالات، والمقصود من وجود مساحة لحرية الرأي ـ أي المقصود من الدعوة لوجودها ـ هو تحديداً أن يتمكن الناس من تبادل الآراء كي تنضج فيما بينهم، لعلهم يتفقون على أفضلها، أو يتمكنون من التعايش مع اختلافاتهم حولها، وبالتالي فإنه ولو لم يكن هناك بُعد أخلاقي بدءاً وأصلاً لأيٍّ من المصطلحين (حرية) و(رأي)، فإنّ هذا البُعد يُضاف إليهما استناداً لذلك الهدف المنوي تحقيقه من توفير الحالة الفكرية والمجتمعية التي يدللان عليها، فتستمد (حريّة الرأي) البعد القيمي أو الأخلاقي بهذه الحالة من منفعة يرجى تحقيقها.

ويختلف الأمر في مصطلح (الضمير)، فهو مصطلح أخلاقي بدءاً كما أشرنا، ويشير إلى عصب حسّي في النفس يكاد ينطق بنفسه، فهو وازع داخلي، وإذا كان الرأي الناضج، أي الذي نكوّنه بتروٍ وتعقل، هو من صنيعنا أو صنيع عقلنا، فالضمائر تملي علينا معتقداتنا ومواقفنا، فكأنها تخرج علينا من نفوسنا وتتكون لا شعورياً في أذهاننا، فكأنها هي صاحبتنا ولسنا نحن أصحابها، وتكاد إضافة (حريّة) لـ(الضمير) أن تكون بلا معنى، فهو ما يختلج في النفس بحريّة أصلاً، وهو ما يملي الفعل والموقف ضارباً القيود مهما تنوعت عرض الحائط، فلا يحتاج إلى رخصة أو إلى تشريع خارجي، فيبقى المقصود من الكلام عن حريّة الضمير أن تتوخى الناس وجوده ما بينها وفي صفوفها، ليس كهبة أو قانون، بل كصوت حقاني يخرج من بينها فيكسر حواجز الإرهاب والاستكانة أو مجرد الخضوع للعادة، والضمير حر بمجرد إسماع صوته للخليقة من حوله، وهو بالضرورة كسر للقانون أو العادة، وليس ممارسة لحرية ممنوحة من قبلهما، ولكن ورغماً عن ذلك فلا يغرنّنا بأنّه صدق، وإن كان صادقاً، فهو وإن كان دليلاً متحدياً وساطعاً على صدق القائل به فهو ليس دليلاً على صحة المقول، وكفاك أن تجد بين الناس ضمائر تملي عليهم مواقف متناقضة كي تعرف أنّ صدق القائل ليس كصدق المقول، فهو إذن يشارك الرأي عند تجسده بمعتقد ما في خضوعه للخطأ والصواب، ولكنه يخالف الرأي من حيث مصدره وقوة الإيمان به، فمنبعه هو حسٌّ إنساني داخلي غريزي، وليس تفكراً واعياً تحليليّاً، ونحن إذا كان المشهد أمامنا ذاك حين يدفع الإنسان بنفسه منفرداً وبملء عينيه إلى هلاك ما، دفاعاً عن مبدأ يؤمن به وإرضاء لضميره، ننظر إليه بشكل يختلف عن نظرتنا إليه إن كان يدافع عن مجرد رأي أو وجهة نظر، حتى لو فعل ذلك بحميميّة أو قوة، كما أننا نتفهم تماماً قول القائل لنا إنه عاود فعلاً أو قولاً مسّ فيه إنساناً آخر بسبب توبيخ ضميره له على ما قام بقوله أو بفعله، وكأننا نتقبل وجود مرجع أخلاقي في نفس الإنسان أو غريزته هو الضامن للفصل بين الخير والشر والضامن لتوجيه الإنسان بالعموم لعمل الخير دون الشر، وذلك بشكل أكثر موثوقية منه في حال علم الإنسان بالفصل بينهما، وقد يذكر في هذا المجال ما قاله أرسطو في كتاب (الأخلاق) عن ضعف الإرادة (الأكراسيا)، حيث لا تلزم معرفتي بما هو حق أو خير عملي به، فالضمير هنا قد يلعب دور الإلزام المنشود. واختتاماً لهذه الملحوظات يمكننا التلخيص بالقول إنّ الضمير يضفي على الحريّة مضموناً أخلاقياً (حتى لو كان حكمه خاطئاً) دون الرجوع إلى هدف اجتماعي منفعي (نستشرع) منه، أي نستفيد منه لشرعنة حالة الحريّة التي نبغي. وخلافاً للرأي فإنّ المعتقد الذي يؤمن به صاحب الضمير هو معتقد راسخ في نفسه، يكاد صاحبه لا يفرق بينهما، ولايتصور نفسه أو هويته أو ما هو به إلا وهو على هذا المعتقد.

ويمكننا في التاريخ الإسلامي أن نشهد نماذج حيّة للذين دافعوا عن أصولية حرية الضمير بالمعنى المشار إليه في أشخاص العلماء والفقهاء، كأبي حنيفة وابن حنبل، إنهم آثروا السجن والعذاب والموت على تغيير معتقداتهم من أجل إرضاء الحكام، ومن الملفت أنّ معتقداتهم هذه لم تكن هي ذاتها ما تشكل عقيدة المسلم أو هي من جملة ما تشمله مقاصد الشرع (وأولها حماية دين المسلم)، فهم لم ينبروا للدفاع عن العقيدة بل عن معتقدات (كالقول بشرعية خلع الحاكم أو بخلق القرأن)، رأوا فيها أنها تأتي تطبيقاً لحريتهم وفق مقصد الشرع الأول والذي لا يعني شيئاً إن لم يعنِ حرية المؤمن أن يجتهد، ثم ألّا يثنيه الخوف من العقاب عن التمسك باجتهاده كلازمة من لوازم إيمانه، بل أن يكفل الشرع حماية اجتهاده كجزء لا يتجزأ من إيمانه بدينه. فلا فرق جوهرياً وإن اختلفت المعطيات بين هذه الأمثلة، وبين أمثلة أخرى في التاريخ تشهد جميعها للاهتمام الذي أولاه أعلام الفكر لدور الضمير في التأسيس للمجتمع الفاضل، حتى يصبح صوت هذا الضمير أسمى من الحياة، فتصبح ضرورة حريته وكأنّه لا معنى لوجود الإنسان بدونها، فكأننا نجد في هذه الأمثلة النيرة أسبقيات لما شهدته المسيحية في العصور اللاحقة التي تمخّض عنها الإجلال لمسألة الحرية الدينية، وعن هذه لاحقاً الإجلال لحرية الرأي. وحريّ بالذكر هنا أنه، وإن لم يكن هناك ذكر للمصطلحات نفسها لحرية الضمير في المواقع المذكورة في تاريخنا الإسلامي، فليس ثمة شك بأنّ الموضوع نفسه هو الذي كان يحرك شجون علمائنا الأوائل عندما كانوا يؤثرون السجن ويرفضون التعيينات حفاظاً على استقلاليتهم الفقهية وحريتهم في القول في معتقداتهم.

ومن هنا نأتي على العلمانية والجدل الدائر هذا اليوم، وخاصّة في الغرب المسيحي، حول الدين وعلاقته بالدولة، وذلك كله على الخلفية التاريخية التي شهدت حروباً لعتق الدولة عن الدين، حتى أضحت المثل الذي تتحلى به دول الغرب، ولنسمها جميعها بالمثل الديموقراطية/العلمانية بمثابة معتقدات أو مبادئ عقلانية مستقلة عن الدين وقائمة بدونه، وحتى أنحي بالدين جانباً ليتبوأ موقعه المتواضع في الحياة الخاصة دون العامة، ولكن لم تلبث دول الغرب أن وجدت أنفسها أمام ظواهر تدين جديدة وحاضنات لمجموعات تعتنق أدياناً مختلفة (أهمها وأكثرها إقلاقاً لها تلك التي تعتنق الدين الإسلامي)، فبدأ التشكك بقدرة المشروع العلماني في الاستمرار على حاله والتفكر بكيفية التعامل مع تلك الأقليات، خاصة وأنّ المثل الديموقراطية من شأنها أن تسمح لتغلغل الدين في شؤون وطبيعة الدولة، ممّا قد يطيح بالمشروع العلماني أساساً. وقد يُشار في هذا السياق أيضاً إلى الأزمة المتنامية في دولة إسرائيل التي تشهد اليوم ضغوطاً داخلية من الأوساط الدينية اليهودية لجعل الدين قاعدة دستورية من شأنها إلغاء أو تمييع الأسس العلمانية التي "تدّعي" أنها قائمة عليها، ومن شأنها أيضاً "فضح" العنصرية التي تقوم عملياً بممارستها.

لا يمكن اختزال الجدل القائم حول هذه الموضوعات بالحوار بين شارلز تيلور ويورخين هابرماس، الذي تبلور في الأعوام الأخيرة، إلا أنّ هذا الحوار يبرز بوضوح معالم المشكلة موضع النظر، فقد كان كلٌّ منهما يتخذ موقفاً فلسفياً مبايناً للآخر بشأن عناصر تكوين المجتمع، أكانت هي الأفراد أم المجموعات، (الليبرالية أم الكميونتارينية)، شهدت السنوات الأخيرة محاولة كلّ منهما التماس مع الآخر، وذلك أمام تنامي أهمية الدين والتدين، فإذا كان هابرماس يعتبر أنّ هيكلية الدولة يجب أن تقوم على أساس عقلنة الفرد التي يجب توفير الحرية لها من أجل المشاركة مع الآخرين في تصميم القيم والأنظمة التي يتوافقون عليها لمعاشه، فقد بدأ ينحو للقول بتوفير مساحة للتعبير عن التدين ومظاهره في الحياة العامة طالما لا يصل ذلك الى أن يصبح صوته هذا عنصراً رسمياً في أروقة التشريع الرسمية في الدولة. أمّا تيلور الذي وإن كان وما زال يصرّ على أنّ وحدات المجتمع والدولة الأساسية ليست هي الأفراد وإنما هي الروابط القيمية والعاطفية والفكرية وغيرها التي تتمثل جميعها بالمؤسسات التي تقيمها هذه المجموعات، والتي تترأسها من الناحية الواقعية والتاريخية المؤسسة الدينية بمدلولاتها المختلفة، فقد وجد نفسه مضطراً للاعتراف مؤخراً، وخاصة في مؤلفه الضخم (عصر العلمانية)، باضمحلال هيمنة الدين بشكله ومفهومه التاريخي، بحيث أصبح اليوم بمثابة خيار ليس إلا، أي رأي أو معتقد يتمّ التعامل معه كغيره من المعتقدات المجتمعية المعاصرة. ولكنه ومن هذا الباب بدأ بطرح ضرورة دمج صوت هذا المعتقد بالأصوات الأخرى داخل أروقة التشريع الرسمية بالدولة، لكي تسمع ويكون لها شأن في تشريعات الدولة كغيرها من التيارات والأحزاب. وأمّا هابرماس فإنه يتصدى لهذه الأطروحة مصمماً على أن تبقى لغة الحوار في تلك الأروقة هي لغة العقلانية الحيادية، قائلاً بضرورة ألا تدخل لغة الدين هذه الأروقة إلا اذا كانت "مترجمة" من أصحابها إلى لغة العقل الصرف. فهو يدعو إلى توفير المساحة المرجوة للدين والتدين في الحياتين العامة والخاصة، دون أن يكون للغة الدين أو صوته مدخل في أروقة التشريع، ويخالفه تيلور في القول إنّ إبقاءها خارج أروقة التشريع والدوائر الحكومية الرسمية إنما يعني تمييزاً ضدها لا يشترطه هابرماس على أصحاب المعتقدات الأخرى. ويؤكد هابرماس بدوره أنّ التمييز المشار إليه ليس ضد الأشخاص أو المجموعات، وإنما هو ضد تمييع لغة العقل بشكل لا تفرضه المعتقدات الأخرى عليها، والتي يجب أن تبقى (أي لغة العقل) سائدة في تلك الأروقة، وأن تكون هي المنارة التي يجب الاسترشاد بها لتسيير دفة الحكم في البلاد.

وإذا نظرنا إلى عالمنا العربي فإننا نجد أنّ كثيراً من الدول كانت قد استبقت إلى طرح مثل هذا النقاش بخصوص أنظمتها، عندما اشترطت أن تكون الشريعة مصدراً أساسياً لدساتيرها، وكأنها بذلك وضعت لغتي العقل والشرع بجانب بعضهما بعضاً، دون إلغاء أو استثناء لأيٍّ منهما، وكأنها بهذا "الحل الوسطي" قصدت أن تجمع بين موقفين كان قد تمّ التعبير عنهما بشكل أو بآخر من خلال ذلك الحوار الذي كان قد انطلق في مطلع القرن الماضي بين الصحفي والكاتب فرح أنطون والعلامة محمد عبده، حاول خلاله فرح أنطون أن يدعو لتأسيس مجتمع جديد يقوم على العقلانية وحدها، تكون الأديان فيه خاصية أفرادها وتمارس بحرية، بينما تفرد العقلانية بأنظمتها وقوانينها التي لا تميز بين شخص وآخر هيمنتها على الساحة السياسية العامة، واستعان فرح في محاولته هذه بابن رشد، فاتخذ من فلسفته منبعاً إسلامياً لدعم أفكاره، وتصدّى حينها محمد عبده لهذه الدعوة مؤكداً على وجوب وأولوية الدين كركيزة لإقامة المجتمع الفاضل الذي يضمن تلك الحقوق والحريات التي يرمي فرح لتحقيقها من خلال تنحية الدين عن الدولة. وكان من الواضح في تلك المحاورات بين عبده وأنطون أنّ النموذج الذي رفعه الأخير كان ذلك النظام القائم في الغرب الذي كان فيه الفصل بين الدين والدولة قد أصبح قانوناً مقدّساً يتجاوب مع العصرنة والتقدّم العلمي والحريات الشخصية، وجميعها مظاهر كانت توحي بأنّ مرحلة الدين قد ولت في تاريخ البشر، وأننا على مشارف عصر جديد يتطلب من العالم الإسلامي تحديداً، وخاصة مع انهيار الدولة العثمانية، استحداث ركائز جديدة للنهوض به.

فكما أنّ محمد عبده رأى في محاولة تنحية الدين عن الدولة خطأ منهجياً في التأسيس لمجتمع فاضل، كذلك شارلز تيلور من موقعه في الغرب كان يؤكد دوماً على أنّ تجاهل دور الدين كمفصل أساسي من مفاصل المجتمع السياسي من شأنه أن يخلّ في هذا النظام، إن عاجلا أو آجلاً، لأنّ الفرد ليس عالماً منفصلاً ينطلق أساساً لتحقيق مصالحه الفردية، وإنما هو بدءاً جزء لا يتجزأ من وحدة مجتمعية أشمل، تحرّكها قيمها ومعتقداتها المشتركة، لا يمكن للدولة تجاهلها أو اعتبارها قضايا ثانوية تخصّ الأفراد بشكل أوليّ ولا دور أو حاجة لها لتصميم الحياة العامة، فجاءت الأحداث في العالم عموماً وفي الغرب خصوصاً لتؤكد أنّ الدولة وإن أرادت تجاهل الدين فالدين لن يترك الدولة بحالها، ممّا جعل هابرماس يبدأ بتغيير موقفه والقول بضرورة الالتفات إلى الدين والدور الذي يلعبه في التأثير على المجتمع، وبالتالي على الدولة نفسها.

ومن الملفت أننا قد نكون نشهد اليوم خللاً أو تحدياً في النموذجين: ذلك الموجود في الغرب الذي استبشر فيه أنطون خيراً، والذي يجد الآن نفسه أمام "شبح" اعتقد أنه تخلص منه نهائياً عندما اعتنق العلمانية، الذي يستوجب إيجاد صيغة جديدة للتعامل معه، وذلك الموجود في الدول العربية، والذي يتعرض موقفه التوفيقي الآن لحملة متنامية تدعو إلى تسليم أمور الدولة كليّاً إلى الشريعة (حتى بمعناها الرجعي والمتزمت)، فإذا ما أضفنا إلى ذلك ما سبق وتمّ التنويه إليه من تحدٍّ ديني للمؤسسة الصهيونية والمطالبة بجعل إسرائيل دولة يهودية بالشرع وليس بالتطبيق فقط، فإننا لا محالة نكون نقف إزاء أزمة قد تكون لديها خصائص دينية مشتركة لا توجد على سبيل المثال في دول لم تعتنق شعوبها يوماً إحدى هذه الأديان الساميّة الثلاثة.

ولكنّ الإشارة إلى هذه الأديان من هذا المنظار لا يعني أنّ سبباً واحداً هو وراء الأزمات المشار إليها، فلكل ظرف خصوصيته، ورغماً عن ذلك فإننا نلحظ اهتماماً متنامياً لدى المفكرين في الغرب لتناول هذه الأزمات في إطار نظري واحد هو إطار المواجهة بين العلمانية والتدين، قد يكون ناتجاً عن تنامي تمظهر الإسلام بأشكال عنفية وديموغرافية في أرجاء الفضاء الذي تتعامل معه الأنظمة الغربية، وعلى أية حال تبدو مسألة تحدي الدين للعلمانية اليوم وكأنها واحدة أينما نظرنا، فإن كان نموذج العلمانية اليوم يتشكك في إمكانية وكيفية الاستمرار في تسيير أمور الدولة بمعزل عن الدين فكذلك تتعالى الأصوات اليوم في العالم الإسلامي، وبخاصة العربي منه وأمام ما يعتبره كثيرون "فشل" التجربة التوفيقية، بالمطالبة بتتويج الشريعة في الحكم كسبيل وحيد لاستنهاض الأمّة العربية الإسلامية وتسيير دفتها بالاتجاه الأفضل.

وبالتأكيد فإنّ الإجابة عن هذه المسائل (أيّ المناهج أفضل؟ وبأيّ شكل أو تفصيل؟) ليست أمراً هيناً أو بادياً للعيان، ويحتاج الأمر للتروي والدراسة التطبيقية الجديّة، أي ليس فقط النظرية أو الإيديولوجية، وإنما العلمية أيضاً، بما يشمل ذلك دراسة خصائص المجتمع بكلّ تكويناته، وذلك لما لنتائج الحكم الأخير الخطيرة على حياة البشر من أثر، لكنّه من المفيد تذكير أنفسنا في هذا الموضع أنّ أيّاً من المدخلين (الديني والعلماني) يعتمد في دعوته إلى ما هو في خير أو مصلحة الإنسان، وليس الدين في ذلك أقلّ وضوحاً أو تشديداً من العلمانية، فكأنما يتفقان على ضرورة الدعوة إلى تحقيق تلك المصلحة، ولكنهما يختلفان في تحديد أيّ شيء هي.

2) أثرت سابقاً مسألتي حرية الرأي وحرية الضمير لتبيان الاختلاف بينهما، ثم ألصقت مفهوم حرية الضمير في مقاصد الشرع وحرية الرأي في مبادئ الدولة العلمانية، فكانت للأولى حسب وصفي لها قيمة أخلاقية بذاتها، وللثانية بمنفعتها، وقد تثير هذه التصنيفات أكثر من تساؤل يتوجب على الكاتب توضيحها وتوضيح الإجابات عنها، كما أنّ من الضروري أيضاً توضيح دور هاتين الحريّتين في المشكل المتعلق بما يمكن تسميته بالأزمة التي تواجه المجتمعات التي تسودها المعتقدات الدينية السامية التي أشرنا إلى الحاجة للتروي قبل إصدار الأحكام عليها وطرح الحلول لها. وأبدأ قائلاً إنّ حرية الرأي حالة ضرورية لإنضاج التوافق في المجتمع، فتصبح الآراء أكثر نضجاً من خلال مبادلتها بتعقل في أجواء منفتحة، كما تصبح أكثر انتشاراً وإجماعاً من خلال التشاور حولها، ولا يلزم أن تعني تلك المبادلة فيها ألا يكون مشروطاً العمل بها باعتبارات أخرى اجتماعية ومنهجية تؤدي إلى توفير المنفعة المرجوة منها، وبالتالي إلى وصفها خيراً وحقاً، وإلا فتكون خالية من قيمتها الأخلاقية، ومن هذه الاعتبارات مثلاً أخلاقيات وآداب المعاملات، وباعتقادي فإنّ توفير تلك المساحة في الإسلام لم يكن أمراً عرضياً أو استثنائياً، كما قد يظن حين الإشارة إلى المجالس المفتوحة التي انتشرت إبّان العصر العباسي، وخاصة في أيام المأمون قبل سنوات المحنة، بل هي ركيزة أساسية من ركائز الإسلام من خلال الدعوة إلى منهجية التشاور من أجل التوافق، فليست هذه الدعوة إلا لمبادلة الآراء في جو منفتح يتقبل أصلاً طرح وجهات النظر المختلفة، ولو كان الناس على دين أو رأي واحد لما كانت هناك حاجة للتشاور أو للتجادل بما هو أحسن بدءاً. فيتقبل الإسلام إذن الاختلافات بالرأي ويدعو للتوافق من خلال التشاور. ولا أجد أكثر تطبيقاً لهذه المنهجية من أجل التوصل إلى توافق في تاريخنا الإسلامي من العلوم الفقهية التي اجتهد أئمتها وعلماؤها لصياغة أسس العقيدة وفروضها وشروط استنباط الأحكام منها، وتبلور ذلك كله من خلال تبادل الآراء والاجتهادات عبر سنين طويلة حتى استقرّ الأمر على ما هو عليه الآن مع انفتاح الفقه نظرياً على الأقل للتحديث المستمر. والذي يمكن الخلوص إليه من هذه الملاحظات أنّه لا تعارض أصلاً بين الدين الإسلامي ومبدأ حرية الرأي، تماماً كما هو الحال في الأنظمة العلمانية، وإنما الذي اختلف هو ما شهدته المؤسسة الدينية الإسلامية في العصور الأخيرة في بعض الأقطار من تضييق الخناق على مساحة حرية الرأي وتقمص الدور السلطوي على المجتمع الإسلامي والأخذ بممارسة التلقين في الدعوة، كما لو أنّ البشر أطفال لا عقول لهم، وكأنّ الأطفال آلات حواسيب وليسوا بشراً، وذلك كله بدلاً من انتهاج سبل الحكمة والموعظة الحسنة ومبادلة الآراء بالاحترام المتبادل ودون إكراه أو ترهيب. وجدير بالذكر أنّ المؤسسة الدينية المسيحية إنما بدأت بالانهيار في العصور الوسطى عندما أصبحت سلطة إرهابية لا تسمح بتعدد الآراء حتى بين المؤمنين أنفسهم، وأنها بدأت تستمدّ روحاً جديدة في ظلّ أجواء حرية الرأي الممنوحة في الأنظمة العلمانية الحديثة، وعندما اختلفت منهجية الدعوة لديها فأصبحت تستميل وتجذب المجتمع إليها من خلال خطابها السلس والهادئ وأساليب الترغيب المختلفة التي تصلح للأجيال المختلفة باستعمال أحدث وسائل الاتصال المناسبة لكل منها، وأكثرها جذباً. ونستنتج من هذا كله أولاً أنّ الدين الإسلامي لا يحرّم حرية الرأي، بل يوجب وجودها من أجل رفعة شأن المجتمع الإسلامي ولتعارف الشعوب على بعضها بعضاً، وثانياً أنّ منهجية الترهيب والتسلط التي أخذت المؤسسة الدينية بالاتسام بها من شأنها أن تدفع بالناس إلى التمرد عليها، وفي أفضل الأحوال لتقمص الدين تقيّة وليس فهماً أو إيماناً بالشكل الذي يتوخّى منه الدين رفعة شأن المجتمع المسلم. ومن هنا يمكننا القول إنه مهما كانت الحلول للأزمة الكبرى التي أشرنا إليها فإنّ توفر حرية الرأي من الشروط الضرورية للتوصل أولاً لتلك الحلول، وثانياً لضمان استمرار نجاحها في توفير الحياة الفضلى.

لكنّ حرية الرأي وإن كانت ضرورية فهي ليست كافية، ذلك أنه يمكننا أن نتصور مجتمعاً تتوفر تلك الحرية فيه ويكون بعيداً كلّ البعد عن توفير الحياة الفضلى فيه إن كان ذلك في المجتمع الإسلامي نفسه أو لتلك الشعوب الأخرى التي يتعامل معها، وأعني بذلك تلك الحياة التي تليق بإنسانية الإنسان كمخلوق تتفاعل في وجدانه مشاعر الإخاء والمحبة والمساواة والعدالة، وهذه جميعها مكونات لطبيعته كالمكونات الأخرى مثل الأنانية والجشع والكراهية وغيرها، فلا تنفرد هذه بوجدان الإنسان ولا تلك، ومن هنا الحاجة إلى الاسترشاد بتلك القيم الأخلاقية التي توجد جذورها في الوجدان الإنساني، والتي من شأنها أن تضمن السير بالمجتمع إلى تلك الحياة المرجوة التي أتت الديانات لتساعد الإنسان على تحقيقها.

وتتضح بالتالي ضرورة ما يمكن وصفه بشكل عام بالوازع الأخلاقي أو الضمير الإنساني، وهو الأمر الذي لا دور مؤسساً له للمجتمع لدى المدرسة الليبرالية التي يمثلها هابرماس، ويجد بديلاً عنه في العقلانية، كما لدى جون رولز أيضاً، فهما يكتفيان بهذه لتوضيح كيفية أنسب السبل لتحقيق العدالة (وهي بالضرورة نسبية لديهم) في المجتمع. وهما باتخاذهما لهذا الموقف فكأنهما لا يودان اعتماد أمر مختلف عليه لديهما (الدور الطبيعي المؤسس للقيم الأخلاقية) بدلاً ممّا يريان فيه أمراً لا خلاف حوله، (نزعات الإنسان الأنانية)، ويعتقدان بأنّ أية نظرية واقعية للتأسيس لمجتمع تسوده العدالة على أفضل ما يكون تتطلب توضيحاً لكيفية تطبيق العقلانية (أي استعمال العقل للترجيح بين الخيارات) على النزاع بين طبيعة الإنسان الأنانية من جهة وحاجته للتوافق مع الآخر من جهة ثانية. ولكننا لسنا بحاجة من الناحية النظرية في واقع الأمر لاستخدام الأديان والقيم التي أتت بها لمواجهة أو دحض هذا المدخل الليبرالي/ العلماني للتأسيس للمجتمع الفاضل، بل يمكننا أصلاً رفض الموقف القائل باستفراد الأنانية في الطبيعة الإنسانية، والإشارة إلى أهمية تلك النزعات الأخرى أيضاً (كالمحبة والتعاطف وغيرها) في التكوين البشري، كما يمكننا بعد ذلك أن نعود إلى تبيين أهمية دور العقل أخذاً بعين الاعتبار الآن وجود هذين النوعين من النزعات الإنسانية الطبيعية (الأنانية والغيرية)، وذلك كله دون أن نتطرق للدين أساساً (أي بحيث نحيّد نزاعاً مفتعلاً حول هذا الموضوع بين العقلانية والعلمانية)، وهنالك من الأبحاث الحديثة في البنية الدماغية والغرائزية وفي علم النفس ما يعزّز القول بسذاجة الاعتماد على نوع واحد فقط من الغرائز الطبيعية، وهو ما يقودنا بالتالي إلى ضرورة وضع أسس المجتمع الفاضل على أرضية تأخذ بالحسبان تلك الازدواجية المتأصلة طبعاً في الإنسان، ولست هنا في معرض تبيين كيف يمكن فعل ذلك، وإنما أردت فقط التنويه لهذه المسألة كي لا يظن أنّ العقلانية (في هذا السياق) تصطدم ضرورة وبدءاً في الأديان، أو أنّها ملزمة اضطراراً لأن تعتمد الجانب الغريزي السلبي وحده في الإنسان.

لكن الإقرار بوجود تلك النزعة البشرية الأخرى يقودنا لتناول ذلك الأمر الآخر موضع النظر، وهو أهمية صوت وحريّة الضمير، وذلك لاستكمال المشهد المجتمعي الذي تلعب فيه حرية الرأي دوراً أساسياً، وكنت قد استشهدت سابقاً، ولو بشكل عابر، بسقراط في هذا السياق، وحريٌّ بنا بالتالي أن نبتدئ بمحاولة فهم مقصده، والإشارة هنا فقط لدفاع سقراط عن نفسه في محاكمته، كما أتى ذلك في كتابات أفلاطون (الأبولوجيا)، ويشير سقراط في محاكمته هذه إلى أمرين في نفسه أحدهما (الدايمون)، وهو ما جرت العادة بتسميته (الضمير)، وهو ذلك الوازع كما يصفه، والذي يستصرخه كلما شاهد نفسه أو وجدها أمام غبن ما يلحق بالمجتمع أو الأفراد من حوله، فالضمير هو منبّهه الأخلاقي الداخلي، ولا يدّعي أنه خاصية ينفرد بها عن بقية البشر، بل يتركنا للاعتقاد أنّ الضمير منطبع في الإنسان، سواء سمح الإنسان لنفسه أن يستمع إليه أم أبقى أذنيه منغلقتين عنه. أمّا الأمر الثاني الذي يذكره سقراط وهو حشرة (الميوبس) التي تلاحقه فيمكن فهمها إمّا بالإشارة إلى صوت الضمير في نفسه، وإمّا، وبشكل أكثر خصوصية، إلى حثه من قبل ضميره إلى اتخاذ موقف عملي كالتصريح عمّا في نفسه، أو كأن ينبري للدفاع عن هذا الموقف علناً بما يتضمن ذلك من مخاطرة على حياته أو وضعه. ويوضح سقراط أنّ هذين العنصرين هما اللذان دفعا به لرفع صوت الحق كلما شعر بضرورة ذلك ـ الأمر الذي أثار ضغينة وعداء معاصريه ـ وهما أيضاً اللذان يدفعان به، كما نكتشف ذلك، لتقبل تنفيذ الحكم عليه بشرب السمّ بدلاً من تلبية دعوة طلابه ومحبيه للهروب من السجن. والملفت هنا أنّه وإن كان يعتقد أنّ الحكم بشأنه كان جائراً فالهروب منه ومن النظام القضائي الذي أوجبه (وهو النظام الذي ترعرع في ظله ويرجع إليه الفضل في أمن مجتمعه) سوف يشكل طعناً في صميم عقيدته التي لا حياة ذات قيمة لها، والتي يوهب نفسه لها إن ارتطمت بمن أو بما يوجب إسكاتها أو كتم صوتها. وهنا أريد الإضافة بأنّ الدايمون كما يصفه سقراط ليس آمراً بل ناهياً، أي أنّه ليس مصدر توصيف للعدالة أو الخير أو ما شابه، يمكن من خلاله أن يستلهم الإنسان عقيدة أخلاقية كاملة (كما تفعل الأديان مثلاً)، وإنّما هو بمثابة وخز غريزي ينبه على الغبن والشرور حيثما وجدت، وشتان ما بين ادعاء امتلاك الحق ومعرفة العدالة من جهة، وبين الإحساس بالغبن أو الشر في واقعة أو غيرها (أي بين الكلي الإيجابي والجزئيات السلبية) من جهة أخرى، فسقراط لا يدّعي كونه نبياً أو رسولاً يمتلك الحق ويريد نشره بين الناس، وإنّما يدّعي امتلاك حسٍّ داخلي يشعره بوجود الغبن في حادثة يراها أمامه ويدفعه إلى النهي عنه، ومع أنّ ذلك بدون شك يلزمه بالأمر بالمعروف أيضاً كنقيض للمنكر الذي يصادفه، ولكن لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون لديه نظرية شاملة أو مكتملة بخصوص المعروف أو الخير، ولم يطرح أمراً كهذا (كما فعل أفلاطون مثلاً من بعده).

وإذا كان الأمر كذلك فقد نتساءل كيف نحلل رفضه للنجاة بنفسه، أي تعليله لهذا الرفض واعتباره مكروهاً؟ وكما يجيب عن ذلك فإنه يعلل ذلك بالإشارة إلى ضرورة الالتزام بقوانين الدولة التي ترعرع المجتمع في ظلها، وكيفما نظرنا لذلك فهي بالنسبة إليه إذن بمثابة عقيدة يؤمن بها، ورفضه للانصياع لحكم القانون يصبح بالنسبة إليه مثالاً تطبيقياً لما يوخزه ضميره على فعله، أي لدينا عقيدة من جهة ولدينا ضمير من جهة أخرى، وهما وإن كانا مختلفين فإنّ أحدهما يستتبع الآخر. وباعتقادي فإنه من الممكن القول بوجود وجه تقارب بين تجربة الإمام أبي حنيفة بمسألة خلق القرآن أو ابن حنبل بمسألة التمرد على السلطة، فكلاهما ارتأيا أنّ هذين المعتقدين بمثابة مبادئ إيمانية لهما مرتبطين بعقيدتهما، ولا معنى لإيمانهما بهما إن لم يتمسكا بهما، حتى وإن أدى ذلك إلى الإضرار بسلامتهما أو حياتهما، والإيمان بمعتقد كهذا ليس إطلاقاً كحمل وجهة نظر أو الاعتقاد برأي، فإننا نتصور حالات نقف أمامها ونخالفها برأينا ونؤثر عدم التعبير عن معارضتنا لها لأي سبب وجيه من الأسباب، ولكن يختلف الوضع عند التعرض لضمائرنا، حيث يوجب ذلك الوقوف للدفاع عن معتقدنا بشكل نشعر فيه إن لم نفعل ذلك فنكون كأننا خسرنا أنفسنا أو القيمة الحقيقية لوجودنا، وهذه الصفة هي التي تجعل من حريّة الضمير قيمة أخلاقية بذاتها. وهكذا أيضاً يجد سقراط نفسه، فإنه يجد أنّ ثباته على معتقده إنما يشكل جزءاً أساسياً من ذلك المعتقد، بحيث يؤكد لزملائه أنّه لا شأن له كإنسان يحمل هذا المعتقد إن هو لم يكن بحجم الوقوف له، حتى لو أدى ذلك إلى القضاء على حياته، ويقودنا هذا للقول إنّ صوت الضمير هنا، وبخلاف الرأي، إنما هو صوت أخلاقي، نستطيع أن نتفهم دوره في المجتمع ليس من باب فائدة الحوار والتشاور وإنما من باب شد انتباه المجتمع إلى تلك المبادئ والقيم الأخلاقية، (كيفما اتفق على تحديدها في ظرف معين)، التي يكون المجتمع من دونها فريسة للغرائز التي تغلب المصالح المادية على الروحية أو الأخلاقية، ويكون هكذا مجتمع في الحالة هذه حتى عند الليبراليين معرّضاً للتناحر بين أفراده وللتناقضات الداخلية طبقية كانت أم غير ذلك، والأمر كذلك أيضاً عند القائلين بوجوب الأديان والذين يستلهمون منها مبادئهم الروحية. فالمبادئ الأخلاقية (كيفما اتفق على تحديدها) تضمن عند تآلف الأفراد لتكوين المجتمع أن يكون هذا التآلف لمصلحتهم جميعاً، وليس لأفراد منهم على حساب الآخرين.

وما أود الخلوص إليه هو أننا كيفما أسسنا لنظرية ليبرالية ـ أكان ذلك باعتماد الغرائز الأنانية أولاً أم باعتماد غرائز الغيرية أولاً (كما أشرت إلى ذلك سابقاً، أو كما يفعل ابن خلدون مع غريزة العصبية مثلاً) ـ فإننا نجد أسباباً وجيهة للقول بعدم وجود تعارض أو تناقض بين فلسفة علمانية وأخرى دينية، وقد ينطبق قولنا هذا حتى على العلمانية المادية الصرفة كالماركسية، لأنّ للمعتقدات الأخلاقية فيها دوراً حيوياً أيضاً كجزء من بنية اجتماعية فوقية، ويتماثل فيها صوت الضمير هنا مع صوت الطبقة العمالية، إذ يتمّ تعميم صوت الضمير بحيث ينظر إليه كصوت الحق مهما كان عدد القائلين به، ونحن نجيز الحديث عن (ضمير الشعب) فلا مندوحة إذن من الحديث عن (ضمير الطبقة العمالية)، ولكن الأصل الذي لا يمكن بدونه أن يصبح صوت الضمير صوتاً عاماً والحديث عنه كذلك هو معناه كصوت للفرد، أي أن تتوفر مساحة حرية الضمير للفرد، فالضمير كما قلنا سابقاً يخصّ علاقة الفرد بوجدانه وبحسه الطبيعي بما هو حق للتعبير عنه، وبالضرورة يكون ذلك في وجه الفكر الجماعي أو الرسمي أو السلطوي، فلا معنى له إن تمّ كبته من باب مخالفته، حتى لما قد يدعى أنّه ضمير (الأمّة) أو ضمير (الطبقة العمالية)، اللتان طالما تستملكهما فئة "قيادية" تدّعي التحدث باسمهما، والاعتبار الأهم هنا ليس من يكون الحق بجانبه فعلاً، بل حرية الذي يؤمن بما يعتقده حقاً أن يعبّر عنه دون أن يتعرض للعقاب من الجماعة أو السلطة التي تدّعي امتلاك معرفة الحق والتحدث بصوته.

والتاريخ البشري مليء بأمثلة أفراد انتصبوا لقول الحق كما ارتأوه معرضين بذلك حياتهم أو مناصبهم ومواقعهم في المجتمع من حولهم للخطر، ونجد في العقود الأخيرة ذلك خاصة لدى المفكرين والأكاديميين الذين يرفضون تنحية أنفسهم عن قضايا يرونها تتناقض مع عقائدهم، فينبرون لرفع أصواتهم مستنكرين سياسة أو قراراً يرونه مجحفاً بحق الإنسان والإنسانية. وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال كان من أوائل من أطلق مثل هذه الصرخات في الخمسينات من القرن الماضي (مستشهدين في ذلك بما أسموه تحديداً بحرية ضمائرهم) أعضاء من يسمون بـ (الكويكرز)، وهي مجموعة مسيحية تؤمن بالسلام واللاعنف والمساواة بين أبناء البشر، وأتى ذلك في معرض نقدهم لممارسات الحكومة الأمريكية تجاه أقليات مغلوبة على أمرها في بلدهم، واشتهر كذلك في هذا المضمار أساتذة الجامعات مثل تشومسكي، وذلك في سياق الحرب في فيتنام، والفلسطيني إدوارد سعيد في سياق دعم الولايات المتحدة لما يتعرض له الفلسطينيون على أيدي إسرائيل، وكان إدوارد سعيد قد ألقى مجموعة محاضرات (محاضرات رايث الإذاعية) في بريطانيا تمّ نشرها فيما بعد (عام 1994) تحت عنوان (تصويرات المثقف)، استهلها بأفكار الفيلسوف جرامشي كنموذج، وأكد فيها على الدور الأخلاقي في الفضاء العام الذي يجب برأيه على المثقف الاضطلاع به، وهو الدور الذي يؤكد على إعلاء صوت الحق مهما كان الثمن.

ولكنّ صوت الضمير لا ينحصر في موقف المثقف أو في العالم السياسي فحسب، وإنما نجده في شتى مجالات الحياة عندما ينبري أحدهم للدفاع عن موقف يؤمن به ويجد نفسه في مواجهة غبن أخلاقي يقع على أحد أو على بعض من حوله، أو يجد نفسه ملزماً من ناحية مبادئه أن يعلي صوت الحق بغض النظر عن الثمن الذي قد يضطر لدفعه، ومن خاصيّة هذه المواقف أن تكون دفاعاً عن أحد غيره أو عن حق لغيره، وبمعنى أوسع عن حق إنساني يشمله لإنسانيته التي ينتمي إليها وليس لشخصه، وليس هذا للقول إنّه يفعل هذا وكأنّ الأمر لا يخصه، بل يخصه كما لو كان واقعاً عليه أو كما لو كان يطعن سكيناً في وجدانه الإنساني، وهذا الموقف الأخير هو الذي يجعله ينبري للدفاع عن حق له، فإنّه عندئذ لا يدافع عن مصلحة ضيقة تخصه فحسب، وإنما يدافع عن مبدأ يسري عليه وعلى غيره.

ويقودنا هذا كله للقول إنّ الضمير سابق للرأي من حيث فاعليته وأهميته في المجتمع الإنساني أو للقول ـ إذا ما عدنا للحوار بين تيلور وهابرماس ـ إنّ المرجع اللغوي في (الترجمة) ما بين لغتي الدين والعقل تكون أكثر أماناً وثقة للحياة الإنسانية إن كانت هي (لغة الدين) ـ إن عنينا بذلك لغة الضمير أو لغة تلك المشاعر الوجدانية التي تعتبر أنّ الإنسان ليس مجرد آلة مستقلة يحركها حاسوب دماغي، إذ تجد نفسها بين آلات أخرى فتعمل على تفعيل ذلك الحاسوب لتصميم ما هو الأنسب لحركتها بين تلك الآلات، وتجد هي وغيرها أنّ الحوار العقلي بينهم هو المنهج الأفضل لهم جميعاً لتجنب الاصطدامات وتسيير أمور كلّ منهم على أفضل ما يمكن أن يكون. وإن كان هذا النموذج تبسيطاً مبالغاً فيه للرأي الذي أسّس له الفيلسوف جون رولز في كتاباته المتعددة عن العدالة، فهو أيضاً ما يؤسس لموقف هابرماس الذي يرى أنّ العقلانية تؤسس للمجتمع إذا ما أتيحت المساحة الديموقراطية لحرية الرأي التي تتيح للإنسان التوصل مع غيره لتصميم علاقة تعايش يرضى بها الجميع. ومع أنّ هذا المنطق (الحاسوبي) يقود إلى حاجة الاعتراف بمساواة الإنسان (الآلة) مبدئياً مع غيره من نوعه، إلا أنّ منهجية التوصل إلى هذا الاعتراف الذي يصبح مبدأ من مبادئ العلمانية وكيفية تصميمه في التطبيق يختلف اختلافاً جذرياً عن نظرة لغة الدين/الضمير التي تنطلق بدءاً من الإيمان الوجداني بهذه المساواة، والتي ترى في الحوار العقلاني ومبادلة الآراء بحرية طبقة فوقية تتجذر في الإيمان الأساسي بمساواة الناس وبتلك المشاعر المرافقة لذلك الإيمان كمعتقد يضمن خط سير العقل، وإلا فإنّ الأخير يسير بلا (عقال) يقتفي دروباً ليس من المستحيل منطقياً وعملياً أن تقود إلى اعتناق مبادئ غير تلك التي تعتمد المساواة، إذ لا يمتنع أن تتوصل مجموعة من (العقلاء) تجد في نفسها مزيّة عن غيرها إلى القول بتسيير علاقات البشر وفق رؤاها، ونحن في الواقع نتلمس هذه المواقف ممّن يدّعون الديموقراطية والعلمانية، وليس أفضل مثالاً على ذلك في الآونة الأخيرة من موقف بلاد هابرماس نفسه من الأزمة المالية التي تعصف باليونان، بل إنّ مشكلة الليبرالية (بهذا المعنى) أصلاً تكمن تماماً في "عقلنة" الفروقات المعاشية الفاضحة بين الدول المختلفة، وحتى بين الفئات أو الطبقات في الدولة ذاتها.

وإذ سبق في مستهل حديثنا أن أوضحنا خلو (الحرية) من القيمة الأخلاقية خلافاً لـ (الضمير)، فإنّما عنينا بذلك أنّ الضمير بما يمثله من استنكار وجداني صادق لغبن في حق الإنسان واتخاذ موقف وجودي رافض له، هو المنبه الأساس لخلل في التوازن بين النزعات الأنانية والغيرية، وهو الذي يجب أن يسمح برفع صوته بحرية تحديداً، وبسبب مخالفته للمعتقد أو للمعتقدات السائدة وبالعادة أيضاً للسلطة أكانت هذه حكومة أم جمهوراً، وذلك لدقّ ناقوس الخطر كلما حادت السلطة الحاكمة أو الجمهور أو مسؤول ما عن الطريق القويم، ولحثّ الجمهور أو حتى لصدمه، لكي يضطر إلى مراجعة موقف اتخذه والتمرد عليه إن لزم إن كان موقفاً سلطوياً استكانت الناس له تقية أو عادة، وبخاصة عند تلك المنعطفات كلما طغت العقلانية المجردة من الحسّ الإنساني على غرائز الغيرية من جهة، أو طغت الغرائز الأنانية أو العواطف العمياء على التعقل من جهة أخرى، فيمكن اعتبار الضمير لهذا السبب ضامناً لتصحيح دفة سير المجتمع وأساساً وشرطاً لبناء المجتمع الفاضل.

وأختتم ملاحظاتي بالقول بعدم وجود حاجة لإقحام النقاشات الدائرة حول موضوعَي الدين والعلمانية في معرض تعريف الضرورة والمنفعة لحرية الرأي وصوت الضمير للمجتمع الإنساني، فمنفعتهما والحاجة إليهما قائمة أكانت الشريعة هي الأساس أو المبادئ العقلانية، وهما كغيرهما من القضايا الإنسانية البدهية مقياس لاستقامة الحكم أيّاً ما كان وصفه، وتوفرهما فيه أمر مفروغ منه، حتى إذا ما غابا يتغيب العدل عن الحكم، بغض النظر عن الصفة التي يتخذها لوصف نفسه.


* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد السابع، 2015، التي تصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.