الطّائفيّة بين السّياسة والدّين: قراءة في كتاب حسن بن موصى الصفار


فئة :  قراءات في كتب

الطّائفيّة بين السّياسة والدّين: قراءة في كتاب حسن بن موصى الصفار

 الطّائفيّة بين السّياسة والدّين*:

قراءة في كتاب حسن بن موصى الصفار


المشروع وإطاره:

صدر كتاب "الطّائفيّة بين السّياسة والدّين"[1] سنة 2009. وهو عبارة عن مجموعة من المقالات الصّحفيّة ألّفها الكاتب السّعوديّ المولد العراقيّ الانتماء حسن بن موسى الصفّار بداية القرن الحادي والعشرين، ونشرتها صحف عربيّة من البحرين ولبنان والكويت والمغرب أساساً.

من المفيد قبل مقاربة أطروحات الكتاب الرّئيسة أن نقف عند أهمّ مراحل مسيرة هذا الكاتب الشّيعيّ، ويفيدنا موقعه الإلكترونيّ الرّسميّ[2] أنّه من مواليد القطيف بالمنطقة الشّرقيّة من المملكة العربيّة السّعوديّة عام 1958. فرض عليه انتماؤه الشّيعيّ أن يتلقّى مبادئ المذهب من معالمها، فهاجر إلى النّجف للدراسة في الحوزة العلمية سنة 1391ﻫ ـ 1971م وبعد سنتين انتقل إلى الحوزة العلميّة في قم بإيران سنة 1393ﻫ ـ 1973م ثمّ التحق بمدرسة الرّسول في الكويت سنة 1394هـ لمدة ثلاث سنوات، وواصل دراساته العلميّة في طهران من سنة 1400ﻫ ـ 1980م إلى سنة 1408ﻫ ـ 1988م. قام بتدريس أغلب العلوم الدّينيّة كالفقه وأصوله والقرآن وتفسيره والخطابة والنّحو. تدور أغلب مؤلّفاته حول التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة، فقد صدر له "التّعدّدية والحريّة في الإسلام"، و"التّسامح وثقافة الاختلاف"، و"التّنوّع والتّعايش"، و"المذهب والوطن" و"السّلفيّون والشّيعة: نحو علاقة أفضل"...، ويمكن أن نستشفّ من عناوين هذه المؤلّفات الخيط الفكريّ الرّابط بينها، إذ تجتمع عند محور الطّائفيّة المعاصرة وتبحث في روافدها وسبل التّعامل معها. وهو الموضوع ذاته الذي تطرّق له في أغلب مقالاته المنشورة في الصّحافة المكتوبة أو في حواراته مع فضائيّات عربيّة ومشاركاته في البرامج الحواريّة أو الملتقيات الإقليميّة والدّوليّة. وهو عضو في الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين وفي الجمعيّة العالميّة للمجمع العالميّ للتّقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وشارك في مؤتمرات للحوار الوطنيّ في السّعوديّة. أسّس حراكاً اجتماعيّاً يهدف إلى تحقيق مفهوم المواطنة وتجاوز التّمييز الطّائفيّ والإقصاء الثّقافيّ والمذهبيّ، وقام بمبادرات لفتح قنوات الحوار بين السّلفيّين والشّيعة في المملكة العربيّة السّعوديّة.

بيد أنّ حوار حسن بن موسى الصفّار مع موقع إيلاف[3] يكشف أمرين مهمّين: أوّلهما أنّ نشأة الكاتب في السّعوديّة لم تمنعه من الانخراط في المعارضة العراقيّة، وثانيهما اعتراف الكاتب لمحاوره بصدور خطب تعبويّة لا تخلو من إساءة إلى بعض الخلفاء، وذلك في ثمانينات القرن العشرين خلال الحرب العراقيّة الإيرانيّة. ثمّ أعلن خارج وطنه عن تحوّله الفكريّ والسّياسيّ، وفي هذه الفترة عاد إلى الوطن بعد حوار مع الحكومة، وألّف سنة 1989 كتاب "التّعدّديّة والحريّة في الإسلام"، وتلته كتبه حول التّسامح المذهبيّ والتّعايش. معنى ذلك أنّ كتاب "الطّائفيّة بين السّياسة والدّين" قبل أن يكون ردّاً على "الآخر" هو بالأساس مكاشفة للرّأي العامّ العربيّ عن مراجعة الذّات. وهذا ما يجعل القارئ يتساءل إن كانت هذه المراجعة مبدئيّة أم مرحليّة ولم تؤجّل ظهورها إلى العلن إلى ما بعد سقوط نظام صدّام حسين، ويجعل مقاربة الصفّار لموضوع الطّوائف محكومة بانتمائه الشّيعيّ بالضّرورة: فكيف السّبيل إلى مقاربة علميّة محايدة وهي صادرة من عمق الاختلاف تنظر إلى الأشياء من الدّاخل لا من الخارج؟

ويعتبر الصفار مشروعه استئنافاً لحركات سابقة مثل حركة الصّحوة الإسلاميّة التي أعادت مبادئ إسلاميّة غيّبها واقع التّخلّف كمبدأ الدّعوة إلى وحدة الأمّة، بيد أنّ مفهوم الوحدة عنده يتأسّس على الاحترام المتبادل بين المذاهب لا إلغاء "التّمذهب"، يقول: "إنّ الأمّة اليوم على مفترق طرق...، فإمّا الاستمرار في خطّ المفاصلة والتّخندق المذهبيّ، وإمّا تدشين عصر جديد من الانفتاح والتّقارب"[4]. لكنّ أطروحة التّقريب فشلت بعد ستّين عاماً من بدايتها بعد إنشاء دار التّقريب في مصر وفتوى الشّيخ شلتوت بجواز التّعبّد بالمذهب الجعفريّ باعتباره مذهباً خامساً. يقتضي هذا الفشل تعمّقاً في أسبابه قصد تلافيها، فهل وعى حسن الصفار المزالق الحافّة بمقاربة المسألة الطّائفيّة؟ وهل تجاوزها في كتابه منتجاً خطاباً علميّاً جديداً؟

الكتاب ومراحله:

لا يتناسب التّعميم في عنوان الكتاب مع مضمونه، فالعنوان يوحي أنّ المعالجة شاملة لمختلف الطّوائف الدّينيّة والعرقيّة والقبليّة في المجال العربيّ الإسلاميّ، ولكنّها مقتصرة على الصّراع السنيّ الشّيعيّ في العراق. وقد أريد لهذه المعالجة أن تغوص ـ في مرحلة أولى ـ في الرّوافد الخارجيّة والعوامل الدّاخليّة السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المغذّية للطّائفيّة، وأن تبحث ـ في مرحلة ثانية- في سبل التّعامل مع الطّائفيّة، لا من أجل اجتثاثها من أصولها، وإنّما من أجل منع تحوّلها إلى فتنة مقترنة بالعنف والإرهاب وبالإقصاء السّياسيّ والتّمييز. ويمكن اعتبار فصول الكتاب الثّلاثة ترديداً لهذين المحورين، مع الالتفات إلى واجب العلماء داخل التيّارين الشّيعيّ والسنيّ والدّور السّياسيّ الذي تلعبه المملكة العربيّة السّعوديّة.

جاء الفصل الأوّل بعنوان "روافد الطّائفيّة وسبل الخلاص"، وقد كرّرت مباحثه أنّ الطّائفيّة إذ تغذّيها أطراف داخليّة وخارجيّة تلهي المجتمعات العربيّة عن قضاياها المصيريّة والحقيقيّة، لاسيما الهيمنة الأجنبيّة والتّخلّف الحضاريّ. وقد تفطّن الكاتب إلى أنّه "لا يصحّ أبداً تعليق مسؤوليّة خلافاتنا على مشجب العدو الخارجيّ، وتجاهل الأسباب والعوامل الدّاخليّة"[5]. إنّه لا ينفي بذلك "نظريّة المؤامرة"، ولكنّه لا يركن إليها ولا يقتصر عليها في تفسير الفتن الطّائفيّة التي تتغذّى من أربعة محاور داخليّة أساسيّة، وهي:

- الانسداد السّياسيّ: ويقصد به أنّ الدّخول إلى دائرة صنع القرار السّياسيّ محظور في العالم العربيّ مقصور على الفئات المحظوظة عرقيّاً أو قبليّاً، وهذا ما يُلجئ المعارضين للنّظام السّائد إلى استخدام العنف واستغلال "النّعرات" الطّائفيّة في عمليّة التّرويج السّياسيّ.

- سياسات التّمييز الطّائفيّ: تعتمدها الحكومات العربيّة القائمة وترفضها الأقليّات المحرومة كالشّيعة والأكراد، لأنّها تتعارض مع مفهوم المواطنة.

- ثقافة التّعبئة المذهبيّة والتّحريض على الكراهية والعداء.

- القطيعة الاجتماعيّة: وهي من تبعات انغلاق كلّ مذهب على ذاته ورفض التّواصل مع الآخر، وتنخر هذه القطيعة المجتمعَ من الدّاخل، لذلك من الواجب سدّ هذه الثّغرات بتطبيع العلاقات بين أبناء المجتمعات العربيّة.

لعلّ الفكرة المركزيّة التي أراد الكاتب إيصالها إلى المتلقّي العربيّ من خلال تكرار هذه المنافذ الأربعة التي تدخل منها الطّائفيّة إلى العقل والواقع العربيّين، أنّ الطّائفيّة غطاء لعوامل سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، يستغلّها الفاعلون المركزيّون والمعارضون السّياسيّون لتأطير الجماهير وجرّها إلى صفوفهم، لذلك وجدناه يردّد: "قد اتّضح للجميع أنّ ما يحصل في العراق ليس حرباً مذهبيّة، بل هو صراع سياسيّ تستخدم فيه الطّائفيّة"[6]. تبدو المعالجة بذلك آنيّة غير ملتفتة إلى الأصول التّراثيّة للصّراع المذهبيّ، تقصر مذكياته الجديدة على بعض وسائل الإعلام ومواقع النّت، مع استمرار بعض خطب المساجد في إذكاء روح الفتنة ونشر فتاوى التّكفير والتّشريع لقتل المخالف. وينقسم العلماء في هذا المستوى إلى مؤجّجي نار الفتنة وباثّي وعي الوحدة. لقد علّق حسن الصفار آمالاً كبيرة على "علماء الأمّة" في سبيل "إحياء التّضامن الإسلاميّ"، ونبّه إلى خطورة دورهم باعتبارهم زعامات كاريزميّة من شأنها التّأثير في الوعي الجمعيّ إيجاباً أو سلباً. وتميّز خطابه بقدر كبير من النّقد الذّاتيّ، ولم يعلّق المسؤوليّة في نشر ثقافة العداء على أهل السنّة وحدهم، وإنّما اعترف بوجود قيادات شيعيّة تنادي بالتّسامح والتّعايش في المؤتمرات العلنيّة، ثمّ تنقلب تكفيريّة بين جماهيرها. كما فنّد مزاعم بعض علماء السنّة الذين "يصرّون على إثارة القول بتحريف القرآن عند الشّيعة"[7]، مؤكّداً أنّ ما يُسمّى "مصحف فاطمة" ما هو إلا جمع لإملاءاتها في تفسير القرآن.

إنّ الواقع العراقيّ على درجة كبيرة من التّعقيد، إذ يعاني هذا البلد من مخلّفات الدّيكتاتوريّة ومن مطامع الاحتلال ومن فظاعة الإرهاب. فما هي سبل الخلاص؟

هناك ثلاث مسائل لا بدّ من معالجتها لتنطلق مسيرة الحوار والتّقارب: أولاها التّعرف المباشر على الآخر المذهبيّ وعدم الاعتماد على النّقول عنه، فالشّيعة مثلاً لا يقبلون حسب الكاتب كلّ المرويّات الواردة في مجاميع الأحاديث الشّيعيّة، ولا يعتبرون هذه المجاميع صحاحاً، وأوثقها عندهم كتاب "الكافي" الذي يحتوي 16199 حديثاً لم يصحّح منها علماء الحديث الشّيعة غير 5072 حديثاً[8]، وثانيها الاستعداد لقبول الاختلاف في الرّأي، إذ "يكفي الاتّفاق في أصول العقيدة وأركان الإسلام وفرائضه، أمّا التّفاصيل العقديّة والفروع الفقهيّة فميدان الاختلاف فيها واسع عند الأئمّة والمجتهدين، لا يُخرج من الملّة ولا يستوجب التّكفير ولا يبرّر القطيعة والعدوان"[9]، المسألة الثّالثة تتعلّق بمدى الجرأة في إعلان الرّأي واتّخاذ الموقف، فالواجب على العالِم "أن يرتقي بمستوى جمهوره لا أن يسفّ معهم، فهو الذي يقود الجمهور لا أن ينقاد إليه"[10].

يشيد الكاتب بدعاة التّقريب من التيّارين السنيّ والشّيعيّ، ويردّ على "إشكالات المتحفّظين" الذين يشكّكون في صدق أولئك الدّعاة وفي نجاح خطابهم، ويعبّرون عن القلق من التّنازلات التي يفرضها فعل التّقريب. لقد بيّن لهم أنّ هذا القلق لا مبرّر له، لأنّ المقصود بالوحدة كما بيّن "العلماء الوحدويّون" التّعايش السّلميّ بين أبناء الأمّة والاحترام المتبادل. فما ينبغي التّنازل عنه يتمثّل في الإساءة والعدوان وفتاوى التّكفير وخطاب التّحريض على الكراهية والإساءة للمقدّسات والرّموز، لا في أصول المذهب العقديّة والفقهيّة.

يركّز الكتاب على جهود العلماء في التّقريب، ولكنّ فاعليّتها تبقى معطّلة ما لم تتحقّق آليّات التّقارب الأربع؛ وهي تحقيق مفهوم المواطنة وتبنّي قضيّة حقوق الإنسان وإقرار التّعدّديّة السّياسيّة والفكريّة وتجريم التّحريض على الكراهية. يتكرّر تعداد هذه "الآليّات" في الفصل الأوّل من الكتاب، لكنّها ظلّت أقرب إلى الشّعارات منها إلى أن تكون آليّات إجرائيّة مضبوطة بدقّة ومقيسة بشكل يضمن نجاعتها.

وفي مقابل هذه الحلول التي يتبنّاها الدّاعية الشّيعيّ يرفض حلولاً أخرى يراها تعجيزيّة أو لا تاريخيّة، وأهمّها توحيد المسلمين تحت راية واحدة ومنع تعدّد المذاهب، لذلك يرفض معالجة الخلاف السنيّ الشّيعيّ وفق منهج قائم على مناقشة الطّرف الآخر في عقائده حتّى يتّفق الجميع على رأي واحد. يقود هذا المنهج في تقديره إلى المساجلات، فلا بدّ إذن من التّعايش بين أتباع المذاهب وبقاء أهل كلّ مذهب على ما اقتنعوا به، "فأهل السنّة موجودون والشّيعة موجودون والإباضية موجودون، ولم يستطع أيّ طرف أن يلغي الآخر، فلنتعامل مع الواقع القائم ولنركّز على الأصول والمصالح المشتركة"[11]. يبدو هذا الموقف منتظراً من باحث يكتب من داخل أحد المذهبين المتصارعين، فضغط القواعد يوجّه خطابه الذي لا يتطلّع إلى المنشود بقدر ما ينجذب إلى الموجود. ولكنّه يظلّ من جهة أخرى خطاباً واقعيّاً يرفض الحلول "السّحريّة" كالمناداة بنظام الخلافة أو الإمام الواحد أو الحلم بالتزام الأمّة جمعاء بمذهب واحد، إنّه يعتبرها "طروحات تعجيزيّة لا يمكن تحقيقها حسب معادلات الواقع"[12]، ويلتفت إلى التّجربة الأوروبيّة الحديثة التي حقّقت شكلاً من التّضامن لا ينسف استقلال الأقطار.

لقد جمعنا إلى الآن المحورين الأساسيّين اللّذين تنتظم في إطارهما مباحث الفصل الأوّل من الكتاب، وهي مباحث متناثرة في غير نظام يجمعها ولا تخضع لنسق واضح من ترتيب الأفكار، لأنّها في الأصل مقالات صحفيّة جمعت في كتاب، ومن هنا وجدنا الفصلين الثّاني والثّالث مكرّرين لما جاء في الفصل الأوّل بمضامينه وأحياناً غير قليلة بعباراته.

ورد الفصل الثّاني بعنوان "مقاربات صريحة" لسؤال بدا مركزيّاً في كامل مشروع الكاتب الذي لا ينفكّ يتساءل: "لماذا يتعايش النّاس في العالم المتقدّم كأوروبا، مع تنوّعهم العرقيّ والقوميّ والدّينيّ والمذهبيّ...، بينما تعجز عندنا مجتمعات يجمعها دين واحد عن الاتّحاد والاتّفاق"[13]؟ ومرّ الجواب أساساً عبر التّذكير بتوصيات مؤتمر الوحدة الإسلاميّة بطهران المنعقد في أفريل 2005 والمؤتمر الدّوليّ العشرين للوحدة الإسلاميّة الملتئم في أفريل 2007، والتّنبيه إلى ضرورة الانتقال إلى البرامج العمليّة والخطوات التّنفيذيّة لتفعيل مكاسب مثل هذه المؤتمرات واللّقاءات وتطبيق توصياتها. ويقترح الكاتب التّوجّه إلى الحكومات الإسلاميّة والمرجعيّات الدّينيّة لتأخذ موقفاً أكثر صراحة وعلنيّة تجاه قضيّة الوحدة والتّقريب بين المذاهب. ويقترح على المجمع العالميّ للتّقريب بين المذاهب الإسلاميّة إيجاد جهة ما تراقب على الصّعيد العالميّ مشاكل الإثارات الطّائفيّة المذهبيّة. يبدو المقترح الأوّل غريباً، لأنّه ينتظر الحلّ من جهات سبق أن أكّد الكاتب نفسه أنّها المسؤولة عن إشاعة نار الفتنة في المجتمعات العربيّة، أمّا المقترح الثّاني فلا يتوفّر على الطّابع الإجرائيّ الذي ينادي به الكاتب، فكيف السّبيل مثلاً إلى منع المذابح التي يتعرّض لها مسلمو بورما؟ وهل هناك جهة فاعلة قادرة على "مراقبة الإثارات الطّائفيّة"؟ وهل تملك سلطة تنفيذيّة أم تكتفي بالمراقبة؟

أمّا الفصل الثّالث فهو "حوارات" أجراها الباحث الشّيعيّ مع بعض الصّحف والمجلاّت على غرار جريدة الوسط وموقع إيلاف ومجلّة منتدى الحوار. ولعلّ أهمّ ما جاء في أجوبته تشبّثه بضرورة المذاهب، إذ لا مجال لإسلام بلا مذاهب، فهي "مناهج ومدارس لفهم الإسلام"[14]. يبدو هذا التّقرير المكرّر واقعاً تحت وطأة أنصار المذهب الشّيعيّ الرّافضين التّخلّي عن هويّتهم العقديّة وخصوصيّتهم المذهبيّة. ولكنّ الكاتب لا يمنع في المقابل ما يمكن تسميته "التّحوّل المذهبيّ" بمعنى تشيّع السنيّ وانتماء الشّيعيّ إلى أهل السنّة، يقول في وضوح: "لا أشعر بحساسيّة كبيرة في موضوع التّمذهب بأيّ مذهب إسلاميّ يقتنع به الإنسان المسلم، فتحوّل الشّيعيّ إلى مذهب السنّة أو السنّيّ إلى مذهب الشّيعة ليس جرماً"[15].

غير أنّ ما ظلّ في حاجة إلى توضيح هو تذبذب الكاتب وارتباكه كلّما تعلّق السّؤال بشيعة المملكة العربيّة السّعوديّة وبسياسة هذه الدّولة تجاه غير السنّة. لقد كرّر في فصول كتابه مسؤوليّة رجال السّياسة في تأجيج الطّائفيّة، ولكنّه أشاد لمحاوره من جريدة الوسط بجهود ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز لأنّه عقد مؤتمراً للحوار الفكريّ بين التّوجّهات المتنوّعة في المملكة، وذلك سنة 2003، ونوّه بموافقة "خادم الحرمين الشّريفين" الملك فهد بن عبد العزيز على تأسيس مركز دائم للحوار الوطنيّ منذ 2005. لكنّ الكاتب نفسه يعترف لموقع إيلاف بحرمان شيعة السّعوديّة من اعتلاء أيّ منصب سياسيّ أو أمنيّ. إنّ قضيّة العدالة المفقودة بين الطّوائف في السّعوديّة جعلت الكاتب يقع في حرج، وجعلت خطابه مهزوزاً فاقداً للانسجام الضّروريّ لإقناع الرّأي العامّ الإسلاميّ بجديّة أطروحاته ونجاعتها وجرأتها.

الطّائفيّة: الرّؤية والمنهج:

أقام حسن بن موسى الصفّار دراسته على التّمييز بين التّديّن والطّائفيّة؛ فالأوّل التزام بقيم الدّين وأحكامه والثّانية انحياز غير موضوعيّ لطائفة والحيف على حقوق الطّوائف الأخرى. فهو إذن يقيم حدّاً فاصلاً بين الانتماء المشروع إلى أحد المذاهب وتبنّي أصوله وعقائده، والطّائفيّة بما هي انغلاق على المذهب الدّينيّ أو العرقيّ أو القبليّ ورفض الآخر، وربّما الدّخول في صراع معه يتّخذ غالباً أشكالاً عنيفة دمويّة. ويندرج الكتاب إذن ـ كما بيّن صاحبه منذ المقدّمة- في إطار تحمّل المثقّف واجبه في محاربة الطّائفيّة، ولكن بمنطلقات إسلاميّة خالصة تقصي الآخر غير المسلم. وبذلك يتحوّل الكتاب نفسه إلى خانة "المذكيات لنار الطّائفيّة" بسكوته عن المسيحيّين واليهود من العرب، وهم مواطنون ضمن المجتمعات التي يتحدّث عنها الكتاب، فلا وجاهة لإقصائهم.

وإذا ربطنا مضامين الكتاب بعنوانه ألفينا أنّ المقصود وجود خلل عميق منع تعايش المذاهب في المجال الإسلاميّ، ويتمثّل هذا الخلل في فقدان النّظام السّياسيّ العادل والصّالح وفي وجود ثقافة التّحريض على الكراهية. ومن هنا فإنّ معالجة مشكلة الطّائفيّة تقتضي أمرين رئيسيّين: أوّلهما الإصلاح السّياسيّ الذي يجعل نظام الحكم ملزماً بالمساواة والعدل بين الجميع، وثانيهما اهتمام المرجعيّات الدّينيّة بأولويّة قضيّة الوحدة. على أنّ مفهوم الوحدة في مشروع الكاتب التّعايش لا التّماثل أو الاتّفاق في التّفاصيل العقديّة والفروع الفقهيّة. ولكن هل يحتاج الاختلاف ليكون مشروع مذاهب؟ ألم تكن المذاهب في الإسلام سياجاً يؤطّر الاختلاف ويمنعه؟ يبدو إصرار الكاتب على معالجة قضيّة الطّائفيّة في صيغتها المعاصرة وقطعها عن جذورها في التّاريخ فعلاً غير مبرّر، لقد شعر بحرج وهو الشّيعيّ من احتواء كتب التّراث الشّيعيّ على سبّ الصّحابة ومن وجود قبر أبي لؤلؤة المجوسي قاتل الخليفة الثّاني في إيران...، فأراد أن يتناول المسألة معزولة عن سياقها التّاريخيّ والسّياسيّ والقبليّ الذي ظهرت فيه وتفاقمت، فكانت نظرته للمسألة سطحيّة بلا عمق، اكتفت بترديد شعارات الوحدة التي تحلم بها أجيال المسلمين منذ زمن. لقد صيغت أطروحات الكتاب المكرّرة في غنائيّة وجدانيّة مألوفة في إطار الثّقافة الشّعبيّة، ولم تصدر عن دراسات سوسيولوجيّة أو توظّف العلوم السّياسيّة ونتائج التّحليل النّفسيّ الاجتماعيّ، ولم تقدّم دراسة علميّة إحصائيّة دقيقة. نلفي هذه اللّغة الإنشائيّة في مواضع عديدة من الكتاب، على غرار المبحث الذي جعل له الكاتب عنواناً دالّاً على منهجه، وهو "حمى الله العراق"، يقول في مطلعه: "أيّها العراقيّون الشّرفاء: أعانكم الله تعالى على ما تواجهون من أشدّ أنواع المحن والابتلاءات..."[16]، وبذلك يكون الخطاب في هذا الكتاب أقرب إلى أدب الوعظ منه إلى الفكر.


* نشرت هذه القراءة في: "الطائفية"، إشراف وتنسيق بسام الجمل وأنس الطريقي، سلسلة ملفات بحثية، قسم الدراسات الدينية، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[1]ـ اعتمدنا الطّبعة الأولى الصّادرة عن المركز الثّقافيّ المغربيّ بالمغرب/ الدّار البيضاء، وبيروت/ لبنان. 2009

[2]- www.saffar.org

[3]ـ راجع الطّائفيّة بين السّياسة والدّين. الفصل الثّالث. ص ص 145- 152. والموقع الإلكترونيّ http://www.elaph.com

[4]ـ حسن بن موسى الصفار. الطّائفيّة بين السّياسة والدّين. ص 23

[5]ـ نفسه، ص 11

[6]ـ نفسه. ص 75

[7]ـ نفسه. ص 79

[8]ـ نفسه. ص 79

[9]ـ نفسه، ص 81

[10]ـ نفسه، ص 81

[11]ـ نفسه، ص 81

[12]ـ نفسه، ص 114

[13]ـ نفسه، ص 124

[14]ـ نفسه، ص 184

[15]ـ نفسه، ص 180

[16]ـ نفسه، ص 101