حوار مع سمية سعيد خالد: التمييز ضد الأفراد ينتج مناخات مساعدة على التطرف والقسوة والجريمة


فئة :  حوارات

حوار مع سمية سعيد خالد:  التمييز ضد الأفراد ينتج مناخات مساعدة على التطرف والقسوة والجريمة

حوار مع سمية سعيد خالد:

التمييز ضد الأفراد ينتج مناخات مساعدة على التطرف والقسوة والجريمة

تشكو معظم مجتمعات المنطقة من ارتفاع معدلات الجريمة، وهو ما يربطه أكاديميون بالفوضى السياسية والانهيار القيمي والتدهور الأمني، وظروف الضائقة الاقتصادية وإخفاق مؤسسات الدولة في أداء دورها الاجتماعي الذي تكتسب الشرعية على أساسه. وهناك من يعود إلى جذور الأزمة، فيثير قضايا التنشئة الاجتماعية والموروث الثقافي والتبلور التاريخي للمجتمعات مسلطاً الضوء عليها في تحليل الدلالات العميقة لمشهد العنف السائد بأنماطه الاجتماعية والجنائية والسياسية التي نراها اليوم في مجتمعاتنا.

فما الدور الذي تؤديه الثقافة المجتمعية والممارسات السلطوية والأزمات والتحولات الراهنة في إشاعة ثقافة العنف والتطرف النفسي والسلوكي في المجتمع، وإلى أي مدى يؤثر ذلك في زيادة اللجوء إلى السلوك الانحرافي وارتكاب الجرائم بين السكان؟

سؤال طُرح على الخبيرة الاجتماعية سمية سعيد خالد، أستاذة علم الاجتماع في جامعة دهوك بإقليم كردستان العراق، فأكدت وجود "علاقة طردية بين معدل الجريمة كمظهر للتفكك الاجتماعي وبين الأزمات المجتمعية بأشكالها؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتزداد الجرائم كلما تفاقمت أزمات المجتمع وازدادت حدتها، وتقل الجريمة ويتراجع معدلها كلما خفّت الأزمات وقلّت شدتها".

كما أشارت الأكاديمية سعيد إلى "أثر هيمنة الثقافة القبلية والمناطقية التي تسلب الفرد ولاءه للدولة والمجتمع لصالح الولاء للعشيرة والانتماء القرابي، ما يتسبب في التفسخ الاجتماعي الذي يهيئ بيئة مساعدة على الانحرافات والجنح والجرائم بأشكالها".

الكراهية والجريمة

وتوضح الباحثة أن "النزاعات السياسية والتوترات الطائفية تلقي بظلالها الكئيبة على أوضاع التنمية البشرية والمجتمعية، وتعرقل النشاط الاقتصادي والحيوية الاجتماعية؛ فالانشغال بالصراع السياسي يجعل الحكومات تهمل السياسات التنموية، وتفشل في إشباع الحاجات الإنسانية والأساسية للمواطنين، ما يحول دون حصول الأفراد على حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية في إطار من العدالة الاجتماعية، ويخلق حالة من الغضب الاجتماعي الذي قد يدفع لسلوكيات إجرامية مضادة للأمن الاجتماعي وسلامة الأرواح والممتلكات".

وتلفت سعيد إلى "إضرار التطاحن السياسي والحزبي بالأداء المؤسسي للدولة وعقلانية توجهاتها وتشريعاتها، فيعيق التوزيع العادل للثروة والتقاسم المنصف للموارد والفرص، ما يفضي إلى النقمة الشعبية وتقويض الثقة بين الفرد والمؤسسات الحكومية"، وتبيّن أن "ظاهرة انعدام الثقة والقطيعة بين المجتمع والدولة تشجّع على التمرد على القانون وارتكاب الجرائم".

جرائم الياقات البيضاء

وتعترض ضيفتنا على ربط الجرائم بالطبقات الفقيرة والمهمشة فقط دون غيرها، وتفيد بأن الفساد السياسي الناتج عن احتدام الصراعات السياسية والحزبية المزمنة يؤثر سلباً على أداء المؤسسات لوظائفها ومسؤولياتها تجاه المجتمع، ويوفر الظرف الموضوعي للجرائم المنظمة وغير التقليدية التي نسميها أحياناً "جرائم ذوي الياقات البيضاء"؛ وتشمل جرائم الفساد الإداري والمالي التي يتم ارتكابها من الطبقات الوسطى والعليا في المجتمع كالموظفين وأصحاب الأعمال"، وهي جرائم تعكس التدهور القيمي والأخلاقي الذي يشمل المتعلمين وذوي المكانة الاجتماعية، وتؤشر أهمية الضبط الاجتماعي، وخضوع الجميع من دون تمييز للقانون، في الحد من الجريمة.

التمييز والجريمة

وتحذّر الخبيرة الاجتماعية من ممارسة الحكومات للتمييز بأشكاله ضد مواطنيها، سواء كان على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو الإثنية أو الطبقة أو المنطقة أو الجنس أو الهوية الثقافية أو الرأي السياسي، وتشدد على أن "انعدام تكافؤ الفرص في المجتمع واللامساواة وغياب العدالة يؤدي إلى شيوع مشاعر سلبية ومتطرفة وعدوانية وتوترات مجتمعية، ما يفرز مناخاً من الكراهية بين الشرائح الاجتماعية، ومن المجتمع تجاه الدولة، كرد فعل على سياسات الدولة التمييزية والقاسية تجاه المجتمع".

وترى سعيد، المتخصصة في علم اجتماع الجريمة، أن "مكافحة الجريمة أمر صعب للغاية في بيئة مساعدة على الإجرام؛ ففي جرائم الفساد مثلاً قد تتورط جهات في المؤسسة القضائية نفسها في التواطؤ مع الفاسدين وتسهيل إفلاتهم من العقوبة".

وتدعو إلى "مكافحة الجريمة عبر استراتيجية شاملة ومتعددة المسارات لتبديد الفضاء الاجتماعي والثقافي الداعم للانحراف السلوكي لدى الأفراد".

الطائفية والجريمة

وتعرّف الجريمة علمياً بأنها انحراف عن المعايير الجمعية، فإذا تشوّهت هذه المعايير؛ فإنها تتسبب في تشوّهات سلوكية وانحرافات وجرائم. وتوضح الباحثة أن "التناحر السياسي والعقائدي يفضي لانهيار المنظومة القيمية وسقوط الإجماع الأخلاقي واختلال البنية المجتمعية المعنوية؛ فالجريمة هنا تصبح موقفاً سياسياً وأداة في الصراع نتيجة التهميش والإقصاء الاجتماعي والسماح بانقسام السكان في غيتوهات ومنعزلات ثقافية واجتماعية متنابذة ومعزولة عن بعضها، في مناخات مشحونة بالكراهية والتعصب والتوحش"، وهو ما يسهم، بحسب الباحثة، في "تقويض المواطنة الفاعلة؛ لأن الأفراد إذا لم ينشغلوا بمشروع تنموي حقيقي واندماجي يستثمر طاقاتهم إيجابياً، فإنهم ينجرفون إلى الانحراف، فهدر رأس المال البشري يتسبب في استفحال الجريمة".

وتقول سعيد إن "ضعف سيادة القانون في المجتمع، نتيجة تصاعد النزعات الطائفية والمناطقية والعشائرية، على حساب مفهوم المواطنة والمساواة أمام القانون وسلطة الدولة والقضاء، لا يتسبب فقط في انتشار الجريمة وضعف المناعة المجتمعية ضد الانحرافات الجنائية، بل يؤدي أيضاً لتعقيد عملية معالجة الجريمة وصعوبة تطبيق القانون على الجناة" كما تلفت إلى أن "الفساد يتسبب في التمييز في إنفاذ القانون وعدم محاسبة المجرمين".

العدالة الاجتماعية والجريمة

إن ارتفاع معدلات الجريمة كالسرقة والقتل والرشوة والمخدرات قد يعبّر في جانب منه، تتابع الباحثة، عن "تمرد على سياسات الحكومة التي يرى المجتمع أنها تستهدفه، ولذلك على صناع القرار إدراك أن مكافحة الجريمة تحتاج إلى ما هو أكثر من القبضة الأمنية والسجون، أي إلى مراجعة جوهرية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية".

وفي هذا السياق، تستطرد أستاذة علم الاجتماع، فإن "غياب العدالة الاجتماعية سيؤدي إلى انتقام الأفراد من المجتمع والدولة، وهو ما يتجلى في ارتفاع وتيرة الجريمة داخل المجتمع، وهذه الظاهرة تحصل نماذج لها بعد سقوط الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، حيث يعمد مواطنون إلى الفوضى والتخريب وتدمير مؤسسات الدولة التي هي أملاك عامة في مظهر من مظاهر الثأر، لأنهم يعتبرونها رمزاً للنظام السلطوي".

وتوضح أن "السياسات الحكومية غير الرشيدة تتحرك ضد المجتمع، فعندما يتم هدر المال العام وإنفاقه على مشاريع شكلية أو غير مفيدة اجتماعياً، وعلى حساب الفئات الأكثر ضعفاً وهشاشة، فهذا يمهّد لحالة من النقمة والغضب الشعبي الذي يشحن المجتمع باتجاه العنف، ويحفّز الاتجاهات العنفية في المجتمع فيتورط الأفراد في ارتكاب الجرائم والانحرافات".

جرائم النوع الاجتماعي

وتقول سعيد، الباحثة في الجريمة النسوية وجرائم النوع الاجتماعي، إن "عجز الدولة عن كبح جماح التمييز بأشكاله ضد الأفراد، ومحاكاتها للثقافة الإقصائية السائدة تجاه شرائح معينة أو ضد المرأة، يؤديان لتغذية وتنشيط الأعراف الاجتماعية القبلية والثقافة التقليدية الذكورية، وهي أقوى من القوانين الرسمية وبمثابة دستور غير مكتوب وموازٍ لدستور البلاد".

وهذا بدوره، تتابع سعيد، يؤدي إلى "تخليق أجواء تمييزية وقسرية وظالمة تدفع النساء لارتكاب الجرائم كرد فعل على التنكيل بهن، كما أنهن يتعرضن من الذكور لما يسمى بجرائم الشرف أو غسل العار".

الفقر والجريمة

وتوضح الباحثة أن "الفكرة التي كانت سائدة في العصور الوسطى هي أن الفرد يتحمل مسؤولية فقره ومسؤولية تحوله إلى مجرم لأنه ولد كذلك بالفطرة، في تجاهل تام للأوضاع الاجتماعية التي تدفع إلى ارتكاب الجريمة"، وتضيف أن "حتى المعاق كان يُنظر إلى عوقه كجريمة وعقوبة إلهية"؛ ولكن بعد صدور قانون الفقر الإنجليزي في القرن التاسع عشر، تتابع سعيد، "صار يُنظر إلى الفرد باعتباره يتحمل جزءاً من المسؤولية عن الجريمة، فيما يتحمل المجتمع المسؤولية الأكبر"، وتعلّل ذلك بأن المجتمع "لم يخلق البيئة المستجيبة لحاجات الفرد، ولم يوفر السياسات التي تنشئ فرداً سليماً من الناحية النفسية والعقلية والسلوكية أو تشبع حاجاته ما جعله يتورط في الإجرام" مؤكدةً أن "الوزر الأعظم في انتشار الجريمة يتحمله المجتمع".

وتقول سعيد إن "بين الفقر والجريمة علاقة طردية؛ فكلما ازداد الفقر استشرت الجريمة، لأنه ظاهرة تتشعب منها ظواهر مضرة بالنسيج الاجتماعي كالطلاق والتفكك الأسري وعمالة الأطفال والتسرب المدرسي والإدمان والعنف" لافتةً إلى "تفريخ الفقر للعشوائيات وبؤر التهميش والانسحاق الاجتماعي التي تتحول لبيئة مولّدة للجرائم"، وتضيف بأن تسبب الفقر في الانفلات السلوكي والانتقام الاجتماعي والمناخات الفاسدة المضادة للحضارة يؤول لاحقاً إلى "العنف السياسي والإرهاب الذي هو رسالة سياسية احتجاجاً على التهميش السياسي والاقتصادي؛ فالكثير من المنتمين لداعش أو الميليشيات أو العصابات مثلاً ليسوا مقتنعين بأفكارها لكنهم يرتكبون الجرائم تحت عنوانها لأسباب اقتصادية ونقمة اجتماعية".

وتحذّر الخبيرة من متوالية جهنمية يديرها الفقر في المجتمع؛ إذ يؤدي للأمية ومن ثم للبطالة، لأن الفقراء لا يمتلكون المهارات اللازمة لسوق العمل، والبطالة وما يترتب عليها من فراغ وفقر وعزلة وإحباط وخواء هي المساحة الهشة في حياة الفرد والمجتمع التي ينفذ منها السلوك الإجرامي".

الجريمة ودور الدولة

وتشير ضيفتنا إلى "علاقة عكسية بين معدل الجريمة وكفاءة الدولة؛ فعندما تحقق الدولة معدلات أداء وإنجاز عالية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والمشاركة السياسية والتنمية المستدامة، وتؤدي وظائفها بنجاح وتحترم حقوق الإنسان وتضمن الأمن والاستقرار الاجتماعي والنفسي للمجتمع؛ فإن الفرد ينشأ سليماً من ناحية الصحة النفسية والتوافق الاجتماعي والكفاءة السلوكية، فتسجل نسب الجريمة انخفاضاً ملحوظاً في المجتمع"، وتؤكد أن "العكس يحصل عندما يتدهور أداء الدولة فتخفق في بناء استراتيجيات التنمية المستدامة وتخصيص الموارد والثروات المتاحة في المجتمع بعدالة لإشباع حاجات الفرد الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية، ما يؤدي لانحرافه إلى أشكال الجرائم والارتكابات المضادة للمجتمع وتزداد معدلات الجريمة".

وأضافت سمية سعيد أن "النظام السياسي قد يكون مسؤولاً عن استشراء الجريمة في المجتمع نتيجة تورطه في إثارة النعرات الطائفية وتكريسه الصراعات الحزبية والأيديولوجية والجهوية والفئوية في المشهد السياسي والاجتماعي، وإخفاقه في ترشيد الصراع الاجتماعي باتجاه عقلاني وسلمي يجفف منابع العنف المادي واللفظي والمعنوي".

وأيضاً تلفت إلى "أثر تسييس الأجهزة الأمنية والقضائية في ضعف مواجهة الجريمة، كما أن أصحاب الياقات البيضاء من مجرمي النخب السياسية والاقتصادية يعمدون إلى رعاية الانقسامات والشروخ الاجتماعية لإضعاف المساءلة المجتمعية لسلطاتهم وبالتالي المحافظة على مصالحهم".

وتقول الباحثة إن "محاسبة الفرد على الجريمة ينبغي أن يوازيها محاسبة الدولة على عدم فعل ما من شأنه الحد من الجريمة على صعيد التعليم والإعلام والتنشئة المجتمعية، والمشاركة المدنية وتعزيز الاندماج الاجتماعي، ومعالجة التشوهات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع وتفرّخ العنف والجريمة".

الفجوة الاجتماعية

وترى ضيفتنا أن "الجو المشحون بالعداء لحقوق الإنسان والحريات بطبيعته يساعد على الاحتقان الاجتماعي واستيلاد الجرائم بأنواعها"، وتؤشر على ما تسميه "الفجوة الاجتماعية" فتقول إن "اتساع الفجوة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الشعورية بين السكان يؤدي إلى هشاشة مجتمعية وخواء ثقافي يدفعان باتجاه ارتكاب الجرائم، فالجريمة وليدة جو عام يساعد عليها وبيئة مؤاتية وأرضية خصبة تدعماها".

وتقول إن هذه الفجوة تشكّل "منطقة رخوة تتسلل منها أيديولوجيا الكراهية وحركات التطرف داخل المجتمعات، فتزيد الاحتقان الذي يساعد ولو بطريقة غير مباشرة على العنف بأشكاله، والعنف هو ثقافة داعمة للجريمة والانحراف السلوكي".

وتعتقد الخبيرة الاجتماعية أن "السياسات التمييزية وغير العادلة للحكومات تجاه المجتمع سياسياً واقتصادياً تلتقي مع خطاب الكراهية والتطرف الذي تتبناه قوى التعصب الديني، وكلاهما يضر بالسلم الأهلي والاندماج الاجتماعي بطريقة صارخة ويفرز فضاءات محرضة على العدوانية السلوكية والجريمة".

التحريض الثقافي

وتلفت سعيد، وهي أيضاً ناشطة في مجال المجتمع المدني، إلى ما تعتبره تحريضاً ثقافياً عميقاً وغير مباشر على الجريمة، فتؤشر على "فضاءات الضغينة الاجتماعية القائمة على أسس عقائدية وعرقية، والتي تؤدي إلى تفكك اجتماعي راسخ في الثقافة الاجتماعية ومنعكس في السلوك السياسي، إذ ينساب ويتجلى في سلوكيات أفراد متنفذين في صناعة القرار في مؤسسات الدولة، وموظفين أدنى منهم أيضاً يمارسون التمييز في سياساتهم، فيتحول التمييز العنصري والعدوانية ضد شرائح اجتماعية أو ضد المجتمع ككل إلى نوع من السياسة الرسمية التي تتفاقم وتترسخ باستمرار"، وتعزو هذه الظاهرة إلى "التشوّه الثقافي وعدم وجود قوانين مضادة لهكذا نمط من التمييز المؤسسي المستند إلى موروث اجتماعي".

مناخ بديل

وتؤكد الباحثة أن مكافحة الجريمة لا تتم بتغليظ العقوبات أو تشديد الإجراءات الأمنية الخشنة والبوليسية أو عسكرة المجتمع؛ ولكن عبر "وعي أزمات المجتمع بمقاربات إنسانية وأخلاقية واعتماد آليات عقلانية في معالجتها"، وفي هذا الإطار تدعو إلى "تطوير سياسات التشغيل وتوفير فرص العمل في القطاعين العام والخاص، وتنمية المجتمعات المحلية بصورة متوازنة وعادلة، وتطبيق سياسات الإدماج الاجتماعي والمشاركة في الشأن العام".

وتشدد ضيفتنا على أن مكافحة الجريمة يفترض أن تتم عبر "تخليق مناخ اجتماعي بديل للمناخ الذي أفرزها، قوامه إشاعة الأمل في المجتمع وفتح آفاق السلم والرفاه والتعايش والإبداع، عبر استراتيجيات مستدامة للتنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وضمان فرص التعليم والصحة".

مشهد معقد

وتؤكد أن الدولة بسياساتها المضادة للاندماج تخلق "حالة عدائية بين الفرد والمجتمع، وتشجّع الفرد على تفريغ شحنات الغضب الانتقامية في محيطه في صورة جرائم وعدوانية على الآخرين" وتوضح الباحثة أن "مشهد الجريمة شائك ومعقد لدرجة كبيرة، تتداخل فيه عوامل الفقر والفساد والقهر الاجتماعي والكراهية والإكراه، مع البيروقراطية والافتقار للشرعية السياسية في مجتمعات عديدة في الشرق الأوسط".

وتدعو سعيد المجتمع الأهلي والمدني ليأخذ دوره في "إطلاق المبادرات الاقتصادية والاجتماعية والجهد التوعوي والثقافي، وخلق حراك سلمي يدافع عن حقوق الإنسان والحرية الفردية ويدفع الحكومات باتجاه منح الأولوية للطفولة والتعليم، ففتح مدرسة يؤدي لغلق سجن" مؤكدةً أن "تمكين الشباب وبناء قدراتهم وتوفير سبل التدريب المهني مدى الحياة يقي البالغين من الانجراف إلى مستنقع الجريمة".

وتبيّن الخبيرة أن الجريمة هي "مولود شرعي لثالوث الفقر والجهل والمرض، وانعكاس للتشرذم الاجتماعي وهشاشة أنماط الحياة الإنسانية، والتيه البشري والمعرفي الذي يعانيه السكان" ما يستدعي، وفق الباحثة، "ضمان الخدمات الصحية والحماية الاجتماعية ضد الفقر، ومكافحة التسرب المدرسي؛ فالتعليم هو العامل الحاسم في الحد من الجريمة"، مؤكدةً أن "العلاقة طردية بين الأمية والانحراف السلوكي، دون أن يعني هذا عدم وجود جرائم بين المتعلمين ولكن نسبتها ونوعها يختلفان، فالجرائم بين المتعلمين قد تكون غير عنيفة أو صريحة مثل الفساد المالي".

التنمية الثقافية

وتشير الباحثة للعلاقة الوطيدة بين سياقات التطرف والكراهية ومناخات الإحباط واليأس من جانب، وارتفاع معدلات الجريمة والسلوك المضاد للمجتمع من جانب آخر، الأمر الذي يؤكد برأيها "دور التنمية الثقافية في تشكيل فضاء كابح للانحراف"، داعيةً إلى "تنمية اتجاهات إنسانية وتنويرية في المجتمع غير متعصبة أو متزمتة وتؤمن بالاختلاف والتنوع الثقافي والقبول بالآخر، وتنبذ التطرف والتمييز الديني، باتجاه بناء مجتمع السعادة والرفاهية".

وتطالب الخبيرة الاجتماعية بالتركيز على "الجانب الروحي في المجتمع" لكنها تقول إن المقصود "ليس نشر الخطاب الديني، وإنما الخطاب الثقافي والفني المرتبط بالموسيقى والغناء والفنون التشكيلية والشعر والدراما والمسرح والرقص، والإلهام الإبداعي لتنمية الحس الأخلاقي والإنساني والجمالي لدى الأفراد باتجاه مناقض للعدوانية والعنف".

القوة الناعمة

وتدعو سمية سعيد إلى اعتماد القوة الناعمة في مكافحة الجريمة، فتقول في هذا السياق إن "وزارات الثقافة والشباب والتعليم والعمل والشؤون الاجتماعية والمرأة، وليست الداخلية أو أجهزة الأمن، هي المسؤول الحقيقي عن مكافحة الجريمة، وعلى الحكومات أن تتوقف عن تهميش السياسات الناعمة وأدوات المعرفة في مواجهة الجريمة"، وتعتبر الباحثة وظيفة هذه الوزارات "تعزيز المواطنة المتكاملة في المجتمع وإشباع حاجات الأفراد المعرفية والمعنوية؛ فالفرد الذي لا يشعر أنه مواطن مشارك ومندمج سيحمل العداء ضد الدولة والمجتمع".

وترفض الخبيرة الاعتماد على القوة الخشنة والعقوبات القاسية والمشددة في مكافحة الجريمة، كالإعدام أو انتهاك إنسانية الجناة، لأن العنف برأيها "لا يولّد غير العنف، والعنف المقنن ضد المجرمين يجعلهم أكثر شراسة وعدوانية وحقداً على المجتمع". وعوض العقوبات المغلّظة تدعم الباحثة "البرامج الإصلاحية لإكساب الجاني سلوكاً إيجابياً بديلاً للسلوك العنيف، ليكون مواطناً صالحاً في المجتمع".

الجريمة الإرهابية

وتحذّر الباحثة من "انهيار المنظومة القيمية واهتراء العلاقات الاجتماعية وفقدان الثقة بين السكان، فعندما تهتز الثقة بين الفرد والبيئة الاجتماعية يتراجع انتماؤه لمجتمعه، ويرتد إلى الانتماءات الأولية؛ الدينية والعشائرية والطائفية لتحميه بدل الدولة، وهو ما يترتب عليه سقوط الإجماع الاجتماعي على إدانة الجريمة التي تتحول إلى موقف مختلف عليه وغير مدان أخلاقياً بصورة صريحة وحاسمة من الجميع".

وتعتقد سعيد أن "الجرائم السياسية والإرهابية التي ترتكبها السلطات أو التنظيمات أو الميليشيات، وسياسات التطهير والإبادة والانتهاكات على أساس عرقي أو ديني، تتسبب في إنهاء التعايش وتمزيق النسيج الاجتماعي"، فعندما لا يعود المجتمع قادراً على إشباع حاجات الفرد النفسية والمعنوية، والكلام للخبيرة الاجتماعية، وتكون الدولة عاجزة عن إشباع حاجاته المادية والفسيولوجية ويقع ضحية العنف الجسدي والرمزي؛ يعيش الإنسان حالة ضياع نفسي وذهني تدفعه للتورط في سلوكيات منحرفة وعدوانية.

وتلفت الباحثة إلى تصريح منظمات دولية بأن "نسبة 75% من المواطنين الإيزيديين يرفضون العودة إلى مناطقهم التي هجّرتهم منها داعش في العراق؛ لأنهم فقدوا الانتماء للبيئة الاجتماعية، وهم يشعرون أنها لم تقدم لهم الحماية ضد الإرهاب، وهذا يعكس أثر الجريمة الإرهابية على التماسك الاجتماعي".

وتدعو سعيد إلى "اعتماد فلسفة الخدمة الاجتماعية في مكافحة الجريمة، عبر مبادئ حقوق الإنسان والمساواة والتمكين والعدالة، وعناصر الوقاية والتشخيص والعلاج للانحرافات".