فكر التصوف من منظور ابن خلدون


فئة :  مقالات

فكر التصوف من منظور ابن خلدون

إننا نعاين بالضرورة اهتمام ابن خلدون بفكر التصوف والمتصوفة في كتابين أساسيين؛ هما "المقدمة" و"شفاء السائل لتهذيب المسائل"؛ ففي الأول مجرد إشارات تحيل إلى مذهبهم وطرقهم المعرفية، وفي الثاني نجد تفصيلا شاملا لفرقهم المتعددة ومناهجهم في بلوغ المعرفة وتصوراتهم التي يدعون إليها. ولكن منذ البداية، نفهم بأن ظهور النزعة الصوفية في تاريخ الفكر الإسلامي يرجع في الحقيقة إلى جملة التشوهات والانحرافات التي أصابت المعتقدات الدينية، وكانت سببا في انتشار البدع وانقسام الأمة إلى فرق مختلفة ومتناحرة من معتزلة ورافضة وأشاعرة وخوارج... فكان التصوف بمثابة ردة الفعل على هذه الأوضاع الجديدة التي سادت المجتمع الإسلامي، أو يمكن أن نقول إنه كان ضربا من الحركات التصحيحية التي أرادت تخليص المعتقدات من الشوائب التي علقت بها، وقد أشار ابن خلدون إلى هذا الأمر في "شفاء السائل"، حيث لما "طرقت آفة البدع في المعتقدات، وتداعى العباد إلى هذا معتزلي ورفضي وخارجي... انفرد خواص السنة المحافظون على أعمال القلوب، المقتدون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة، وسموا بالصوفية"[1].

ومن هنا نفهم كذلك، أن التصور الخلدوني للظاهرة الصوفية قسمها إلى نوعين مختلفين ومتضاربين: التصوف السني المعتدل، والتصوف الشيعي المغالي.

يبدو ابن خلدون في كثير من الأحيان متصوفا، ولكن تصوفه لم يكن تصوفا فلسفيا بقدر ما هو تصوف زهدي سني، من ذلك أنه ينقد كل الفلاسفة والمتصوفين المتأخرين الذين يقولون بالحلول ووحدة الوجود، ويصفهم بأنهم من الغلاة والمتطرفين. وفي مقابل ذلك، فهو يمجّد التصوّف السنّي خاصة في مناداته بالتقشّف والزهد والتقوى والابتعاد عن الملذات الجسدية التي تقف حائلا دون رؤية الحقيقة ودون المعرفة الإلهامية الكشفية[2].

ولم يكتف بذلك، بل ذكر عددا من أقطاب الفكر الصوفي مشهرا بقولهم بالحلول والوحدة ناقدا غلوّهم وتطرّفهم في العقيدة، إذ إن هؤلاء المتأخرين والمتصوّفة في نظره "توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف منه، مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم".[3]

ويرجع ابن خلدون، من جهة أخرى، هذا القول بالحلول والوحدة لدى المتصوّفة المتأخرين إلى الفلاسفة اليونانيين خاصة، وإلى تأثيرات المسيحية الذين يقولون باتحاد الله بالموجودات من جهة الوجود والصفات معا. ولعله يرى في هذا الاتحاد نشازا واضح المعالم، باعتبار أن الاتحاد هو اتحاد القديم (الله) بالمحدث (المخلوق)، وهذا ما لا يستقيم منطقيا في تصوّره، وبالفعل فقد "ذهب جماعة من المتصوّفة والمتأخرين الذين صيّروا المدارك الوجدانية علمية نظرية إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته. وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو مثل أفلاطون وسقراط، وهو الذي يعنيه المتكلمون، حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة، ويحاولون الرد عليه؛ لأنه ذاتان تنتفي إحداهما أو تندرج اندراج الجزء. فإن تلك مغايرة صريحة لا يقولون بذلك، وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام، وهو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاد به، وهو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة".[4]

ومهما يكن من أمر، فإن موقف المتصوفة المعتدلين القائم على الزهد وإماتة حواس الجسد ومجاهدة النفس من أجل بلوغ مقام الشهود والمكاشفة يبدو أكثر قبولا عند ابن خلدون من موقف الفلاسفة وغلاة الشيعة من المتأخرين، إنه يقدم الحل الإيماني الكشفي والإلهامي على أيّ حل فلسفي آخر، حتى ولو كان نوعا من الحلولية ووحدة الوجود. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحل الإيماني هو طريق الذات العارفة إلى الكشف، وأما العقل والطرق البرهانية، فإنها عاجزة عن الكشف في ميدان الإلهيات.[5]

إن ابن خلدون دافع عن التصوف، وخاصة السني منه، أو المعتدل ضد الفقهاء، وقد حصر مسائل المناقشة في بعض المواضيع، مثل المواجد والتقوى وأقوال المتأخرين من المتصوفة الذين تعودوا الشطح أو قالوا بالحلول والوحدة وما إلى ذلك... وبما أن التصوف يقوم عند أهله على الذوق، فإن ابن خلدون يرى البرهان والدليل العقلي قاصرا في إدراك معانيه[6]. وليس التوحيد من الأمور التي يصل إليها العقل بالنظر والدليل والبرهان المنطقي، بل هو عقيدة تتلقى بالإلهام الإلهي، ومعنى يرسخ في النفس ويستولي عليها، حيث يصبح صفة لازمة لها تصدر عنه جميع أفعالها ولا يقع إدراكها بحواس الجسد. وتبعا لذلك، تكون المعرفة الكشفية خلافا للمعرفة الكسبية مستغنية عن وساطة البدن، بل لا تنجح في بلوغ هدفها من الرسوخ إلا بالقطع معه وإماتة حواسه، حتى لا يحول دون النفس وعالمها. فإذا كان سبيل المعرفة الكسبية هو المنطق والجدل، فإن سبيل المعرفة الكشفية هو الطريقة الصوفية "الرافعة للعوائق البدنية والماحية للصفات البشرية"[7].

يسعى ابن خلدون قبل كل شيء، إلى التعريف بالصوفية قبل شرح منهج المتصوفة، فيعلن تبعا لذلك بأنها فعل عبادة بالأساس، ولكنها عبادة تنحو نحو بلوغ نوع من المعرفة الذوقية متمثلة في رفع الحجاب عن العالم الروحاني العلوي. وهذه العبادة هي عبارة عن مجاهدة تقوم بها النفس عبر مراحل، ومن هنا جاء اسم التصوف والمتصوفة؛ فهو يختص بهذه الجماعة التي اختارت المجاهدة طريقا إلى معرفة الله ووحدانيته. وهكذا، فإن "الكلام في هذه المسألة يستدعي تحقيق طريق الصوفية، وتمييزها من بين سائر الطرق، وكيف استقرت عند الصدر الأول منهم في نوع من العبادة والمجاهدة، واختصت بهذا الاسم، ثم صاروا إلى مجاهدات أخرى، وغلب اسم التصوف عليها، وهو المشهور عند الكافة"[8].

إن التصوف يندرج ضمن فقه الشريعة، إذ إن هذا الفقه ينقسم إلى نوعين: فقه الظاهر، وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال الجوارح، فيما يخص المكلفين في أنفسهم، من عبادات وعادات وغيرها من الأفعال الظاهرة، وهذا هو المسمى بالفقه. والنوع الثاني، فقه الباطن، وهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال القلوب، وما يخص المكلف في نفسه من أفعال الجوارح في عبادته وتناوله لضرورياته، ويسمى هذا فقه القلوب، وفقه الباطن، وفقه الورع، وعلم الآخرة، والتصوف"[9] غير أن ابن خلدون يلاحظ أن عناية الناس القصوى انصبت على النوع الأول أي الفقه، وذلك لحاجة الدولة إليه واحتياج العامة له، بالإضافة إلى أنه محل طمع لما يوفره من مناصب الفتيا والقضاء، ولذلك كثر عدد المهتمين به وتعددت فيه الموضوعات والمناقشات، في حين وقع تهميش النوع الثاني، وهو في الأصل له قيمة أكبر فيما يخص كل فرد بمفرده، لأن غريزة العقل لدى الكائن بمقتضى طبعها تنزع نحو المعرفة والعلم وتشتاق إلى الكمال الأعلى بمعرفة خالقها، وهي لا ترى موجودا آخر أكمل منه.

ويمكن أن نقول بهذا المعنى، إن المتصوف والمتورع يختص بالنظر في أفعال القلوب واعتقاداتها، في حين أن الفقيه يختص بالنظر فيما يهم المكلفين من المعاملات والأنكحة والبيوع والحدود وغير ذلك من أبواب الفقه، أي المعاملات عموما. وقد كان في هذا التقسيم متأثرا بالغزالي الذي فرق بين نظر الفقيه والمتصوف فيما ينظران فيه من العبادات والمتناولات، فإن نظر الفقيه من حيث تعلقه بمصالح الدنيا، ونظر المتصوف من حيث تعلقه بمصالح الآخرة "لأن نظر الفقيه في العبادات التي رأسها الإسلام، إنما هو من حيث إنها هل تصح فتكون مجزية، ويقع بها الامتثال، ويسقط القضاء، أو تفسد فلا تكون مجزية، ولا يقع بها الامتثال فلا يسقط القضاء، أو من حيث يمتنع من الأداء فيباح دمه أو يؤدي فيعصم دمه، وكذا في الحلال والحرام. والمتصوف ينظر في ذلك كله من حيث إنها حزازات للقلوب، ومؤثرة في الاستقامة التي هي أصل النجاة، فيرى أن الصلاة لما كانت عبادة وأصلها التوجه بالقلب، فإنما يبقى منها زادا للآخرة ما حصله القلب لا ما غاب عنه (...) وكذلك الإسلام الذي هو إقرار واعتراف، فإن لم تقع صورة ذلك في القلب حتى يظهر أثر الاعتراف على الجوارح بالتسخير في الطاعة وإلا فلا أثر له في الآخرة، وكذلك الحلال والحرام"[10].

وإلى جانب هذا التصنيف، بحث ابن خلدون في الاشتقاق الذي جاء منه لفظ التصوف، وقد ذهب إلى نفي ما يقوله البعض من أن هذه التسمية وردت من جراء لبس هذه الجماعة الزاهدة والمتعبدة للصّوف وجعله لباسهم اليومي. وقد أقر في المقابل أن هذا الرأي ناتج في الحقيقة عن خلط عند بعض المتأثرين بالمتصوفة وتوهمهم أن لبسهم للصوف هي الصفة التي يختصون بها، في حين أنهم يلجؤون إلى هذا النوع من اللباس زهدا وتقشفا، دون أن يكون صفة لهم تميزهم.[11]

كما سعى من جهة أخرى، إلى نفي أن تكون الصوفية مشتقة من الطريقة المأخوذة من أهل الصُّفة، وهم المهاجرون الذين سكنوا في صُفة مسجد الرسول، مثل أبي هريرة الدوسي، وأبي ذرّ الغفاري، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وأمثالهم.

فهؤلاء حسب ابن خلدون لم تكن لهم طريقة معينة في العبادة يتبعونها، بل كانوا جماعة ملازمين للمسجد تزهدا في الدنيا لا غير. ولذلك، أكد أن "أهل الصُّفة لم يكونوا مختصين على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بطريقة في العبادة، بل كانوا أسوة الصحابة في العبادة والقيام بوظائف الشريعة. وإنما اختصوا بملازمة المسجد للغربة والفقر، فإن المهاجرين من قريش نزلوا على أنظارهم من الأوس والخزرج، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الغرباء وآواهم إلى نفسه، وأسكنهم مسجده، وأمر بمواساتهم، وكان يتفقدهم، ويحملهم معه إلى الدعوات.[12] وفي مقابل هذين الموقفين، رجح ابن خلدون أن يكون لفظ الصوفية هو اسم العلم الذي تتميز به الجماعة، وهو لقب منح لهم دون سواهم، ثم وقع التصرف في هذا اللقب بالاشتقاق منه فقيل متصوف وصوفي، والطريقة تصوف، والجماعة متصوفون وصوفيون. ومن هنا يصبح معنى التصوف أو تعريفه كما يلي: التصوف هو رعاية حسن الأدب مع الله في الأعمال الباطنة والظاهرة بالوقوف عند حدوده، مقدما الاهتمام بأفعال القلوب، مراقبا خفاياها، حريصا بذلك على النجاة[13].

لا بد أن القراءة الخلدونية تعطي مكانة مهمة للتصوف بما هو حركة معرفية مثله مثل الفقه وعلم الكلام، ومن جهة أخرى، فإن هذه القراءة اعتبرت علم الكلام والتصوف من العلوم الحادثة في الملة ووضعتهما متتاليين في كتاب المقدمة ما يشير أن التصوف يمكن أن يعوض علم الكلام، أو على الأقل أن هناك بعض التداخل بينهما يخص على وجه التحديد ما يهتم به كل علم وهو الباطن والأصول، في مقابل الظاهر الذي هو من اختصاص الفقيه المهتم بالفروع. وهذا يعني بالتوازي، أن التصوف وعلم الكلام يهمهما جانب التصورات في الدين، في حين يهتم الفقه بالجانب العملي[14].

ولأجل ذلك، نجد أن ابن خلدون يضع التصوف في أرقى درجات العلوم، فهو يقسم العلم في البداية إلى أربع درجات:

أ- العلم الكسبي: أي اكتساب العلوم والمعارف الدنيوية بواسطة الحواس الجسدية الظاهرة، وذلك بانتزاع صور الأشياء في الخيال، ثم تجريد المعاني المعقولة منها، ثم تصرف الفكر فيها بالتركيب والتحليل وترتيب الأقيسة.

ب- العلم الروحاني: وجهته العالم الأعلى وعالم الروحانيات، تكتسب منه عن طريق التخلص من الرذائل البشرية فتلوح أنوار العلم والمعرفة في القلب وتتحقق السعادة.

ج- الوحي: اجتماع الصفاء والتخلص من الرذائل بالمشاهدة، وهو علم الأنبياء، وهو أرفع مراتب العلم.

د- العلم الكشفي والإلهامي اللّدني: يتم بالتصفية والتخليص من شوائب الدنيا والبدن.

والعلم الناتج عنه لا يشعر بسببه ولا مورده، وإنما يكون نفثا في الروع، وهو ذوق العلم. وهذه علوم الأولين والصديقين، وهو العلم الصوفي.

إن هذا العلم الكشفي الإلهامي لا تبلغه الصوفية بلوغا مباشرا وآليا، نظرا إلى كون الصفات البشرية والأحوال البدنية تقف حائلا ومانعا دونه، أو هي كذلك بمثابة الحجاب بين اللوح والنفس. فإذا انكشف الحجاب بالتصفية والتلخيص والمجاهدة وقع الإدراك، ثم إن الحس والخيال والفكر ليست في الحقيقة سوى وسائط كثيرا ما تكون قاصرة عن إدراك الحقيقة، لأن هذه الحقيقة لا تدرك إلا بالكشف والذوق والإلهام. ولتأكيد هذه الفكرة يستشهد ابن خلدون بأفلاطون الذي يعتبره "كبير المتصوفين الأقدمين" الذي لا يرى في مدارك العلم الكسبي الحائمة على العالم الروحاني برهانا قطعيا، ويجعل العلم الكسبي مع الإلهامي بمثابة الظن مع العلم[15].

وإذا كان ابن خلدون يعتبر أن التصوف من علوم الشريعة الحادثة في الملة، فإن طريقته تتمثل في اتباع الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف. فالتصوف صنف من الشريعة، اختصت به جماعة دون الفقهاء، إذ "صار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك"[16].

وفي معرض حديثه عن الصوفية وأقطابها، يذكر لنا ابن خلدون أبرز الأعلام الذين كتبوا في هذا النوع من المبحث على غرار المحاسبي في كتاب الرعاية، حيث كتب في أحكام الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، والقشيري في كتاب الرسالة لما تناول آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال، مثله مثل السهروردي في كتاب عوارف المعارف، وغيرهم.

ولم يخف، مع ذلك، تأثره بالغزالي صاحب كتاب الإحياء الذي دون فيه أحكام الورع والاقتداء، وبيّن آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم. وانطلاقا من هذه الكتابات العظيمة، "صار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت طريقة عبادة فقط، وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك"[17].

غير أن أهم ما يسترعي الانتباه عند المتصوفة هو وضعهم لشروط خاصة على طريق الوصول إلى العلم الكشفي والإلهامي، ولعل أهم هذه الشروط ما يسمونه المجاهدة؛ فهي وحدها الكفيلة بتحقيق غاية الصوفية ألا وهي المشاهدة، وهي معرفة الله وصفاته وأفعاله وأسرار ملكوته، والنظر في وجه الله، حيث بلوغ السعادة التي هي التجلي، ولكن الرتبة العليا من المعرفة، أي المشاهدة، ليست متوفرة لأي كان، بل تحصل لمن بلغ درجة قصوى من صفاء القلب لا درجة بعدها. ويصف ابن خلدون وصفا دقيقا هذه الفئة فيقول: "ثم لما أقبلوا على مراعاة بواطنهم وتوغلوا في تخليص قلوبهم وحفظ أسرارهم، حصلت فيها التصفية، فأشرقت أنوار العلم الإلهامي، كما قدمناه، إنه ناشئ عن التصفية، وارتفع الحجاب فحصلت اللذة، ووقع التمادي في ذلك، فحصلت المكاشفة، ثم وقعت المشاهدة لمن تمكن في مقامات سلوكه، وبلغ الغاية من صفاء قلبه فسمت همم الكثير منهم إلى تجاوز هذه المراتب كلها إلى المشاهدة التي هي اكسير السعادة العظمى في الآخرة، وهي النظر إلى وجه الله الكريم"[18].

ويقسم ابن خلدون هذه المجاهدة إلى ثلاثة أنواع متفاوتة، بعضها متقدم على بعض؛ فالمجاهدة الأولى مجاهدة التقوى، وهي الوقوف عند حدود الله. والمجاهدة الثانية مجاهدة الاستقامة وهي تقويم النفس وحملها على التوسط في جميع أخلاقها، وأما المجاهدة الثالثة، فهي مجاهدة الكشف والاطلاع، وهي إخماد القوى البشرية وخلع الصفات البدنية بمنزلة ما يقع للبدن بالموت.

وبالتوازي مع ذلك، فقد حدد لهذه المجاهدة خمسة شروط وردت عند أقوام المتصوفة:

الأول: حصول التقوى، والشرط الثاني حصول الاستقامة، والشرط الثالث الاقتداء بشيخ سالك قد خبر المجاهدات وقطع بها الطريق وارتفع له الحجاب، ويحصل له الكشف والاطلاع. والشرط الرابع يتمثل في قطع العلائق كلها عن النفس بالزهد في كل شيء والانفراد عن الخلق بالخلوة في مكان مظلم، والتدثر بكساء أو إزار، ثم الصمت بترك الكلام جملة، ثم الجوع بمواصلة الصيام، ثم السهر بقيام الليل. وأما الشرط الخامس، فيتمثل في صدق الإرادة، وهو أن يستولي حب الله على قلب المريد، حتى يكون في صورة العاشق الذي ليس له إلا هم واحد[19].

والحقيقة التي يكشفها المريد بواسطة المجاهدة لا يمكن لأي كان من الناس أن يبلغها أو يتحدث عنها؛ لأنه فاقد للأدوات التي بواسطتها يتمكن من ذلك، إذ إن هذه الأدوات من طبيعة وجدانية قلبية، ولذلك تكون مدارك من لم يشارك المتصوفة في طريقهم قاصرة عن فهم أذواقهم ومواجدهم، لذلك كان أهل الفتيا مشككين في أوضاع هؤلاء، لأن البرهان والدليل لا ينفعان في سلوك هذا الطريق، لأنها أمور من قبيل الوجدانيات أساسا. ولسبب كهذا، لم يسع المتصوفون إلى اكتساب العلوم الكسبية أو التعليمية؛ لأنها غير نافعة، بالنسبة إليهم، في كشف الحجاب وبلوغ الأسرار الربانية، وقد أكد أبو حامد الغزالي هذا الأمر في الإحياء مرجحا "ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية. فلذلك، لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة، بل قالوا الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى؛ ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده، والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم، وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة، وأشرق النور في القلب، وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة، وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية"[20].

لذلك، فإن أي حديث في مجال المعرفة الإلهامية والكشفية لا يمكن أن يفي بالحاجة والغرض، أو هو أشبه بالثرثرة واللغو الذي لا طائل من ورائه؛ فالتجربة الصوفية تجربة يعيشها المريد ويحياها بجوارحه القلبية والوجدانية دون أن يكون باستطاعة أهل العلم الكسبي والتعليمي أن يحيط بها. وقد نبه ابن خلدون إلى ذلك مؤكدا على عجز اللغة العادية عن الاضطلاع بهذا الأمر الجلل، لأن في مجال "الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه، لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك، ونتركه فيما تركناه من المتشابه"[21].

إن الغاية القصوى للتصوف هي معرفة الله وصفاته وأفعاله وتدبير مملكته، وهذا لا يتم إلا بالعلم الإلهامي اللدني. ولذلك، فإن المتصوف مدعو إلى أن يطيل إعمال فكره في ذلك، ويحرص كل الحرص على الاطلاع على ملكوت الله، وحينئذ يعظم فرحه عند الكشف، بما يكاد يجعله يطير طيرانا ويحلق في علو السماوات، وهذا في حد ذاته لا يمكن إدراكه إلا بالذوق، وأما الحكايات والكلام في هذا الأمر فقليل الجدوى. وهكذا، فإن التأمل في الله والملكوت هو من أعظم الأشياء التي يستنبطها الصوفي، إذ "ليس في الوجود أعلى ولا أشرف وأكمل من خالق الأشياء وموجدها ومرتّبها. هل يتصور أن تكون حضرة في الكمال والجمال أعظم من الربوبية التي لا يحيط بمبادئ جلالها وصف واصف، وإذن فالاطلاع على أسرارها والعلم بترتيبها المحيط بكل الموجودات، علما لدنيا إلهاميا، واطلاعا كشفيا، هو أعلى أنواع المعارف وأكملها وأوضحها وألذها، وأحرى ما يحصل به الابتهاج والفرح، ويستشعر به الكمال".[22]

إن العلم بالله وصفاته وأفعاله هو سبب السعادة التي سيلاقيها المتصوف في رحلته، ومعنى السعادة هنا هو حصول النعيم واللذة باستيفاء كل غريزة ما تشتاق إليه من مقتضى طبعها، وذلك هو كمالها. وبمنطق القياس الذي يقيمه ابن خلدون، فإن لذة الغضب بالانتقام، ولذة الشهوة بالغذاء والنكاح، ولذة البصر بالرؤية، ولذلك تكون لذة هذه اللطيفة الروحانية للمتصوفة بحصول العلم والمعرفة بمقتضى طبعها وغريزتها. وفي هذا السياق، تتفاوت اللذات بتفاوت الغرائز في ذاتها، وقد تبين أن هذه اللطيفة هي أكمل الغرائز المدركة فلذتها بالإدراك أتم وأعظم، ثم يتفاوت أيضا بتفاوت المعلومات. فالعلم بالنحو والشعر والفقه، ليس كالعلم بالله وصفاته وأفعاله[23].

ولكن علم الله هذا غير يسير إلا لمن تشبع بالمجاهدة والتقوى فيحصل في القلب بمثابة النور الذي يقذف فيه قذفا، وهو ما يسميه ابن خلدون الإلهام، وهو متأثر في ذلك بالغزالي الذي يبين أن العلوم التي هي ليست ضرورية- وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال- تختلف الحال في حصولها، فتارة تهجم على القلب كأنه ألقي فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم؛ فالذي لا يحصل بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا أو استبصارا. ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلّم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما لا يدري العبد كيف حصل له ومن أين حصل؟ وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم، وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول يسمى إلهاما ونفثا في الروع، والثاني يسمى وحيا وتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء"[24].

إن ابن خلدون، في الظاهر على الأقل، لا يرفض التصوف رفضا كليا بل يقر به وبمنهجه، ويجعله في كثير من الأحيان، بديلا عن علم الكلام الذي يتحامل عليه ويعتبر وجوده ليس إلا ظرفيا، وهو حكم يشير في حقيقة الأمر إلى ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية في عصره، حيث انقطع الحوار والنقاش في العقائد لأسباب سياسية بالأساس. ولكن رغم قبوله بالمنهج الصوفي بهذه الصفة، فإنه برر تبريرا عقليا هذا المنهج ونتائجه، مما جعله في نهاية الأمر لا يساير كل المسايرة الصوفية في تصورها للعلم الباطن، وهذا الرفض يمكن أن يرجع إل توجّهه الفقهي السنيّ الأشعري، وكذلك توجهاته السياسية باعتباره فاعلا في مجال السياسية.

وإذا كان ابن خلدون قد أعلن أن علم الكلام فقد ما يبرر وجوده، فإنه لم يطلق نفس الحكم بالنسبة إلى التصوف، ولكنه مع ذلك يطرح تساؤلات حول مشروعيته ومدى أصالته وحقيقته، بل وذهب إلى حد الافتراض بأن يكون هذا العلم مجرد هروب من الواقع واستسلام سلبي للأوضاع السائدة في مجتمع العصر الوسيط[25].

وبالفعل لقد كان موقفه من التصوف مزدوجا وغير مطلق، وهذا ما بينه الأستاذ أبو يعرب المرزوقي في تعليقه على كتاب شفاء السائل، ذلك أن الموقف الذي يستغني عن الشيخ في المجاهدتين الأولين- مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة- ويقبل بها في المجاهدة الثالثة، مجاهدة الكشف، يجمع بين هذين الوجهين اللذين يبدوان متناقضين: فتبدو مجاهدة الكشف غير شرعية إذ أعلنت السر، وبالتالي لا يمكن أن تكون مصدرا للتشريع وغير قابلة للتبليغ. ولكنه في المقابل، اقترح نوعا من التصوف المشروع يتحدد في مرتبة ما فوق الكراهية، أي شبه محرم، وفي هذا الاتجاه افتتح الحديث عن التصوف غير المشروع بضرب من الحجاج العقلي الذي يحدد حكمه، فجعله ممتنع التبليغ وغير قابل لأن يصير مصدرا للتشريع[26].

وأما بالنسبة إلى حكم صاحب المقدمة والشفاء على ظاهرة التصوف عموما، فهو يقر بوجود نوعين مختلفين في الدرجة، التصوف السني والشيعي، أو المعتدل والمغالي، ولكنه مع ذلك يكتفي في فصل التصوف في المقدمة بالدفاع عن الظاهرة عموما دون تمييز حقيقي بين النوعين. وأما في كتاب الشفاء، فيكون الفصل أوضح، فالتصوف السني يكتم السر ولا يجعل من الكشف غاية قصوى للمتصوف والمريد، وأما التصوف الذي لا هم له إلا البحث عن الكشف، فإنه ليس من التصوف في شيء[27]. وفي هذا الاتجاه بالذات ذهب ابن خلدون إلى تحريم الكشف تحريما شرعيا لما قد يخالطه من كفر وبدع، وهكذا فإن "الشّرع ينهي هؤلاء عن الخوض في علوم المكاشفة، وهم لا ينتهون فكيف يوثق بهم في أسرار الله وتتلقى منهم بحسن القبول، هذا لو خلصت عبارتهم من الإبهام، فكيف وهي ملتبسة ببدعة أو كفر أعاذنا الله. فليس هذا الذي سموه تصوفا بتصوف ولا مشروع القصد. والله أعلم"[28].

يمكن القول في نهاية الأمر، إن تناول ابن خلدون للتصوف يحيل على عقلانية هذا المفكر من حيث إنه "يحصر المعرفة العقلية في المعرفة الوضعية المستندة إلى المعطى الحسي المرتب عقليا" على حد تعبير الأستاذ المرزوقي؛ فالمعرفة الصوفية التي تنبني على التجربة الذوقية التي تستخدم الحواس والعقل تصل إلى حقائق غير قابلة للتبليغ ولا هي مواضيع قابلة للعلم والتعلم، إلا بتأييد من الله بالنسبة إلى الأنبياء[29]. فالمعرفة والعلم يبقيان في حدود الحس والتجربة وما خرج عن ذلك، فهو من قبيل الخوارق التي تخرج من العالم البشري العادي والمألوف.


[1] ابن خلدون، عبد الرحمان، شفاء السائل لتهذيب المسائل، الدار العربية للكتاب، تونس 2006، ص 178

[2] انظر كتاب، ابن عمار الصغيّر، التفكير العلمي عند ابن خلدون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط2، الجزائر 19 ص 69 22-23

[3] ابن خلدون، المقدمة، الكتاب 2، الفصل 18، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 2005، ص 167

[4] نفسه، ص 164

[5] حمّيش، سالم، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ، دار الطليعة بيروت 1998، ص 23

[6] التليلي، عبد الرحمان، مفهوم التصوف ابن خلدون، مجلة الحياة الثقافية، وزارة الثقافة، تونس، العدد 63 - السنة 1992

[7] شفاء السائل، ص 154-156

[8] نفس المرجع ص 174

[9] نفسه، ص 178

[10] نفسه، ص 179

[11] يقول ابن خلدون: "وقد تكلف بعضهم فيه الاشتقاق، ولم يساعدهم القياس. فقيل من لبس الصوف والقوم لم يختصوا بلباس دون لباس، وإنما فعل ذلك بعض من تشبه بهم وتخيل من لباسهم الصوف في بعض الأوقات تقللا وزهدا أنه شعار لهم، فأعجب بهذا الظن حتى حمله على الاشتقاق منه. وما لبس الصوف من لبسه منهم إلا تقللا وزهدا، إذ كانوا يوثرون التحلي بالفقر في كل حال، شأن من لم يجعل الدنيا أكبر همه". شفاء السائل، ص 180

[12] نفس المرجع، ص 180

[13] نفسه.

[14] ساعد خميسي، موقف ابن خلدون من علمي الكلام والتصوف، ابن خلدون ومنابع الحداثة، ج1، ندوة وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)، مارس 2006، ص 107

[15] شفاء السائل، ص 186

[16] ابن خلدون، المقدمة، الكتاب 2، الفصل 18، ص ص 161-162

[17] نفس المرجع، ص 162

[18] شفاء السائل، ص 190

[19] نفس المرجع، ص 195

[20] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، ج3: دار الفجر للتراث، القاهرة: ط2، 2013، ص 26

[21] المقدمة، الكتاب 2، الفصل 18، ص 171

[22] شفاء السائل، ص 187

[23] نفسه.

[24] الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص 25

[25] ساعد خميسي، موقف ابن خلدون من علمي الكلام والتصوف، ص ص 132-133

[26] المرزوقي، أبو يعرب، دراسة تحليلية للعلاقة بين السلطان الروحي والسلطان السياسي، شفاء السائل لتهذيب المسائل لعبد الرحمان ابن خلدون، الدار العربية للكتاب، تونس 2006، ص 31

[27] نفس المرجع، ص 49

[28] نفسه.

[29] نفس المرجع، ص 96