الفتنة والإصلاح


فئة :  مقالات

الفتنة والإصلاح

الفتنة والإصلاح([1])


سأنطلق - بعد إذنكم - من حكاية هي من وحي تجربتي الحياتيّة السّابقة، عساني أفتح بها شهيّة الإنصات، وحين أقول حياتي السّابقة؛ فلإدراكي أنّ الحياة حيوات تتخلّلها ميتات، بعضها سابق، وبعضها لاحق، والأهمّ عندنا أن نتحمّل كلّ الميتات بحيويّة وقناعة، وأن نعيش كلّ الحيوات بكثافة واقتناع، ولأنّني أوشك - بهذا البيان الوجوديّ - أن أنسى الحكاية - وهذا لا يليق - سأعود إليها حالًا، وكما يقال: العود أحمد.

في فترة مراهقتي - وهذا ممّا لا أزال أذكره جيّدًا - كنت كلّما أُغضبتُ أمّي في أمر من الأمور، جاء ردّها بترديد الآية القرآنيّة الآتية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التّغابن: (14)]، غير أنّني ضقتُ ذرعًا بحجّتها المتكررة بلا كلل، فقرّرت أن أسكتها باعتماد نفس السّند الّذي تشهره في وجهي، فقلت لها: ما هكذا يُقرأ القرآن يا أمّي، لا بدّ أن تتابعي القراءة، ولا تتوقّفي عند {ويل للمصلّين}، فهذا لا يجوز، ثمّ أحضرتُ المصحف وتابعتُ القراءة بنفسي جهرًا، عسى أن أعثر بين ثنايا العبارة عن مخرج أو متّسع، فبدأتُ أقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التّغابن: (14)]، فأجابتني بنبرة صوت مرتفعة: لاحِظ أنّ فعل الأمر - هنا - واضح وصريح (احذروهم)، فلا يمكن لله أن يأمرنا بفعل شيء محدّد، ثمّ يكون فعل الأمر زائدًا عن الحاجة، أو بلا أي معنى، ثمّ عليك أن تتابع القراءة بدورك فلا تنكر عليّ ما تمنحه لنفسك، تابعتُ متهيّبًا مرتابًا، وأنا أواصل جهرًا قراءة ما تبقّى من العبارة، إلى أن بلغتُ الآية المواليّة: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التّغابن: (15)]، قالت: صدق الله العظيم، هل تسمع؟ إنّه يقول: {أَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، فما معنى الفتنة هنا؟ وقتها لم أعد أرى أمامي من مخرج سوى أن أغلق المصحف وأضعه جانبًا، قبل أن أواجهها بشيء من القسوة: لو كان قلبك طيّبًا يا أمي لما انتبهتِ إلى هذه الآية بالذّات؛ إذ هناك آيات أخرى كثيرات تحمل معان أخرى، فلماذا انتبهت إلى هذه الآية بالذات؟ أجابتني بهدوء غير معهود: ها أنا قد انتبهت، فأين الخطأ؟

نعم، هذا هو السّؤال: أين أخطأت أمّي إن كان ثمّة من خطأ؟

الّذي فهمَته أمّي من الآية؛ هو أنّ الله يأمرها بأن تحذر منّي، طالما أنّ فعل الأمر الوارد في الآية صريح وفصيح (احذروهم)، وعلّة التحذير واضحة بلا لبس (أولادكم فتنة)، وفي النّهاية نجد أنفسنا أمام مفارقة صارخة.

ما هي هذه المفارقة؟

إذا كان ضمن مقاصد الدّين - والدّين الإسلاميّ تحديدًا - تمجيد الأمومة، وهذا من الواضحات؛ فالنّتيجة هذه المرّة أنّ أمي يجب عليها أن تحذر منّي، فيبدو - هنا - التّناقض صارخًا.

لكن، ما معنى أن يكون ثمّة تناقض؟

معناه - بكلّ بساطة - أن ثمّة خطأ ما في إحدى مراحل التّحليل، هذا ما تقوله قواعد المنطق.

إذن، لا بدّ من مراجعة البناء الاستدلاليّ، ماذا نقصد؟

ابتداء، لا بدّ من التّذكير بأنّ التّناقض الّذي يزعج العقل البرهانيّ لا يزعج العقل الإخباريّ، لماذا؟ لأنّ المركز الحسّيّ للعقل الإخباريّ هو الأذن، والأذن ميّالة بطبعها إلى التّصديق والتّسليم، لذلك؛ اعتدنا على ربط السّمع بالطاعة، فنقول بالجمع والإجمال: "سمعًا وطاعة"، لذلك أيضًا؛ يكفي أن يقال: "عن فلان بن فلان أن فلانًا قال"، حتّى تميل الأذن إلى التّصديق وفق طبائع العقل الإخباريّ، أو يكفي أن يقال بلغة الشّيوخ المعاصرين، "حدّثني ثقة"، أو "حدثني أحد الثقاة"، حتى تميل الأذن المجبولة على التصديق إلى تصديق الخبر بعقل معطل لا يعمل. ثم إنّ الأذن قد تقبل بروايتين متناقضتين، وتترك العهدة على الرّاوي في آخر المطاف، بلا مشكلة. أما المركز الحسي للعقل البرهاني فهو العين. وإذا كانت الأذن ميّالة إلى التّصديق، فإنّ العين ميّالة إلى التّدقيق.

ما مناسبة هذا التّذكير؟

مناسبته؛ أنّ موروثنا الدّينيّ قد استند إلى العقل الإخباريّ جملة وتفصيلًا: الرّواية، والعنعنة، والحديث، والأخبار، ...إلخ، على أنّنا عندما نتحدّث عن العقل الإخباريّ؛ فنحن لا نتحدّث عن عقل يروم إلى إنتاج المعرفة أو المشاركة في إنتاجها؛ بل نتحدّث عن عقل يروم إلى تناقلها فقط، فليست "الحقيقة" عند العقل الإخباريّ اكتشافًا أو إبداعًا أو ابتكارًا أو تفكيرًا متجدّدًا، لكنّها مجرّد خبر يتناقله الواحد عن الآخر.

لذلك؛ ليس مستغربًا أن نرى الموروث الدّينيّ حافلًا بعشرات التّناقضات الصّارخة الّتي لا تزعجه، ولا يبدو أنّها أزعجته في أيّ وقت من الأوقات، طالما التّناقض - كما قلنا - لا يزعج العقل الإخباريّ، وسأعطيكم بعض الأمثلة المختصرة عن تناقضات جذريّة لم تزعج العقل الإخباريّ في الإسلام، أو دعنا نستعرضها في شكل تساؤلات مفتوحة:

كيف يستقيم وجود حديث نبويّ يقول: {لا تكتبوا عنّي شيئًا}، أو {لا تكتبوا عنّي غير القرآن}، مع وجود عدد من كتب الصّحاح، أحدها يعدّه البعض ثاني أصحّ كتاب بعد كتاب الله!؟

كيف تجتمع صورة الاختلاط الطّبيعيّ بين الجنسين في مناسك الحج - وهو أقدس مكان عند المسلمين - مع صورة الفصل الصّارم - والمهين أحيانًا - بين الجنسين في معظم مساجد المعمورة!

كيف يجتمع حديث: {النّساء ناقصات عقل ودين} مع حقيقة أن أزيَدَ من ألفَي حديث من الصّحاح مأخوذ عمّا روته عائشة، ما يعني أن نصف ديننا مأخوذ عن امرأة!؟

في واقع الحال؛ بوسعنا أن نستعرض عشرات المفارقات الّتي لا يبدو أنّها أزعجت الموروث الدّينيّ المستند إلى العقل الإخباريّ.

إذا كان ذلك هو شأن العقل الإخباريّ؛ فمن الواضح - في المقابل - أنّ الانسجام هو مطلب العقل البرهانيّ، لذلك؛ فإنّنا نعيد طرح السّؤال انطلاقًا من معاير العقل البرهانيّ:

أين أخطأت أمي؟

هل أخطأت في فهم الدّلالة اللّفظة؟ لا يبدو الأمر كذلك.

هل ثمّة من دلالات أخرى محتملة؟ لا دليل على ذلك.

أين الخطأ؟

ثلاثة أخطاء

فرضيّتنا في الموضوع؛ أن الخطأ كامن في مستويات أعمق وأشمل، وتتعدّى فهم أو سوء فهم أمّي لمنطوق آيات النّصّ القرآنيّ، الخطأ كامن في علاقة الإنسان بالقرآن - تحديدًا - أو على وجه التّحديد، ثمّة ثلاثة أخطاء استبدّت بالعقل الدّينيّ أثناء تعامله مع الخطاب القرآنيّ، ولا بدّ من العمل على استجلائها.

الخطأ الأوّل: عدّ أفعال الأمر الواردة في الخطاب القرآنيّ أوامر للمسلمين كافّة:

ثمّة اعتقاد فقهيّ مهيمن مفاده أنّ جميع أفعال الأمر الواردة في الخطاب القرآنيّ موجّهة إلى المسلمين كافّة - والمسلمات أحيانًا - في كلّ زمان ومكان، من قبيل: قاتلوا، جاهدوا، انفروا، تربّصوا، أطيعوا، اقتلوهم، احذروهم، اهجروهن، اضربوهن، ...إلخ، هل يصمد مثل هذا الاعتقاد أمام اختبار إعمال العقل السّليم في نصوص الدّين؟ لا أظنّ، ولنبدأ خطوة فخطوة؛ إنّ الاعتقاد بأنّ أفعال الأمر تلك؛ هي أوامر إلهيّة لجميع المسلمين في كلّ زمان وكلّ مكان، سيجعل منها فرائض دينيّة، على أنّ الأمر ليس كذلك بأي حال من الأحوال؛ فإنّ الأوامر الواردة في بنية الخطاب القرآنيّ لها مخاطبون معيّنون، ومحدّدون ومحصورون في الزّمان والمكان والسّياق التّنزيليّ للمسألة أو السّؤال، نفس المبدأ ينطبق على الآية المذكورة سابقًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التّغابن: (14- 15)]، فإنّ المخاطب فيها وفق السّياق التّنزيليّ للمسألة محصور - زمانًا ومكانًا - في أولئك المسلمين الّذين تأخّروا في الهجرة والالتحاق بالرّسول، سواء بسبب ارتباطاتهم الأسريّة أو التزاماتهم الماليّة، وهذا كل ما في الأمر، أمّا تعميم فعل الأمر (احذروهم) على كلّ الأسر المسلمة في كلّ زمان ومكان - منذ نزول الآية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها - فتلك خطيئة فقهيّة وكارثة أخلاقيّة، وإن كان تعميم الأوامر يغري العقل الفقهيّ المهجوس بالتّوسعات الإمبراطوريّة المرتبطة بالعصر الوسيط، إلّا أنّ ذلك كلّه قد ضيّع روح (أخلّ بجوهر) القرآن في الحساب الأخير.

الخطأ الثّاني: الاعتماد على ثنائيّة المكّيّ والمدنيّ، وعدّها تندرج ضمن معلوم الدّين بالضّرورة:

لقد جعل الموروث الدّينيّ مركز ثقل الخطاب القرآنيّ محصورًا في المرحلة الثّانية، المرحلة الممتدّة ما بين الهجرة والفتح، وهي المرحلة الّتي حين نستحضر روح القرآن نجدها مجرّد مرحلة انتقاليّة في حياة الدّعوة المحمّدية الّتي غايتها القصوى هي فتح مكة، بمعنى فتح "أم القرى وما حولها"، فعلًا، لعلّ الكمّ الأكبر من الآيات نزل في تلك المرحلة الانتقاليّة، غير أنّ ذلك لا يمنع من الإقرار بأنّها مجرّد مرحلة انتقاليّة في بُعدها الوحيانيّ وشرطها التّنزيليّ، في المقابل؛ فإنّ تقسيم المصحف إلى سور مكيّة وسور مدنيّة، فضلًا عن أنّه تقسيم اعتباطيّ ومضلّل ومحض اجتهاد متكلّف وغير مطابق للواقع؛ لأنّ معظم السّور - المتوسّطة والطّويلة - نزلت آياتها متفرّقة بين مكّة والمدينة، ومنها ما نزل في مكان ثالث، لا هو بمكّة ولا هو بالمدينة، أو في الطّريق بينهما ذهابًا أو إيابًا، إلّا أنّها أقحمت عنوة في جانب معين ضمن ثنائيّة المكّيّ والمدنيّ، ورغم ذلك؛ فإنّ ذلك التّقسيم الثّنائيّ قد حوّل المرحلة الثّانية، الّتي هي مجرّد مرحلة انتقاليّة، مرحلة ما بين الهجرة والفتح، إلى مرحلة مركزيّة تحت مسمّى المرحلة المدنيّة، كأنّما هي الغاية والمرمى، بدل مرحلة الفتح (الّتي هي بمثابة المرحلة المكّيّة الثّانية)، وهو الانزياح الّذي سرعان ما سيُكرّسه اختيار المسلمين للتّقويم الهجريّ، بعد سنوات عن موت الرّسولﷺ.

الخطأ الثّالث: استنباط الأحكام التّنزيليّة من القرآن بدل القيم القرآنيّة:

لقد ركّز موروثنا الدّينيّ جهده الفقهيّ على استنباط الأحكام التّشريعيّة من الخطاب القرآنيّ بدل استنباط القيم الوجدانيّة، وهذا ما ضيّع - في الأخير - روح القرآن وجوهره المكنون؛ فإنّ الأحكام أوامر مقيّدة بظرفَي المكان والزّمان، وهي تخاطب مأمورين محدّدين بالسّياق الاجتماعيّ والشّرط التّنزيليّ، مثلًا؛ إنّ الآيات الّتي تأمر بالهجرة قد انتهى حكمها مباشرة بعد فتح مكة، رغم أنّها لا تزال مثبتة في النّصّ القرآنيّ، ولا نزال نقرؤها ونتعبّد بقراءتها، إنّ الّذي يبقى ساري المفعول ليس الأحكام التّشريعيّة؛ إنّما القيم الوجدانيّة الّتي هي روح الخطاب القرآنيّ في آخر المطاف، تلك الرّوح المنسيّة في غمرة فقه الأحكام، فثمّة قيم إنسانيّة سامية من قبيل: الرّحمة، العفو، المغفرة، كظم الغيظ، ...إلخ، إنّها قيم تعرّضت للتّهميش لقاء الهوس بالأحكام، وبالعودة إلى الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التّغابن: (14)]، بوسعنا إذا قصدنا استنباط الأحكام التّشريعيّة كما يفعل العقل الفقهيّ؛ أن نركّز على أحكام العداوة والحذر داخل الأسرة الواحدة، ثمّ نجعل لتلك الأحكام أبوابًا؛ إما تروم التّخفيف أو التّشديد، تبعًا للمزاج الّذي نبتغي، لكن إذا قصدنا استنباط القيم الوجدانيّة - كما يجب أن يفعل العقل الأخلاقيّ - فسيتّجه انتباهنا إلى قيم العفو والصّفح والغفران المدرجة بصريح اللّفظ ضمن الآية: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا}، والحال أنّ الموروث الفقهيّ ركّز على استنباط الأحكام التّشريعيّة بدل استنباط القيم الوجدانيّة، وتلك خطيئته الأصليّة، مثلًا؛ الآية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}؛ فإنّ الجهد الّذي قام به موروثنا الفقهيّ لم يهدف إلى استنباط القيمة الوجدانيّة الواضحة بالبداهة، والحسّ السّليم، الرّحمة؛ إنّما انشغل باستنباط الحكم التّشريعيّ "الإمبراطوريّ"، الّذي هو ادّعاء عالميّة "الشّريعة" الإسلاميّة انطلاقًا من صلاحيّتها للعالمين، ثمّ إنّ مشروعيّة الفتوحات والغزو في الأفق الكونيّ، تمامًا، كما يفعل المتطرّفون اليوم، مرّة أخرى؛ فنحن أمام عقل فقهيّ مهجوس بالتّوسعات الإمبراطوريّة الّتي طبعت العصر الوسيط.

ثمّة أمثلة كثيرة عن تهافت استراتيجيّة التّعويل على استنباط الأحكام التّشريعيّة بدل استنباط القيم الوجدانيّة، أذكر بعضًا منها باقتضاب:

ثمّة آية يبدو أنّها - في بعدها القيميّ - أحرجت العقل الفقهيّ، تحيل إلى المحاورة الشّهيرة بين ابني آدم؛ يقول فيها هابيل لأخيه قابيل: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: (28)]، فقد بذل العقل الفقهيّ قصارى جهده لأجل الإجهاز على القيمة الوجدانيّة الأساسيّة لتلك الآية، قيمة عدم الرّدّ على العنف بعنف مضادّ، وذلك بالرّغم من المتن الحديثيّ الّذي يتضمّن حديثًا مشهورًا، يقول: {كونوا كخير ابني آدم}. والمقصود، كونوا كهابيل الذي لم يشأ أن يردّ على عنف أخيه بعنف مضاد. وبدل ذلك فقد استلهم جل المفسرين والفقهاء أموراً تلغي القيمة الوجدانية للموقف الهابيلي الذي يبدو كما لو أنه يحرج العقل الفقهي المشحون بغرائز الغلبة والقتال. لذلك شرعوا في البحث عن مبررات لأجل تعطيل القيمة الوجدانية للموقف الهابيلي، من قبيل الزّعم بأن قابيل كان مؤمناً موحداً بدوره، وهو ما يبرر التحرُّج الاستثنائي لهابيل، أو يكون المقصود هو عدم المبادأة في القتال، بمعنى أن هابيل أراد أن يقول: (إن كنت ستبدأ بقتلي، ما أنا ببادئ بقتلك)، فيتعلّق الأمر بتحرّج من المبادأة في القتال، وليس تحرّجًا من القتال عينه، ثمّ اتّفق جلّ الفقهاء - في النّهاية - على أنّ حكم هابيل هذا يظلّ منسوخًا ضمن ما يسمّى (نسخ الشّرائع)؛ فانتصر الحكم القابيليّ على القيمة الوجدانيّة، هكذا، ضاعت القيمة الوجدانيّة السّامية لـ"خير ابنَي آدم"، في غمرة الفقه المهجوس بأحكام التوسعات الإمبراطوريّة، ثمّ جاءت مفاهيم العقل الفقهيّ - في النّهاية - كي تُعبّر عن حاجيّات عصر التّوسّعات الإمبراطوريّة.

سلطة المفاهيم

ليست المفاهيم مجرّد وسائل لتبليغ الفكرة أو التّعبير عنها؛ بل لعلّها قوالب جاهزة لصياغة الفكرة، ونحن لا نتكلّم بواسطة المفاهيم وحسب؛ بل نفكر بها أيضًا، لذلك، عندما يستعمل الخطاب الدّينيّ في المساجد أو المدارس - مثلًا - مفاهيم العورة والولاية والجماعة والطّاعة، فإنّ الأمر لا يتعلّق بمجرّد لغة تقليديّة يمكن فهمها بإحالتها إلى مفاهيم الجسد والسّلطة والمجتمع والانضباط؛ إنما يحيل الأمر إلى حمولة فكريّة تؤثّث تصوّرات العقل، وتحدّد نمط السّلوك وأسلوب الحياة، لذلك؛ ليس من المبالغة في شيء أن نعدّ سلطة المعرفة هي سلطة المفاهيم.

إذا كان الأمر كذلك؛ فالملاحظ أنّ المفاهيم الأساسيّة للفكر الدّينيّ في الإسلام، تبقى مفاهيم احترابيّة، من قبيل الجهاد، والقتال، والتّمكين، ودار الحرب ودار الإسلام، والولاء والبراء، والجماعة، والبيعة، والغنيمة، والسّبي، والجزية، ...إلخ، لا سيّما أنّ العصر الّذي تشكّل فيه العقل الفقهيّ كان موسومًا بالتّوسّعات الإمبراطوريّة، كما سبقت الإشارة، وكانت تلك المفاهيم متناغمة مع زمنها إلى حدّ بعيد، زمن العصر الوسيط.

ولأنّ المفاهيم ليست مجرّد أدوات للتّعبير؛ بل هي قوالب لصناعة الأفكار وتوجيه التّفكير، وتحديد نمط السّلوك وأسلوب الحياة؛ فمن الطّبيعيّ أن يحدث انفصام داخل عقل الإنسان المؤمن بين المتخيّل المفاهيميّ الفقهيّ الّذي يحيل إلى عصر الإمبراطوريّات، والعالم الحديث الذي يعبّر عن عصر الدّولة الوطنيّة الحديثة، الّتي يُفتَرض أنّها دولة المؤسّسات والحقّ والقانون.

عود إلى بدء

ضمن الآية الّتي اعتمدناها كمنطلق لهذه المحاضرة، مفهوم أشارت إليه أمّي وكان وقعه على قلبي أشدّ وطأة وقسوة؛ بل لعلّه من أخطر المفاهيم الحاسمة في تحديد مآلات العقل الدّينيّ في الإسلام، إذن، لنعد إلى الآية، ونتأمّل المفهوم:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التّغابن: (14 - 15)]

نرى - كما سبق القول - أحد أخطر المفاهيم المؤسّسة للعقل الدّينيّ في الإسلام، وهو مفهوم الفتنة، وقد ورد مفهوم الفتنة في النّصّ القرآنيّ نحو ستين مرّة بدلالات مختلفة، قد تعني ضمن ما تعنيه؛ الابتلاء، أو المحنة، أو الامتحان، أو الخلاف، ...إلخ، لكنّه سيتّخذ مع الموروث الدّينيّ أبعادًا أنطولوجيّة شاملة وبالغة الخطورة: فتنة القبر، فتنة الدّجال، فتنة النّساء، الفتنة النّائمة، الفتنة المتواصلة كقطع اللّيل المظلم في آخر الدّهر، ...إلخ، وعلى هذا النّحو يتصوّر المسلم نفسه وسط حقل من ألغام الفتنة الّتي يصعب النّجاة منها في آخر الحساب، لذلك؛ سرعان ما سينتقل الأمر من الفكر إلى الحياة، ليصير مفهوم الفتنة نوعًا من العصاب الوسواسيّ، هو وسواس الفتنة بالذّات، لا سيّما بالنّظر إلى الأدوار الخطرة الّتي بدأت تضطلع بها شخصيّة الشّيطان داخل الموروث الدّينيّ، الشّيطان الّذي لا يحضر في سيرة النّبيّ لابن هشام - أقدم "كتاب سيرة" - إلّا بنحو باهت وهامشيّ، سرعان ما سيُضخّمه الموروث الدّينيّ، ويمنحه صلاحيّات ووظائف كبرى وخارقة إلى درجة أنّه صار يحاصر المسلم في كلّ تفاصيل يومه؛ بل قد يشاركه المأكل إن نسي أن يسمّي الله، وقد يشاركه حتّى في نسله - ويا للهول! - ثمّ إنّه قد يلحق به إلى داخل حرمة المسجد، ويتسلّل بين صفوف المصلّين - ويا للعجب! - بهذا النّحو يصبح مفهوم الفتنة مدعاة لنوع من أنواع العصاب الوسواسيّ الجماعيّ الّذي ربّما لم ينج منه سوى القليلين.

وبهذا المعنى؛ يصبح مفهوم الفتنة نفسه منتجًا للفتنة.

ألم نقل: إنّ المفاهيم حاسمة؟

مسألة أساسيّة، ولأنّ التّصوّرات اللاّهوتية سرعان ما تنعكس على التّصوّرات السّياسيّة؛ فستصبح الفتنة - في بعدها اللّاهوتيّ - مدعاة للفتنة السّياسيّة، وهكذا كان.

لكن، ما الّذي كان؟

الّذي كان؛ هو أنّه سرعان ما اتّخذ الشّيطان أشكالًا سياسيّة تُستَثمر لتأجيج غرائز الحيطة والحذر والتّوجّس في المستوى السّياسيّ، من أمثلة ذلك؛ شخصيّة أبو لؤلؤة عند الصّحابة، شخصيّة عبد الله بن سبأ عند المؤرّخين القدامى، شخصيّة لورانس العرب حديثًا، دولة أمريكا باعتبارها الشّيطان الأكبر في الخطاب الخمينيّ الإيرانيّ، وصولًا إلى صورة المرأة والأقلّيات والفلاسفة والقوى التّقدّميّة في مجمل الخطاب الدّينيّ.

طبيعيّ أن يكون تاريخ الإسلام تاريخ فتن لا أوّل لها ولا آخر، فتن لا تدرؤها إلّا فترات الاستبداد، فتن سياسيّة متسلسلة منذ موقعة الجمل إلى غاية اليوم.

غير أن الحدث المرجعيّ للفتنة في بعدها السّياسيّ - وهذا ما لا يخفى - يبقى هو الفتنة الكبرى.

الأساس النّظريّ للفتنة الكبرى

يتوجب علينا التّذكير بأنّ كلّ مفهوم - هو في حدّ ذاته - نسيج مركّب من مفاهيم جزئيّة وتصوّرات فرعيّة، فلا وجود لمفهوم بسيط غير مركّب، لذلك؛ خليقٌ بنا أن نقوم بعمليّة تفكيك لمفهوم الفتنة السّياسيّة.

ثمّة - بلا شكّ - مقترحات عدّة للتّفكيك، ولاعتبارات البداهة والوضوح؛ سأعتمد على محاولة تفكيك تصوّرين فرعيّين متلازمين وملازمين لمفهوم الفتنة: السّلطة والحقيقة.

1- يقوم تصوّر السّلطة على ثلاث مسلّمات:

- هناك - دائمًا - شخص واحد محدّد هو الأحقّ بالسّلطة، على الأقل، ما دام هذا الشّخص على قيد الحياة، ولم ينكر حقّه بنفسه طوعًا أو كرهًا.

- لا تجوز منازعته في الأمر، وأمّا إذا نازعه أحد؛ فيُقتل بلا تردّد، وذلك درءًا للفتنة الّتي هي أشدّ من القتل.

- مدّة حكمه غير محدّدة في الزّمان، فلا يحدّها إلّا الموت، اللّهم إلّا إذا ظهر منه "كفر بواح".

2- يقوم تصوّر الحقيقة على ثلاث مسلّمات فرعيّة:

- ثمّة - دائمًا - حقيقة واحدة محدّدة؛ إذ ليس مقبولًا حدوث أيّ تسوية بينها وبين الحقائق المخالفة لها.

- هي موجودة بنحو موضوعيّ ومطلق؛ فلا تخضع لزاوية النّظر الشّخصيّة.

- الدّفاع عنها واجب أخلاقيّ وشرعيّ؛ بل تستدعي التّجنيد والتّجييش.

على أنّ المعالجة الفقهيّة لموضوع الفتنة ستكون إعادة دائمة لإنتاج الفتنة؛ فقد اعتمد الموروث الفقهيّ في خلاصته على محاولة ضبط مسألة السّلطة على أساس أحد الخيارين: إمّا السّلالة والنّسب، أو الغلبة والتّمكين، غير أن أهمّهما خياران غير قابلين للضّبط، هما:

أوّلًا؛ فإنّ السّلالة تخضع لتفريعات لا يمكن ضبطها أو تقنينه، وهذا ما يساهم في إعادة تأجيج الفتن مرّة بعد مرّة، لأسباب تتعلّق بالتفريعات السّلاليّة، ثمّ إنّ منطق النّسب والسّلالة يحيل إلى منطق القبيلة وليس إلى منطق الدّولة.

ثانيًا؛ فإنّ الغلبة تخضع لموازين قوى متغيّرة لدرجة السّيولة، ما يمنع من ضبط السّلطة وفق قواعد واضحة ومقنعة، فضلًا عن ذلك؛ فإنّ منطق الغلبة والتّمكين يحيل مباشرة إلى غرائز القطعان البدائيّة، يوم كان الذّكَر الغالب هو المستبدّ الأوحد بقيادة القطيع، إلى حين موعد العراك الدّمويّ القادم حول "القيادة"، مع ذَكَر منافس قد يكون من أقرب المقرّبين، وقد يأتي زاحفًا من الآفاق، وكان قدر المغلوب إمّا الموت الرّحيم أو المنفى الذّليل، وهكذا كان حال القادة والملوك والسّلاطين في العالم القديم، وكانت جواري القصر عندهم تعبيرًا رمزيًّا على هيمنة الذّكَر القائد على إناث القطيع.

بهذا المنطق الذي يحيل إلى الغرائز البدائيّة، لا يمكن ضبط مسألة السّلطة بمعزل عن الفتنة العنف والاقتتال، وفي محاولة ضبط سؤال الحقيقة؛ استند الموروث الفقهيّ - في مجمله - إلى أساس مرجعيّتين غير قابلتين للضّبط:

من جهة أولى؛ النّصّ الدّينيّ، وهو ما لم يحصل أيّ اتّفاق على تحديده، فما هو النّصّ الدّينيّ إذن؟ هل يتعلّق الأمر بالقرآن حصرًا، أم بالقرآن زائد المتن الحديثيّ، ثمّ زائد المتن الصّحابيّ، ثمّ زائد المتن التّابعيّ، ثمّ ماذا؟ وهل نقصد بالقرآن (كلّ ما هو مدوّن في المصحف العثمانيّ تحديدًا) أم نقصد حتّى الآيات التي تندرج ضمن ما نُسخ لفظه وبقي حكمه كما يقال؟ ثمّ إنّ النّصّ القرآنيّ حمّال أوجه - كما جاء في قول مشهور ومنسوب إلى علي بن أبي طالب - وبالأحرى؛ يبقى السّؤال، ما هو النّصّ الدّينيّ؟

من جهة ثانية؛ مرجعيّة السّلف، غير أنّ السّلف يصعب حصره وتحديده، وخلافاته لا تُعدّ ولا تُحصى في كلّ الموضوعات، ما يعني؛ أنّ السّلف لا يستطيع أن يمنح للمسلمين أيّ ضبط لمشروعيّة الحقيقة، بالأحرى، يبقى السّؤال مفتوحًا؛ من هم السًلف تعيينًا وتعدادًا؟

حيّ على الإصلاح

لا شيء يدمّر البيت أكثر من الألغام المبثوثة داخله؛ لأنّها تحطّمه بالكامل حين تنسفه من الدّاخل، لذلك؛ كان الغلوّ في الدّين أشدّ ضررًا على الدّين من الابتعاد عن الدّين، وبالعودة إلى موضوع الفتنة، إذا كان المتخيّل الفقهيّ يتحدّث عن "فتنة الدجال" في آخر الزّمان؛ فإنّ الوجه الآخر لرمزيّة الدّجال؛ أنّه يرمز إلى أنّ "عدوّ الدين" قد يأتي لابسًا لبوس الدّين نفسه؛ بل قد يأتي بالمظهر الأكثر ورعًا وتديّنًا، ثمّ كانت فتنته الأشدّ خطرًا وضررًا، عمومًا؛ في رمزيّة الحكاية تحذير من أن أخطر أعداء الدّين يأتون من داخل الدّين بالذّات؛ بل قد يدّعون حمايته والدّفاع عنه، وبهذا النّحو يختلط الحابل بالنّابل فتعمّ الفتنة الدّينيّة، ويضيع الدّين في النّهاية، لذلك؛ دعنا نقول بلغة صريحة واضحة: الإصلاح الدّينيّ ضرورة دينيّة كذلك.

أ: الإصلاح النّظريّ

فيه مسألتان:

1) إصلاح الخطاب الدّينيّ وفق ثلاثة مرامي:

أوّلًا: تخليصه من المفاهيم الاحترابيّة المنحدرة من عصر التّوسّعات الإمبراطوريّة: الجماعة، الطّاعة، البيعة، الولاء والبراء، التّدافع، التّمكين، دار الحرب ودار الإسلام، أهل الذمّة، الجهاد، الخراج، الغنيمة، السّبي، ...إلخ.

ثانيًا: تخليصه من الانفعالات السّلبيّة المرتبطة بما أسميناه بالمرحلة القرآنيّة الثّانية، مرحلة ما بين الهجرة والفتح، وهي المرحلة الّتي كانت تتطلّب إثارة انفعالات الغضب، والغيرة، والتّوجّس، والحذر، والحيطة، ...إلخ، قبل أن يرسّخها العقل الفقهيّ لاعتبارات تتعلّق بالبناء الإمبراطوريّ للدّولة.

ثالثًا: تخليصه من الاستعمال السّحريّ في مواجهة العلم، والاستعمال الإيديولوجيّ في الصّراع على السّلطة.

2) إصلاح الرّؤية الدّينيّة وفق ثلاثة أهداف:

أوّلًا: يجب العمل على نقل مركز الثّقل الدّينيّ من الشّريعة إلى العقيدة، ذلك أنّ العقيدة هي جوهر الدّين وأساسه، طالما أنّها تختصّ بتوحيد الرّبوبيّة، أمّا الشّريعة؛ فإنّها مجرّد اجتهاد للفقهاء كما قلنا، وكما نردّد دائمًا.

ثانيًا: يجب العمل على إعادة نقل مركز الثّقل النّصّيّ من الصّحاح إلى المصحف؛ ذلك أنّ الخطاب القرآنيّ هو الذي يختزل جوهر العقيدة (الشّعائر التّعبّديّة والقيم الوجدانيّة)، والحقّ يقال، حين نقارن الخطاب القرآنيّ بسائر الموروث الدّينيّ نجده الأقرب إلى العقل، وحقوق المرأة، وحقوق الأقلّيّات، واحترام مبدأ الحياة، فمثلًا؛ حين نقارن بين صورة النّبيّ في الخطاب القرآنيّ، وصورته في الموروث الدّينيّ؛ نجد النّبيّ في الخطاب القرآنيّ بلا معجزات، بلا كرامات، بلا عصمة عن الخطأ؛ إذ كثيرًا ما أخطأ فعاتبه الوحي، وكلّ هذا في تناقض صارخ مع صورته في المتن الحديثيّ؛ حيث يظهر ركام عجيب من المعجزات والكرامات والخرافات، وأيضًا، نجد الفارق كبيرًا جدًّا حين نقارن بين صورة المرأة في الخطاب القرآنيّ (الحاكمة الحكيمة بلقيس مثلًا)، وصورة المرأة في خطاب الموروث الدّينيّ (حيث لا تصلح للحكم ولا للحكمة ولا لأي شيء آخر عدا الإنجاب)؛ بل سيكون الأمر كذلك حتّى حين ننظر داخل الخطاب القرآنيّ (في قصّة أهل الكهف مثلًا)، إلى قيمة حيوان مشهود له بالوفاء والإخلاص، لكنّ الموروث الفقهيّ نبذه نبذًا مريبًا (هو الكلب).

ثالثًا: يجب العمل على نقل مركز الثّقل الفقهيّ؛ من استنباط الأحكام التّشريعيّة إلى استنباط القيم الوجدانيّة، وكما قلنا سابقًا: "إنّ الأحكام التّشريعيّة ليست مطلقة؛ بل مقيّدة بالشّرط التّنزيليّ وسياق المسألة، وفي المقابل؛ ثمّة قيم وجدانيّة قويّة تهمَّش عنوة (العفو، الرّحمة، الغفران، ...إلخ).

ب: الإصلاح العمليّ

سيترجم الإصلاح العمليّ ذلك الجهد إلى برامج يصوغها الخبراء وأهل الاختصاص في مجالات التّربية والتّعليم، وخطب الجمعة، والبرامج الدّينيّة التّلفزيّة، ...إلخ، عمومًا؛ بوسعي تقديم بعض المقترحات حول ما يمكنني أن أصطلح عليه بالإصلاح المسجديّ.

أفكار حول الإصلاح المسجديّ

المسجد - شأنه شأن سائر المؤسّسات - قد ينحرف عن وظائفه أحيانًا، وقد يتخلّف عن الرّكب العامّ للتّطوّر الحضاريّ عندما ينحرف، فلا شكّ في أنّه يحتاج إلى الإصلاح، وحين يتخلّف؛ لا شكّ في أنّه يحتاج إلى التّحديث، وأمّا عندما ينحرف ويتخلّف؛ فإنّه يصبح أداة لتعطيل العقل والخروج عن ثقافة القانون، وأمّا عندما يحتاج المسجد إلى الإصلاح ولا يُصلَح، حين يحتاج إلى التّحديث ولا يُحدَّث، حين يحتاج إلى العقلنة والتّقنين ولا يُعقلَن أو يُقنَّن؛ فإنّه سرعان ما يتحوّل إلى عائق كبير في وجه الإصلاح والحداثة والعقل والقانون، وأقترح - في هذا الصّدد - خمسة مجالات للإصلاح المسجديّ:

أوّلًا: بالنّسبة إلى أئمة المساجد:

- تحسين ظروفهم الاجتماعيّة والمهنيّة، والنّهوض بأنظمة الخدمات الصّحّيّة والاجتماعيّة والتّرفيهيّة للقيّمين الدّينيّين.

- منح الخطباء فرصة تكوين أساس يقوم على التّعريف بتاريخ الإسلام بكلّ ما يحمله من إنجازات علميّة، وفتن سياسيّة، وروائع أدبيّة وصوفيّة، ونكبات حقوقيّة، ومآسي إنسانيّة، فضلًا عن الاطّلاع على اختلاف المفسّرين والمتكلّمين في مسائل العقيدة والشّريعة، بعيدًا عن أساطير "وحدة المذهب" والعقيدة الصّحيحة" ...إلخ، وذلك حتّى يكتسب الخطيب القدرة على تنسيب الآراء والأحكام، وامتلاك القدرة على التّنسيب هي أعزّ ما يُطلَب الآن.

- ضمان تكاوين دائمة ومستمرّة يشرف عليها خبراء في القانون، وذلك لتمكين الخطباء من ضبط قوانين البلد الّذي يشتغلون فيه، ولنا في قصص القرآن متّسعًا رمزيًّا لاستنباط ما يكفي من القيم الّتي تمجّد الأمن والتعاون.

- ضمان تكاوين عصريّة يشرف عليها خبراء حقوقيّون، لغاية تمثّل المبادئ الكونيّة لحقوق الإنسان، وحماية البيئة، وحقوق الأقلّيّات، والطّفل، ...إلخ.

- تجريم كلّ أشكال اللّجوء إلى الشّعوذة تحت أي مسمّى، كيفما كان (الطّبّ البديل، الطّبّ الرّوحانيّ، الطّبّ النّبويّ، الرّقية الشّرعيّة، ...إلخ) الّتي تمثّل - في آخر المطاف - تهديدًا للصّحّة العامّة في بعدها النّفسيّ والجسديّ.

- تجريم كل أشكال التحريض على الكراهية على أساس الدين أو المذهب أو الجنس أو العرق، والتي تمثل تهديدا للأمن العام، ووحدة النّسيج الاجتماعيّ.

- تحديد قدر معيّن من أموال الصّدقة أو الزّكاة أو التّبرّعات الّتي يحقّ لإمام المسجد الحصول عليها، أو إعادة توجيهها وفق ضوابط القانون، وحاجيّات المجتمع المحلّيّ، وذلك تحت طائلة قانون "من أين لك هذا؟"، وهو القانون الّذي لا يجب أن يتحرّج من أصحاب العمائم.

ثانيًا: بالنّسبة إلى بناء المساجد:

- نظرًا إلى أنّ تكاثر المساجد، أو ما يسمّى بالمساجد، يأتي على حساب جودة "بيوت الله"، ومعاني الصّلاة، وكرامة المصلّين، ويساهم في مظاهر الانفلات الوظيفيّ والأمنيّ، فإنّنا نقترح ضبط إيقاع بناء المساجد على أساس نوع من التّناسبيّة السّكانيّة، مثلًا؛ تحديد مسجد واحد بكامل مواصفاته الفنّيّة والجماليّة والصّحّيّة المطلوبة لكلّ نسبة معيّنة من السّكان المسلمين الممارسين للدّيانة.

ثالثًا: بالنّسبة إلى صلاة الجماعة في المساجد:

- حول مسألة الازدحام: لأجل تفادي الازدحام أثناء بعض الصّلاة، الّذي يقود - أحيانًا - إلى احتلال الشّوارع المجاورة وغلق الطّرقات من طرف المصلّين، وهي صورة قد لا تبدو مهذّبة؛ يمكن اعتماد الاقتراح الآتي: بالنّسبة إلى صلاة الجمعة والأعياد، وكذلك بالنّسبة إلى كل صلاة من الصلوات الّتي تشهد ازدحامًا اعتياديًّا، يمكن إجراؤها مرّتين أو ثلاث مرّات بالتّناوب، وفي فترات تتفاوت بنحو ساعة أو نصف ساعة.

- حول مسألة الاختلاط: ليس يخفَى أن صور النّساء المصلّيات في المساجد خلف ستار مغلق، أو في أقبية أو سراديب خاصّة، أصبحت تحطّ من كرامة المرأة المسلمة أمام أنظار العالم، علمًا بأن الجميع يعرف بأن السّتار الفاصل بين النّساء والرّجال لم يكن في زمن الرّسولﷺ، ولا كان في زمن الخلفاء الأوائل؛ إنّما هو من المحدَثات الّتي يسهل إبطالها، لا سيّما أنّ الحجّ نفسه - وهو أعظم مقام - لا يُفصَل فيه بين الجنسين (رغم علمنا بوجود بعض متأخّري السّلفيّة ممّن يحاولون - اليوم - دفع الأمور إلى هذا الاتّجاه)، والحمد لله أنّ هؤلاء لم يظهروا في زمن السّلف، وإلّا لفرضوا الفصل الكامل بين الجنسين، وارتداء النّساء للنّقاب أثناء أداء الشّعائر المقدّسة!

رابعًا: بالنّسبة إلى خطب المساجد:

- ليس من المبالغة القول: إنّ صورة الخطيب واقفًا بعصاه الّتي يدقّ بها بين الفينة والأخرى، ويصرخ في المصلّين - رغم وجود مكبّر الصّوت - لم تعد صورة مشرّفة اليوم، وفي المقابل؛ فإن جلوس الإمام على المنبر سيساعده في الحفاظ على الهدوء وضبط الانفعالات، وسيحفظ له قدرًا من الحكمة والوقار.

- الملاحظ - أيضًا - أن لبعض الخطباء ميلًا غريزيًّا إلى التّطويل والإطناب، وهذا ما لا يتناغم مع الإيقاع السريع للحياة المعاصرة، فضلًا عن أنّ التّهييج الغوغائيّ يأتي - عادة - من فرط الإطالة في الكلام، لذلك؛ يمكن اعتماد المقترح الآتي: تحديد سقف زمنيّ لكلّ خطبة لا يتعدّى - على أبعد تقدير - خمس عشرة دقيقة.

خامسًا: بالنّسبة إلى الآذان في المساجد:

- لا شكّ في أن تفاوت أصوات آذان المساجد المتقاربة الّتي قد تقترن بضعف جودة المواصفات الصّوتيّة والفنّية، يخلق نوعًا من الضّجيج والبلبلة في كثير الأحيان، ويترك في النّفوس - لا سيّما الأطفال - أثرا عنيفًا، وهذا ممّا ليس يخفى عن النّاس، لكنّ معظمهم لا يعترفون، أو يتحرّجون، والأصل أن الله تعالى قال: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحجّ: (78)]، لذلك؛ نقترح - ضمن الرؤية الإصلاحيّة - توظيف تقنيات التّواصل الحديثة وربط المآذن في المستوى المحلّيّ والجهويّ بشبكة صوتيّة ذات مركز صوتيّ واحد، وبمواصفات فنيّة عالية الجودة.

الخلاصة إذن؛ هذه المقترحات لا تتطلّب الكثير من المال، لكنّها تتطلّب غير قليل من الإرادة، وهذه المقترحات ينطبق عليها قول بائع المصاحف في الطّرقات حين يقول: ثمنها صغير وأجرها كبير عند الله.

ثلاث توصيات في الأخير

أوّلًا: ضرورة انفتاح الحقل الدّينيّ على التّصوّف النّظريّ، لا سيّما في مجال التّربية والتّعليم، لماذا؟ لأنّ علاقة التّصوّف النّظريّ بالذّات الإلهيّة تقوم على أساس الحبّ بدل الخوف، وأنا - هنا - لا أتكلم عن الطّرقيّة، وإذ يمنحنا الخوف أخلاق العبيد، أخلاق النّفاق والتّقيّة والتّكتّم والمكيدة؛ فإنّ الحبّ يعلّمنا الصّدق والشّفافيّة والنّزاهة والوضوح.

ثانيًا: معاودة انفتاح الحقل الدّينيّ على الفلسفة الإسلاميّة، لماذا؟ لأنّ علاقة الفلسفة الإسلاميّة بالدّين قامت على أساس البرهان العقليّ، بدل التّسليم السّمعيّ بالرّوايات والأخبار، وهو التّسليم الّذي قاد - في النّهاية - إلى تعطيل الفكر واستقالة العقل.

ثالثًا: انفتاح الحقل الدّينيّ على كلّ الاجتهادات الدّينيّة الّتي أقصاها من ذاته، واستبعدها من دائرته عنوةً، أو تركها - أحيانًا - للفلسفة أو لحقول معرفيّة أخرى، ثمّ ما انفكّ يهمّشها بدورها، بدعوى لزوم الجماعة ووحدة العقيدة: الجهميّة، القدريّة، المعتزلة، الزّمخشري، ابن رشد، ابن عربي، ...إلخ، بمعنى؛ أنّ العقل المسلم عليه أن يتصالح مع كلّ المكوّنات الّتي بترها من كيانه، وطردها من دائرته، وقد كانت - في يوم من الأيام - جزءًا من مجاله الحيويّ، عليه - إذن - أن يستردّ خصوبته وتنوّعه وانفتاحه.

على المسلم أن يتصالح مع مكوّناته كافّة.

- عليه أن يتصالح مع المرأة، بعد أن ظلّ ينظر إليها نظرة توجس، معتقدًا أنّها تمثّل أغلب أهل الجحيم، وأنّها حطب النّار، وعورة في الدّنيا، وناقصة عقل ودين.

- عليه أن يتصالح مع العقل، بعد أن ظلّ يظنّه مدخلًا إلى الكفر والزّندقة والإلحاد، على قاعدة: (من تمنطق تزندق).

- عليه أن يتصالح مع الجسد، ومع الطّاقة الحيويّة الّتي يمنحها الجسد للإنسان، فقد دأب على عدّه مجرّد نجاسة وجنابة وحفنة من طين، وأنّ العين تزني، واليد تزني، وكلّ شيء في الإنسان يزني.

- عليه أن يتصالح مع الجمال، بعد أن اعتاد على اعتبار الفنون الجميلة وقيم الجمال مجرّد شرك بالله، وفساد في الأرض، وضياع للعفّة والدّين.

- عليه أن يتصالح مع الحياة، فقد ضيّع الكثير من فرص التّقدم والازدهار، وهو يرى الحياة مجرّد لعنة وابتلاء، وأنّها لا تساوي عند الله حتّى "جناح بعوضة"!

- عليه أن يتصالح مع ذاته - أوّلًا - وقبل كلّ شيء، فقد خاصمها كثيرًا وأنكرها طويلًا، واعتاد على التّعوّذ من شرور النّفس في كلّ أعماله وأفعاله وأحلامه، فلم يبق له من أحلام في الحساب الأخير غير الأضغاث والكوابيس.

- عليه - أخيرًا - أن يتصالح مع طبيعته البشريّة.

- ماذا بعد؟

آه، لعلّي نسيت، ربّما عليّ أن أتصالح - بدوري - مع أمّي.

شكرًا على نباهتكم، شكرًا على انتباهكم.


[1]- أصل هذه الورقة؛ محاضرة ألقيتُها بدعوة من مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" في تونس، بتاريخ 25 شباط 2017م.