القول الفلسفي في عالم متغير


فئة :  مقالات

القول الفلسفي في عالم متغير

يتميز راهن البحث الفلسفي بتقلُّص حضور المدارس والعائلات الفكرية، التي كانت تقدم الملامح والسمات الكبرى للقول الفلسفي طيلة عقود القرن العشرين. فلم تعد الاتجاهات الفلسفية التي شكلت العنوان الأبرز في تاريخ الفلسفة، تحضر بشكل واضح في مشهد الفكر المعاصر.

لا نعثر منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي، على امتدادات مُطوِّرة أو متجاوزة للفلسفات الكبرى، التي صنعت كما يعرف المشتغلون بحقل الفلسفة، أهم سمات الفكر الفلسفي المعاصر. لقد اختفت الفلسفات الوضعية والوجودية والماركسية والبنيوية في كثير من تجلياتها النصية، وتقلصت قوة المفاهيم التي بنت المدارس المذكورة بواسطتها صروح الخطابات الفلسفية المعاصرة.

لا يعني هذا، أننا أمام تراجع أو غياب للفاعلية الفلسفية للإنسان، قدر ما يفيد أننا نعيش منذ عقود جملة من التحولات في محتوى وشكل الإنتاج الفلسفي، حيث يمكن أن نعاين في الكتابة الفلسفية الجديدة، الإرهاصات التي تكشف صوراً من التغير المرتقب، في الممارسة النظرية الفلسفية وفي الآفاق المنتظرة منها.

يقف المتابع لنوعية الإنتاج الفلسفي اليوم، على المخاضات التي تعكس درجات التوتر التي تملأ مجال النظر الفلسفي، والمتمثلة من جهة في الوفاء العميق لدروس الفلسفة، وذلك باعتماد استراتيجيتها الرامية إلى إنجاز ما يمنحها القدرة على التجاوز الخلاق، والمتمثلة من جهة ثانية في عمليات التوظيف المُحَدِّدة لروح الفلسفة واستراتيجيتها الأساس، نقصد بذلك روح النقد إضافة إلى التخفيف من التموقع الإيديولوجي وإيلاء عناية خاصة بالحس الريبي والانحياز الواضح للتاريخ والنسبية في المعرفة والأخلاق.

كما نتبين الملامح العامة لهذه الإستراتيجية في انقطاع السرديات الكبرى، التي كانت تَحْكم منطق التيارات الفلسفية السائدة في تاريخ الفلسفة، الأمر الذي ترتب عنه التقليل من شأن الأنساق الفلسفية الشمولية، واستبدالها بالروح الفلسفية التي تضمرها الاستراتيجية المذكورة، وما نتج عنها من عمليات تقويض لمنطق الحكايات الكبرى، والقناعات النهائية، والمبادئ التي لا تقبل التجاوز.

يمكن أن نقف على جملة من المعطيات النظرية والمحاور الكبرى، المُعَيَّنَة لنوعيات الحضور الفلسفي اليوم، حيث يمكن أن ندرج علامات الإنتاج الفلسفي الكبرى ضمن جملة من القضايا التمثيلية، ودون إغفال الإشارة إلى سقوط الحدود والفواصل التي كانت تعين الملامح العامة للخطاب الفلسفي.

1- المعرفة، نحو عقلانيات إجرائية

يساهم الإنتاج الفلسفي اليوم، في التخلص من الأزواج المفهومية الموصولة بمدارس الفكر وتياراته، التي كانت تغطي فضاء القول الفلسفي طيلة القرن العشرين، وذلك انطلاقاً من إعادة النظر في مفهوم الحقيقة ومفاهيم الخطأ والصواب. وهو يستند في ذلك إلى ثورات المعرفة المتواصلة، وما أحدثته من تحولات في الوعي الإنساني، سواء في درجات تنوعها أو في الوتائر التي تحصل بها.

تعمل كثير من مظاهر القول الفلسفي في إطار تفكيك المفاهيم المذكورة وكشف محدودية أسسها النظرية، الأمر الذي يجعلنا نقف أمام أفق في الفكر، يروم بناء عقلانيات إجرائية تقر بأن سلطة العقل في الفكر الفلسفي اليوم ليست متعالية، بل إنها تنمو في تفاعل مع مقتضيات الجدل العقلي، الذي ينشأ في قلبها أو بمحاذاتها. إن العقل في أدواته وفي الموضوعات التي يتجه نحوها، واللغة التي يستعملها، وكذا الأخطاء التي يُصوِّبها، يبني ذاته كما يصنع فعاليته الإجرائية.

2- السياسة والتاريخ، نحو عقلانيات النجاعة والتواصل

إذا كنا قد أصبحنا نتحدث اليوم في الفلسفة عن عقلانية إجرائية، بل عقلانيات إجرائية تفاعلية، فإن هذا الأمر لا يتعلق بالمعرفة وحدها، بل إن هناك محاولات أخرى لبناء عقلانيات سياسية إجرائية، هدفها تجاوز المذاهب التي تحكمت عقوداً طويلة في الفلسفة السياسية، ومحاولة بناء قواعد ومبادئ جديدة للعمل السياسي، خارج الأسس والقواعد التي راكمتها الفلسفة الليبرالية والاشتراكية، وغير ذلك من التيارات الفكرية، التي وجهت الفعل والنظر السياسيين. ويمكن أن نلاحظ أن هذا التوجه، يروم بناء الخيارات السياسية الملائمة للتحولات والتغيرات، التي تصنع اليوم عمليات الصراع والتقاطب في المشهد السياسي العالمي وفي العلاقات الدولية.

هناك إرهاصات كبرى في موضوع إعادة بناء مجالات القيم في الحياة المعاصرة، ويساهم بعض أعلام الفلسفة اليوم، في تركيب جهود تقوم بعمليات كشف متواصلة لمأزق المفاهيم الأخلاقية الكلاسيكية، أمام طفرات المعرفة وتحولات القيم في عالم تحكمه تقنيات جديدة وأشكال من التواصل لا قِبَلَ للناس بها، الأمر الذي أدى إلى نشوء شرور جديدة، أصبحت تقتضي بناء سِجلٍّ من القواعد الأخلاقية القادرة على مواكبتها، وبناء ما يساعد على الحد من آثارها السلبية.

3- فلسفات ما بعد الحداثة، التفكيك وبناء المفاهيم

لا يحيل مفهوم ما بعد الحداثة إلى تيار فلسفي، قدر ما يروم الإمساك بنوعية التحولات الجارية في راهن فضاء القول الفلسفي. صحيح أن المفهوم يجد في بعض الفلسفات المعاصرة ما يمنحه محتوى محدد، إلا أن طبيعة تداوله تكشف أننا أمام محتوى في طور التشكل، وفي هذا الإطار يمكن تركيب جملة من المعطيات النظرية حول الخلفيات الموجهة لمفردة (الما بعد) في علاقتها بالحداثة، وما بنته من معطيات في التاريخ وفي النظر الفلسفي في الفكر المعاصر.

تساهم الفلسفات الموسومة بما بعد الحداثة، في تركيب التجليات النصية المطورة لبعض مقدمات الحداثة الفلسفية، باعتبار أن الحداثة في الفلسفة مجرد مشروع منفتح على ممكنات لا حصر لها، الأمر الذي يولِّد في تاريخ الممارسة الفلسفية المعاصرة جدلاً حيّاً حول مستقبل الحداثة وما بعدها، بكل ما يطرحه الموضوع من إشكالات وآفاق.

يمكن أن نتحدث هنا عن انتعاش آليات النقد والتفكيك في النظر الفلسفي وذلك في ضوء المكاسب المنهجية، التي بلورها البحث العلمي في مجالاته المختلفة. كما أن التسلح بالعقلانية النقدية والإجرائية المنفتحة على آليات الجدل البرهاني، والاستعانة في الآن نفسه بمختلف الجهود والخلاصات الجديدة، التي ما فتئت توفرها وتراكمها الاجتهادات المبذولة في العلوم الإنسانية وفي مختلف المجالات المتصلة بتقنيات المعرفة، ساهمت وتساهم في تطوير آليات النظر الفلسفي.

إن عناية الخطاب الفلسفي اليوم بتفكيك المفاهيم وإعادة بنائها، تندرج ضمن الاستراتيجية الجديدة المتبناة في بعض أنماط القول الفلسفي الجديدة، حيث اخترقت الفلسفة مجالات معرفية عديدة، وأصبح لها قدرة على التفكير في بنية أنظمة المعرفة المختلفة، الأمر الذي أتاح للنظر الفلسفي العناية بحقول العلوم والفنون والآداب والجماليات، إضافة إلى المجالات التي كانت الفلسفة تعتبر أنها ضمن دوائر اختصاصها.

يتجه القول الفلسفي اليوم، إلى بناء الأسئلة والمفاهيم والقضايا القادرة على تملك مفاتيح عالم ما يفتأ يتغير بإيقاع غير مسبوق، عالم لم تعد المفاهيم الفلسفية الكلاسيكية، التي بنتها تيارات الفلسفة الحديثة والمعاصرة قادرة على تملكه والإحاطة به، واستكناه ما يمور بداخله من تفاعلات وتقاطعات يصعب معرفة مختلف أبعادها، فقد أصبح من المهام المقرونة بالفاعلية الفلسفية، الاهتمام بكيفية بناء ونحت المفاهيم والعمل على متابعة صور هجرتها وانتقالها من مجال معرفي إلى آخر، حيث يترتب عن ذلك نتائج مهمة في مجال تطور المفاهيم وتطور الفاعلية النظرية لآليات الخطاب الفلسفي.

تشير المحاور التي وضعنا للمعالم الكبرى لتحولات الفلسفة المعاصرة، إلى فضاءات تبلور الكتابة الفلسفية الجديدة. لقد سطرنا في فقراتها جملة من الإشارات العامة بهدف توضيح أهم وأبرز القضايا التي تغذي اليوم حقل القول الفلسفي في عالمنا. صحيح أن التشخيص المنجز لا يستعرض المعطيات التمثيلية الكافية التي تقربنا من التجليات العينية للمحاور التي ذكرنا، إلا أنه يضعنا أمام الدوائر الكبرى للقول الفلسفي المعاصر. وقد تتاح لنا استقبالاً، إعادة بناء ما جاء تركيبياً ومركَّباً في هذه المقالة بالصورة التي نقف فيها أمام كل محور على حدة، لنعاين كيفيات تبلوره في نصوص وإشكالات يجري العمل على بلورتها وتطويرها في مجالات القول الفلسفي المعاصر.