المُسانِدون


فئة :  مقالات

المُسانِدون

معلوم أنّ الكتابة عمل فردي يتولّاه الكاتب بنفسه، فهو من ثمار خواطره، وتأمّلاته، وتخيلاته، وتجاربه، غير أنّ هناك ظاهرة ملفتة للانتباه تستحقّ الإشارة إليها، وهي استعانة بعض الكتاب بالمساعدين الذين يقدمون لهم العون قبل الكتابة وبعدها، وربما في أثنائها. لا أقصد بذلك المحرّرين، ووكلاء الأعمال، فذلك أدخل في موضوع النشر، والطباعة، إنما أريد الوقوف على الأعمال المساندة التي كان يتلقّاها الكتّاب من أقرباء لهم، فذلك يكشف جانبا مخفيّا، من جهود الزوجات، والصديقات في تقديم يد العون لهم إبان انشغالهم بالكتابة، وهو موضوع طريف يستحق الوقوف عليه.

هناك ظاهرة ملفتة للانتباه تستحقّ الإشارة إليها، وهي استعانة بعض الكتاب بالمساعدين الذين يقدمون لهم العون قبل الكتابة وبعدها، وربما في أثنائها

عُرف عن بلزاك توسّع طموحه في الكتابة، ولا يكاد يضاهى بين الروائيين المكرسين من ناحية كثرة رواياته، وحاجته كاتباً لمتابعة شؤونه، في الإعداد لرواياته، ونشرها، وتحصيل حقوقها، فقرّب إليه "زُلْما كارّو" وعهد إليه بعض أمور حياته، فكانت ناصحته الأولى، ومدبّرة أمره، وهي التي كان "يعتمد عليها، ويثق بها"، فهي الأثيرة لديه، وكانت، كما قال ستيفان زفايج "تمثل أفضل صداقاته، وأكثرها قيمة، ونبلاً، وأنقاها، وأكثرها ديمومة" فربطتهما علاقة وثيقة، "لا يمكن للمرء أن يتصور أنقى منها، ولا أجمل". ولأنها امرأة كريمة النفس، عفيفة الخلق، فإن عبقريتها الخفية تمثلت في "مقدرة مذهلة على التفاني، والإخلاص" فوجد فيها بلزاك بغيته، في عالم احتفى به، من غير أن يمحضه الثقة، والصدق، والطمأنينة. وعلى هذا لاذ بها، فلم يكن له "مستشار أكثر صدقا، ولا أفضل، بالنسبة إلى فنه ولا إلى حياته، من هذه المرأة الضئيلة، غير المعروفة". وما اقتصر دورها على الاهتمام به إنساناً، وقد فتحت دارها له، بل رأته "كاتب العصر الأول"، بل هو "أهم الكتاب قاطبة". وكان لها رأي صائب، في أعمال بلزاك، فلم تتردّد في مدح الجيد منها، وذم الرديء.

وقامت "آنا غريغوريفنا" في حياة دوستويفسكي، بدور أهم من دور "زُلما" في حياة بلزاك، إذ عملت كاتبة اختزال لأعماله قبل زواجهما، وكانت تتولّى تحرير ما يمليه عليها، ورافقته في أثناء الكتابة، وأشرفت على طباعة أعماله، ونشرها في حياته، وبعد موته، وكتبت عن تجربتها معه كتابا مهما، كشفت فيه حاله في أثناء الكتابة، ودورها في تسهيل عمله، وهي التي تولّت رعاية تركته الثقافية بعد موته. وتكاد حالتها، تماثل حالة "صوفيا أندريفنا"، في حياة تولستوي، الذي تزوجها، وهي في الثامنة عشرة، فيما هو في الرابعة والثلاثين. وكانت صوفيا، هي المسؤولة عن حياة تولستوي بكاملها، فلم تكن مديرة أعماله كاتباً، فحسب، بل مديرة حياته.

اعتاد تولستوي، مثله مثل بلزاك، ودوستويفسكي، أن يكتب مادة أولية، غير متّسقة، تشوبها الفوضى، فيترك عليها هوامش، وملاحظات توضيحية، فتعكف صوفيا خلال الليل على نسخ كل ذلك بعد تحريره، وتنقيحه، فيجد زوجها على مكتبه في صباح اليوم التالي النصّ في صورته الكاملة. وكما جاء في مذكراتها عنه، فقد كانت تتشوق لقراءة ما يكتبه من فقرات، وفصول، فتنصرف إلى نسخه بطيب خاطر، وحينما انكبّ هو على رواية "الحرب والسلام"، رافقته لسنوات من العمل المرهق، من غير شكوى. فكانت تتابعه في نسخ ما يكتبه، فصلاً بعد فصل، وتتولّى تحريره، وقد أصابها شيء من الشعور بالملل، حينما أخرجت ثماني نسخ من مخطوط تلك الرواية الضخمة، وحينما تعرضت حياتهما للتوتر، في مرحلة لاحقة، عهد تولستوي لبناته تحرير ما يكتب، فكان ذلك مثار إزعاج لها، إذ اعتبرته مقدمة للهجران الذي وقع فعلاً في نهاية عمر تولستوي.

ولعبت "ماريا كوداما" دورا حاسما في حياة "بورخيس"، ولها مكانة عظيمة في حياة الكاتب الضرير، إذ كانت صديقة للكاتب مدة طويلة، ثم زوجة له في سنوات حياته المتأخرة، وقد جاوز الثمانين من عمره، وهي التي أعطت لحياته معنى مدة تقرب من ربع قرن، وكما قال "بارنستون" كاتب سيرة بورخيس، فإن "صداقتهما الفريدة نمت، وترعرعت، مثل بذور رشّت في تربة ذات خصوبة مدهشة. ماريا كانت الصديق الوحيد، الذي أصبح بورخيس معتمدا عليها بكليّته، لكنها، خلال تلك العقود من الاتكّالية، لم تضعه في قفص. كانت تقرأ له، تنسخ له قصائده، قصصه، ومقالاته، تحضّر له إجراءات السفر، وترافقه، وتأمر له بوجبات طعامه، وتقطّع له الخضروات واللحم، من دون تذمّر. كل ذلك، وهي تدير معه حديثا ممتعا، كانت إلى جانبه في محاضراته، ومقابلاته. كانت تفعل كل شيء، باستثناء التفكير، أو التحدّث بدلا منه".

وترافق الزواج الذي توج علاقة بورخيس بماريا بمشكلات عائلية شائكة، وبقيت إجراءاته، كما قال "مانغويل" صديقه ومدوّن بعض جوانب سيرته: "محجوبة عن النظر في سريّة مربكة"، لأن زواجه السابق من "إلزا دي ميلان"، لم يلغ قانونيا، ما تسبّب في تعارض قانوني في علاقة بورخيس بالاثنتين، على الرغم من خروج الزوجة الأولى من حياته. فكان زواجه من ماريا، مثار للقيل والقال في الوسط الأدبي، وقد أشيع أنها استحوذت عليه، وحالت بين الشيخ الضرير، وبين كثير من أصدقائه الخلّص، فكان أن هجر اللقاءات، التي تربطه برفاقه القدامى، حتى أنه نُسب إليها محو الإهداءات، التي كان قد وضعها على كتبه، قبل اللقاء بينهما. لكن بعضا من أخصّ أصدقائه، أكدوا أنها "كانت مرافقة مخلصة، ومتحمسة"، فقد فلاذ المعمّر البصير بامرأة قوية تذود عنه، وآلت إليها الملكية الفكرية لأعمال بورخيس بعد وفاته، فأنشأت مؤسسة كبيرة، تقوم على رعاية آثاره الأدبية، وتحافظ على إرثه الثقافي.

ومعروف بأن لـ"سوزان بريسو" دور كبير في حياة "طه حسين"، رسمت ملامحه في كتابها الشائق "معك"، إذ وقفت الزوجة الفرنسية الشابة إلى جانب زوجها المصري الأعمى مذ تعرفت عليه طالباً في بلادها. ورافقته خلال حياة ناهزت نصف قرن، وقدمت له العون كاتبا وزوجا، بل تغنّت به ضريرا، لم تشعر خلالها بفقدان رفيقها لنعمة البصر، ولعلها تكون قد ذللت له كثيرا مما كان يقرأ ويكتب. فقد اصطحبته كفيفا، وعلمته الفرنسية، واللاتينية، وقرأت له عيون الآداب الفرنسية واليونانية.

ولعل الشراكة التي جمعت بين "نابوكوف"، وزوجته "فيرا"، تعدّ هي الأخرى، من بين أخصب الشراكات المثمرة، بين حبيبين، وزوجين، فقد كانت زوجة، ومساعدة، ومترجمة لأعماله، ومديرة لشؤونه الثقافية، وهي التي أنقذت مخطوطة آخر رواياته "أصل لورا"، من النار، حينما أوصى الكاتب بحرقها، في حال مات قبل الانتهاء منها، وقد تحقّق ذلك، إذ توفي بعد أسابيع من وصيته، وهو يواصل عمله عليها، فلم تنفذ فيرا مضمون الوصية، بالتخلّص من الرواية، بل طمرتها في خزانة خاصة، وأوصت ابنها ألا يقوم بإتلافها بعد موتها، وخلال حياة نابوكوف، وبعدها، حامت فيرا عن زوجها، وذلّلت له كل الصعاب. ولم يقتصر دور "لوته" زوجة، "ستيفان زفايج" على نسخ كتبه الأخيرة، بل كانت، فضلاً عن ذلك، مصدر تنشيط له في منفاه، وتركيز اهتمامه، على استكمال أعماله، خلال سنواته الأخيرة، وقد شاطرته حياته الفكرية، والأدبية، في البرازيل، حيث انتهى بهما المطاف، من دون أن تلفت الأنظار إلى نفسها، فاختارت معه نهاية واحدة، وهي الموت سوية، في منفاهما البرازيلي.

وليس يجوز تخطّي علاقة "هيلين" بـ"كازانتزاكي"؛ ففي مقدمتها لسيرته الذاتية "تقرير إلى غريكو" التي تولّت نشرها بعد نحو خمس سنوات على وفاته، كشفت عن الرفقة الطويلة التي جمعتهما، واستمرت لثلاث وثلاثين سنة، وقد عرضت عليه أن يملي عليها سيرته غير أنه اعتاد الكتابة بالقلم بيده اليسرى، ولم يعهد الإملاء على أحد، رغم تقدّم العمر به، فكان يقول لها: "لا أعرف كيف أملي، لا أستطيع أن أفكر إلا والقلم في يدي". وفي إحدى نوبات مرضه العنيفة، طلب قلما ليكتب شيئا ما، فتعذّر عليه، فكان أن أملى عليها جملة واحدة منسوبة لأحد القديسين "قلتُ لشجرة اللوز: حدثيني عن الله يا أخت، فازهرت شجرة اللوز". وقبل وفاته طلب منها أن تكتب عنه كتابا، لأن الآخرين سيقولون عنه أشياء كثيرة غير دقيقة، وهي الوحيدة التي تعرفه حقّ المعرفة، فامتنعت عن الاستجابة لطلبه لكنها ظلت تفكر بذلك، وبعد عشر سنوات من وفاته، أصدرت كتابها عنه، وهو بعنوان "المنشقّ" الذي أقامته على رسائله، وتجربة حياتهما المشتركة.

وإذ وقفت على نماذج مثمرة من علاقة الكتاب بزوجاتهم، ورفيقاتهم، فلا يمكن نسيان علاقة الأزواج بزوجاتهم الكاتبات، ومن ذلك علاقة "وولف" بزوجته "فرجينيا"، فقد رعاها زوجاً وناشراً، ووقف بجوارها، وهي تخوض في مشكلاتها النفسية، التي انتهت بالانتحار غرقاً، وحافظ على تركتها الأدبية بعد موتها. بين هذين الضربين من العلاقات، تخطر في البال، علاقة "تيد هيوز" بزوجته "سلفيا بلاث"، وعلاقة "أراغون" بزوجته "إلزا تريوليه"، وعلاقة "بول إيلوار" بـ"غالا". واعتمد "دان براون" في الإعداد لرواياته، ومنها "شفرة دافنشي"، على جهد زوجته "بليث نيولون"، التي ساعدته في الترويج له كاتباً، والمشاركة في إعداد المشاريع البحثية عن الموضوعات التي أرادها، وبخاصة ما له علاقة بالفنون الرمزية، في العصور الوسطى، فيما انصرف هو لبناء الحبكات السردية الشائقة لرواياته.