المستصفى حول السّياسة المدنيّة والمنعرج الفرداني المنطوق به والمسكوت عنه في فلسفة ابن باجة الأندلسي (مقاربة أنطو- بولتكو-هرمينوطقيّة)


فئة :  أبحاث محكمة

المستصفى حول السّياسة المدنيّة والمنعرج الفرداني المنطوق به والمسكوت عنه في فلسفة ابن باجة الأندلسي (مقاربة أنطو- بولتكو-هرمينوطقيّة)

المستصفى حول السّياسة المدنيّة والمنعرج الفرداني

المنطوق به والمسكوت عنه في فلسفة ابن باجة الأندلسي

(مقاربة أنطو- بولتكو-هرمينوطقيّة)

مقدّمة: ابن باجة: تراث زاخر وفكر رائد

لقد آثرنا في هذه الدّراسة تصريف القول الممكن بخصوص المستصفى حول قضيّة السّياسة المدنيّة والمنعرج الفرداني، وما يعرض فيها من المنطوق به والمسكوت عنه، باعتبارها من بين أبرز القضايا الفلسفيّة التي تناولها ابن باجة([1]) الأندلسي بالدّرس والتّحليل. ناهيك أنّه أوّل من نصّب مسألة الإنسان في الفلسفة الإسلاميّة على نحو ما يُجليه مؤلّفه: "تدبير المتوحّد"، المتضمّن لأبرز أفكاره حول العقل والتّعقل وتدبير المنزل والمدينة ومعنى السّعادة إلخ...والغاية التي طلبها من وراء تأليف هذا الكتاب هي الإبانة عن الكيفيّة التي من خلالها يمكن بلوغ المقصد الأسمى أي السّعادة، فكتاب: "تدبير المتوحّد" يرشد إلى أقوم المسالك تحقيقا لذلك الهدف، فأيّ فرد يختار سبيل العقل يمكنه الوصول إلى الغاية القصوى، بل إنّ أهل مدينة ما إذا أعملوا عقولهم أمكنهم في مجموعهم إدراك كمالهم وسعادتهم([2]). وفي نفس السياق، ألفيناه يميّز بدقّة مطلوبه في هذا المؤلّف من مطلوب أفلاطون في كتب السّياسة. وساعيّا أيضا إلى تخطي معهود الطرح الفلسفي الفارابي لمسألة السّياسة المدنيّة: فإنّ مطلوبه الأوّل هو "الإنسان المتوحّد"، وبكلّ قصد نظري هو يحدّده كموضوع جذري للفلسفة([3]). وفي "رسالة الوداع" التي أفردها تتويجا لتأمّلاته الفلسفيّة يعلن ابن باجة، أنّ غرضه هو إبانة "صفة الغاية التي ينتهي إليها الطبع بالسّلوك إليها"([4]).

وإنّا لواجدون في هذه الإشكاليّة مدخلا نموذجيا لطرح هذا النّوع من المحاورة مع الفلسفة الباجويّة، التي أسّست في تقديرنا لإمكانيّة تفكير جديدة في تاريخ الفلسفة العربيّة، لا تخلو من طابع الجدّة والطرافة في آن، مقارنة بما درج عليه متفلسفة عصره ومصره. وحسبنا دليلا عمّا نزعم هاهنا، فصل الخطاب من قبل فيلسوفنا بشأن النّابت المفرد والمنعرج الفرداني الّذي يعدّ في تقديرنا المتواضع طفرة نوعيّة غير مسبوقة. كان ابن رشد أوّل من تفطّن إليها: (وهي جدّة وطرافة عمله الفلسفيّ مقارنة بسابقيه). هذه الجدّة التي كان ابن باجة نفسه واعيا بها، ستتجلى من خلال انتقاله من الحدّيث عن التدبير، باعتباره يخصّ المدينة ولا يقال على غيرها من أشكال الفعل الإنسانيّ إلى تأكيده على مشروعيّة قوله الفلسفي المتعلق بتدبير المتوحّد([5]).

ولأنّ واقع البشر لا يرقى أصلا إلى ما ينشدون، فإنّهم لا ينفكون عن الحلم يبحثون فيه عن إمكان لمدينة فاضلة وكاملة حسب ابن باجة، لا مكان فيها للظلم وحافظة لاستمرار الوجود الإنسي، لكلّ فيها حدّه، يتوحّد فيها الشيء وضدّه، مدينة يرضها العقل كاملة. هذا مصداقا لقوله: "وبيّن أنّ المدينة الفاضلة الكاملة قد أعطي فيها كلّ إنسان أفضل ما هو معدّ نحوه وأنّ آراءها كلّها صادقة، وأنّه لا رأي كاذبا فيها وأنّ أعمالها هي الفاضلة بالإطلاق وحدها، وأنّ كلّ عمل غيره فإن كان فاضلا فبالإضافة إلى فساد موجود"([6]).

وعندئذ، أفلا يكون طرح مشكل العلم المدني صلب القول الفلسفي الباجي، تُرجمانا على تنصيب فلسفي لإشكاليّة الإنسان في صناعة الفلسفة بعامّة؛ فمسألة "البدء" الفلسفي لإشكاليّة العمليّ قد وجدت في السّؤال عن الإنسان موضعها الأصيل. وعليه، فإنّ التلفت عن التدبير الإلهي والاقتصار على البحث في التدبير الإنسانيّ إنّما ينطوي- إذا تؤمّل من الزاوية التي تهمّنا-على قرار طوبولوجي خطير: إنّه إعادة ترتيب للموضع الّذي يقف فيه الفيلسوف. وقد أفلح ابن باجة بطرح إشكاليّة المتوحّد في دفع إمكانيّة السّؤال عن الفيلسوف إلى أقصاها([7]).

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] هو أبو بكر محمّد بن يحي بن الصّائغ، ويعرف بابن باجة. ولد ابن باجة بسرقسطة من الأندلس عام (1086 م / 479 ه) أي نهاية القرن الخامس الهجري (الحادي عشر ميلاديّا)، ولعلّه كان من عائلة من الصّاغة والمشتغلين بصناعة الفضّة. وليس لنا كثير من المعلومات عن حياة ابن باجة، سوى أنّه قد درس الكثير من العلوم بسرقسطة ولاسيّما الرّياضيات والموسيقى والطّب، وأنّه قد بلغ من الشّهرة والصّيت ما جعله جليسا لحاكم سرقسطة ومقرّبا منه. وقد كال له ابن طفيل الثناء الكبير في مقدّمة كتابه: "حيّ بن يقظان"، بقوله: "لم يكن فيهم أثقب ذهنا ولا أصحّ نظرا وأصدق رويّة من أبي بكر بن الصّائغ". سافر ابن باجة إلى اشبيليّة عام 513ه/ 1118م، وتولّى مهنة الطّب بها وألّف الكثير من كتبه. ثمّ أقبل على بلاط المرابطين في فاس لدى أبي بكر يحي بن يوسف بن تاشفين ويقال إنّه مات مسموما عناك في شهر رمضان سنة 533ه، الموافق لشهر أيار (مايو) من سنة 1139 م. راجع، ابن باجة، مقدمة كتاب تدبير المتوحّد، سراس للنشر، تونس، 1994، ص. 3 –4. وانظر أيضا بخصوص سيرة ابن باجة وحياته: زيناتي (جورج)، الفلسفة في مسارها، الأحوال والأزمنة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، 2002، ص.60

[2] العليبي (فريد): ابن باجة وفلسفة الهجرة إلى العقل، نشر في موقع الأنطولوجيا الإلكتروني، 30 مارس، 2018، ص. 1

[3] المسكيني (فتحي): فلسفة النّوابت، دار الطليعة، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1997، ص. 80

[4] ابن باجة (أبو بكر محمّد بن يحي بن الصّائغ): رسالة الوداع، ضمن رسائل ابن باجة الإلهيّة، تحقيق: ماجد فخري، دار النّهار، بيروت – لبنان، 1968، ص. 114

[5] الزّغباني (كمال): سعادة المفرد أو في طرافة القول الايتيقي الباجوي، المجلّة التونسيّة للدّراسات الفلسفيّة: مسائل إيتيقيّة، السنة الخامسة عشرة، عدد 24/25، تونس، 2000، ص. 35

[6] ابن باجة: تدبير المتوحّد، ص. 11

[7] المسكيني (فتحي): فلسفة النّوابت، ص ص. 90-91