المفكر نصر حامد أبو زيد ومحنة تحرير العقل من السلطة الدينية والسياسية


فئة :  مقالات

المفكر نصر حامد أبو زيد ومحنة تحرير العقل من السلطة الدينية والسياسية

المفكر نصر حامد أبو زيد

ومحنة تحرير العقل من السلطة الدينية والسياسية[1]

على سبيل البدء:

يعدّ المفكر المصري نصر حامد أبو زيد أحد أهم المفكرين الذين اهتموا بقضية تجديد الفكر الديني الإسلامي، وهو أيضا أحد رموز المفكرين المتنورين الذين حملوا رهان بلورة فهم جديد وعصري للإسلام، حتى يدخل ضمن دائرة التواصل الكوني، عبر ترسيخ مبدأ تعايش الأديان وتحرير العقل الديني من كل أشكال التزمت والإرهاب والاستبداد، وزعامة احتكار الحقيقة واليقين في تأويل النص الديني، وذلك من خلال إقراره بعملية تأويل النص الديني، عكس ما كان عند دعاة الفكر الديني، الذين كانوا يقدمون التفسير على حساب التأويل، فهذا الأخير عندهم كان محظوراً، هذا بالإضافة إلى تحريره للعقل الديني من السلطة الدينية والسياسية...

لكن هذه القناعات الفكرية التي كان يؤمن بها المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد (10 يوليو/تموز 1943 - 5 يوليو/تموز 2010) أفضت إلى اتهامه بمجموعة من التهم الملفقة، بداية من الجامعة التي رفضت ترقيته كما يحكي هو في سيرته الذاتية التي تضمنها كتاب "صوت في المنفى"، والتي أعدتها الأستاذة الجامعية إستر نيلسون، وهذه الواقعة لا نجد لها تفسيراً من وجهة نظرنا في - هذه المساهمة- سوى في رفض الفكر النقدي والتجديدي من داخل التراث الديني، وممارسة السلطة على كل من حاول أن يسائل هذه المنظومة الأيديولوجية.

لهذا سنتناول في هذه المساهمة، كيف عانى نصر حامد أبو زيد من ويلات ممارسة السلطة عليه، بداية من رفض ترقيته في الجامعة، ثم سنرى كيف كان يرى نصر حامد أبو زيد منظومة الفكر الديني الإسلامي من خلال مناقشتنا للقضايا التالية:

- الجامعة وبداية محنة نصر حامد أبو زيد

- في سلطة التفسير ورفض التأويل

- في مفهوم النص أو في "سلطة النص الديني"

- التفكير في زمن التكفير أو في التشبث بأمل التفكير في زمن ممارسة "السلطة الدينية والسياسية"

أولا: في "سلطة الجامعة"

إن الفكر الديني الإسلامي حسب نصر حامد أبو زيد ظل خاضعاً لسلطتين جعلتاه محدوداً، وهما: "سلطة النص الديني وسلطة النص السياسي"[2]، لكن نقده هذا ومساءلته لمنظومة الفكر الديني الإسلامي المتزمتة قد أدى بنصر حامد أبو زيد إلى إدانته بمجموعة من التهم الخطيرة، لعل أبرزها تكفيره، مما أفضى إلى ممارسة السلطة والتسلط عليه؛ وذلك من خلال تفريقه عن زوجته ومحاولة نفيه عن وطنه الأم مصر، بعدما "نشأت حرب كلامية بين الإسلاميين، الذين اعترضوا على النتائج التي توصل إليها نصر حامد أبوزيد في بحثه عن القرآن، وبين المفكرين الأحرار الذين رعوا من موقف جامعة القاهرة، التي لعبت دور الميت في هذه القضية، تركت الساحة للإسلاميين - الذين وصفوهم بالفتوات- ليتحكموا في القرارات الأكاديمية التي كانت يجب أن تصدر عن الجامعة"[3].

وكان نتيجة هذه الحرب حسب نصر حامد أبوزيد هو حرمانه من الترقي لمنصب أستاذ جامعي، فلماذا حرم نصر حامد أبو زيد؟

لم يجد نصر حامد أبو زيد ما يفسر به هذا الحرمان، إلا بما سماه "تشبث الإسلاميين بالماضي، وهو ما يروق لمن يجدون في التغيير والتطور وضعا يهدد وجودهم"[4]، لكن المفكرين الأحرار حسب نصر حامد أبو زيد لا ينظرون إلى التراث الإسلامي مقدساً في ذاته؛ لأن الفكر الديني ليس هو الدين حسب أبو زيد، فالفكر الديني (هو فكر بشري) يأتي بشكل خاص من الإسلاميين، وهو مجمل القراءات والتفسيرات البشرية للنص الديني، لكن كل هذه الأمور جعلت الأستاذ عبد الصبور شاهين الذي كان يعمل بجانب وظيفته كأستاذ بجامعة القاهرة خطيباً لجامع عمر بن العاص الموجود بمصر القديمة، وفي يوم الجمعة الموافق 2 أبريل/نيسان 1993؛ أي ليس بعد وقت طويل من رفض الجامعة لنصر حامد أبو زيد بشكل رسمي "قام شاهين من على المنبر بإعلان نصر حامد أبو زيد مرتدّا، الجمعة التي تلتها 9 أبريل/ نيسان، كان خطباء المساجد حول مصر يتبعون خطاه، بمن فيهم خطيب مسجد صغير في قرية نصر حامد أبو زيد قحافة، وهو صديقه الذي تربى وحفظ القرآن معه في الكتاب"[5].

لم يقف الأمر في حدود تلفيق التهم لنصر حامد أبو زيد بكونه مرتداً، تطور الأمر إلى درجة ممارسة السلطة عليه قضائياً، حينما تفاجأ بقرار رفع دعوى عليه بكونه مرتدّاً ولا يجوز لمرتد أن يتزوج مسلمة؛ بمعنى "ليس من حق المرأة المسلمة أن تتزوج من هو على غير ملتها"[6]، فانتهت الدعوة القضائية بتفريقه عن زوجته ابتهال يونس أستاذة اللغة الفرنسية المساعدة بجامعة القاهرة، وهذا التفريق في الحقيقة ليس من قبلها، وإنما من قبل مجموعة من الإسلاميين الذين كانوا ينظرون إلى فكر الدكتور نصر حامد أبو زيد بأن أفكاره خارجة عن الملة، لهذا نجده يقول في هذه المسألة: "ما أقره عدد من العلماء ذوي الحيثية - لو أن المحكمة رأت في كتاباتي شيئاً إلحادياً، فلن تكتفي فقط بالتفريق بيني وبين زوجتي، بل سيتم فصلي من وظيفتي التدريسية بالجامعة - كما نشر أحد محرري مجلة "اللواء الإسلامي""[7].

إن هذه التهمة التي لفقت لنصر حامد أبو زيد تجاوزت كل الحدود، حينما طالب خطباء المساجد بهدر دمه، لأنه لا يحق له كمرتد أن يظل متزوجاً من امرأة مسلمة، مما حتم عليه هو وزوجته ابتهال يونس أن يظلا محتجزين في شقتهما، بعدما حكمت محكمة القاهرة بأن معظم كتاباته تثبت بأنه مرتد، وفي الخامس من أغسطس/ آب عام 1996 - وللأسف الشديد- أيدت المحكمة العليا قرارها بتاريخ 14 يونيو/حزيران 1995، وذكرت أسباب إدانته في التهم التالية[8]:

- أنكر أن الله ذو العرش العظيم، وأنه تعالى وسع كرسيه السموات والأرض، وأن من خلقه الجنة والنار والملائكة والجان، رغم ورود آيات القرآن قاطعة الدلالة في ذلك.

- وصف القرآن بأنه "منتج ثقافي"، وعليه ينكر سابقة وجوده في اللوح المحفوظ.

- وصف القرآن بأنه نص لغوي (وهو ما يتضمن تكذيب النبي محمد في تلقيه للوحي من الله).

- وصف علوم القرآن بأنها تراث رجعي، وهاجم تطبيق الشريعة، ونعت ذلك بالتخلف والرجعية، زاعماً أن الشريعة هي السبب في تخلف المسلمين وانحطاطهم.

- الإيمان الميتافيزيقي ينم عن عقل غارق في الخرافة.

- وصف الإسلام بأنه دين عربي، نافياً عنه عالميته وأنه للخلق أجمع.

- القول في أن تثبت القرآن في قراءة قريش كان لتحقيق القرشية التي سعى إليها الإسلام (النبي محمد كان قرشيا).

- إنكار حجة السنة النبوية.

- الدعوة للتحرر من النصوص الشرعية بزعم أنه ليس فيها عناصر جوهرية ثابتة، وأنها لا تعبر إلا عن مرحلة تاريخية ولّت.

- وصف اتباع النصوص الشرعية بأحد أشكال العبودية.

كل هذه التهم في نظرنا، تعبر عن سوء فهم فكر نصر حامد أبو زيد، لأنها موجهة بخلفية دينية ذات تواطئ سياسي، وإن كان نصر حامد أبو زيد يرجح نفسه المعطى الثاني الذي يعبر في الحقيقة عن صراع مع نمط من التفكير الأصولي الذي يرفض كل أشكال التغير والتطور في التراث عبر محاربة كل أشكال التجديد والتنوير داخل النص التراثي؛ لأن ذلك يهدد مصالحهم الذاتية التي جعلتهم يوظفون الدين توظيفاً براغماتياً، من هنا كانت دعوى نصر حامد أبو زيد إلى تطبيق التفكير النقدي والبحث العلمي في مجال الدراسات الإسلامية عبر مساءلة النص الديني، ومحاولة إعادة تأويله تأويلاً جديداً يتماشى مع مقتضيات عصره، لكن هذا الأمر لم يكن سهلاً في وسط كانت مناهج تقديس القراءات السالفة للتراث عبر تقديس مجال الوعظ والخطابة، ما زالت تسود فيه. ومن بين القضايا التي دافع عنها نصر حامد أبو زيد، ولم ترق أيضاً دعاة التفكير الأصولي، هي حديثه عن مفهوم التأويل الذي كان غير مرغوب فيه لدى أنصار هذا النمط من التفكير.

ثانيا: في سلطة التفسير ورفض التأويل

إن العلاقة التقليدية التي كان يتم التعامل بها مع النصوص الدينية هي علاقة تخضع النص للمُفَّسِر؛ أي تخضع النص لقراءات المُفَّسِر نفسه، لكن هذه العلاقة يجب إعادة النظر فيها "في العلاقة مع التراث الديني بكل جوانبه"[9]، وذلك عبر إقامة الفرق بين التفسير والتأويل مع الإعلاء من شأن التفسير، في حين أنها تغض الطرف عن قيمة التأويل، على اعتبار أن طريق التفسير هي طريق الموضوعية، بينما طريق التأويل هي طريق الذاتية، فأين يتجلى وجه الموضوعية المزعومة في هذا الطرح؟

تتجلى في كونها موضوعية تاريخية "تفترض إمكانية أن يتجاوز المفسر إطار واقعه التاريخي وهموم عصره، وأن يتبنى موقف المعاصرين للنص، ويفهم النص كما فهموه في إطار معطيات اللغة التاريخية عصر نزوله"[10]، فحسب نصر حامد أبو زيد، هذا التصور متناقض، لكونه يؤمن بأن النص صالح لكل زمان ومكان لأنه يحتوي كل الحقائق، ويعد جماعاً للمعرفة التامة؛ لأن هذا الاعتقاد يتناقض تماماً مع القول بضرورة اعتماد المفسر على المأثورات المروية عن الجيل الأول أو الجيل الثاني على الأكثر، والوقوف على فهمهم وتفسيرهم للنص، فما هو مخرج هذه المعضلة حسب نصر حامد أبو زيد؟

لم يجد دعاة الفكر الأصولي ما يتمسكون به لحل هذه المعضلة، سوى اعتبار أن المعرفة الدينية لا تخضع للتطور، فكل ما جاء به الصحابة والتابعين هو المعرفة الكاملة والتامة للأمور الدينية، وأن "التمسك بمعرفتهم هو العاصم من الزلل"[11]، مما سيترتب عنه عزل المعرفة الدينية عن غيرها من أنواع المعرفة من جهة، وإلى إنكار تطور المعرفة الإنسانية بصفة عامة من جهة أخرى، كما فعل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهذا الأمر من وجهة نظرنا في غاية الخطورة.. فالتأويل عند أنصار هذه الدعوة "تحول إلى مصطلح مكروه في الفكر الديني المعاصر"[12]، فحتى تفسير السلف من الصحابة والتابعين نفسه لا يخلو عند أصحاب هذا التصور "من موقف اختياري يعتمد على الترجيح بين الآراء"[13]، وهذا الترجيح يعكس موقفاً تأويلياً نابعاً من موقف المفسر وهموم عصره وإطاره الفكري والثقافي، وهذه لا يمكن أن يتجنبها المفسر، فمثلا تفسير الصحابة وخاصة الصحابي ابن عباس لا يتجاوز إطار التأويل، "فقد كان لابن عباس موقف من الخوارج ومن تأويلاتهم، وهو موقف انعكس في الروايات المأثورة عنه في كتب التفسير، والتي يرد فيها على تأويلاتهم، بل يؤول بعض آيات القرآن التي تهاجم المؤولة على أساس أن المقصود بها الخوارج"[14]، ومع ذلك ترفض الحركات الإسلامية في كل أنحاء العالم الإسلامي "أي تأويل عصري حداثي للإسلام"[15]، وخصوصاً إذا طال هذا التأويل النصوص المقدسة كالقرآن والسنة النبوية، ومن ثمة أصبحت كلمة التأويل كلمة مخيفة؛ لأنها تعني فرض الرؤى الشخصية والأوهام الإيديولوجية على معاني هذه النصوص، فهذا الخوف في الحقيقة حسب نصر حامد أبوزيد هو خوف من التجديد المبني على الفكر النقدي خاصةً إذا طال النصوص الدينية، لهذا تم رفضه ومحاربة كل من يمارسه على هذه النصوص ذاتها.

ثالثا: في مفهوم النص أو "في سلطة تفسير النص الديني"

ينظر نصر حامد أبو زيد إلى القرآن في دراسته "مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن"، الصادر عن المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود عام 2014، ويرى بأنه نص لغوي يمكن اعتباره نصا محوريا في تاريخ الثقافة العربية[16]، ولهذا وُصفت الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة "النص"؛ بمعنى أنها "حضارة انبتت أسسها وقامت علومها وثقافتها على أساس لا يمكن تجاهل مركز "نص" فيه"[17]، فلا ينبغي في هذا السياق أن نفهم بأن النص هو الذي ينشئ الحضارة، فإن النص أياً كان لا ينشئ الحضارة ولا يقيم علوماً ولا ثقافةً، لأن الذي ينشئ الحضارة هو "تفاعل الإنسان مع الواقع وجدله معه، - بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية – هو الذي ينشئ الحضارة"[18]، كما يعتبر نصر حامد أبو زيد بأن للقرآن في الحضارة الإسلامية دورا ثقافيا لا يمكن تجاهله في تشكيل ملامحها وتحديد طبيعة علومها، ولكن إذا كانت الحضارة ترتكز على "نص" بعينه إلى درجة أنه يمثل أحد محاورها الأساسية، فلابد من حضور عنصر التأويل، باعتباره الوجه الآخر للنص، يمثل آلية هامة من آليات الثقافة والحضارة في إنتاج المعرفة، وعليه يجب التعامل مع النص الديني من خلال تعدد تفسيراته وتأويلاته، وهذا هو ما يوسع من دائرة الفهم للنصوص، لا سيادة الفهم الأحادي الذي يحارب هذه التأويلات المتعددة والمتنوعة بتعدد ثقافة وعلوم هذه الحضارة، وكل هذا لا يتم إلا عبر اعتبار القرآن "نصاً لغوياً"[19] وهذا ما سيدفعنا نحو تحقيق وعي علمي بالتراث نتجاوز من خلاله التوجيه الأيديولوجي السائد في ثقافتنا وفكرنا، وهذا لن يتم إلا عبر إعادة قراءة النص الديني قراءة جديدة وباحثة، وتجاوز موقف الخطاب الديني الذي هو موقف الترديد والتكرار الذي يعتبر أن كل من علوم القرآن وعلوم الحديث يقعان في دائرة العلوم التي نضجت واحترقت، حتى لم يعد فيها للخلف ما يضيفه إلى السلف، ولهذا نجد نصر حامد أبو زيد يرد على أنصار هذا التصور بقول السيوطي الذي يعتبر فيه "العلوم وإن كثر عددها، وانتشر في الخافقين مددها، فغايتها بحر قعره لا يدرك، ونهايتها طَود شامخ لا يستطاع إلى ذروته أن يسلك، ولهذا يفتح لعالم بعد آخر الأبواب ما لم يتطرق إليه من المتقدمين الأسباب"[20]، فهذا القول لا ينقله علماؤنا لأنه لا يخدم مصالحهم الذاتية، وهذه هي مشكلة العقل الديني الإسلامي المعاصر، الذي لا يقبل التجديد في التراث الذي يقوم على وجود "أصل" قديم، لكن هذا الأصل القديم هو "التراث" ليس واحداً، بل يجب فهمه باعتباره متنوع متغير طبقاً لطبيعة القوى المنتجة له، فالتراث حسب نصر حامد أبو زيد "ليس واحداً بل هو اتجاهات وتيارات عبرت عن مواقف وقوى اجتماعية وعن أيديولوجيات ورؤى مختلفة"[21]. ما ترتب عنه أن التراث ليس مستقلاً عن الواقع الحي المتبدل، بل يعبر عن روح العصر، وتكوين الجيل ومرحلة التطور التاريخي، ومن تم فالعلاقة بين النص والثقافة هي علاقة جدلية معقدة، تتجاوز كل الأطروحات الأيديولوجية في ثقافتنا الدينية المعاصرة التي أدخت النص القرآني إلى ساحة النزاع الأيديولوجي والمذهبي، نزاع ينتمي إلى التلاعب بالمعنى لغايات براغماتية تبريرية.

رابعا: التفكير في زمن التكفير، أو في التشبث بأمل التفكير في زمن ممارسة "السلطة الدينية والسياسية"

لم ينسحب نصر حامد أبو زيد من ساحة التفكير في الفكر الديني، بل ظل متشبثاً بأمل التفكير في زمن التكفير، وبالرغم من كل المضايقات والمتابعات والتهم الملفقة له من طرف السلطة الدينية والسياسية، ظل نصر حامد أبوزيد يحمل رهان التفكير في منظومة الفكر الديني الذي كان يميزه عن الدين، فهذا الأخير "هو مجموعة نصوص المقدسة الثابتة تاريخياً، في حين أن الفكر الديني فهو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها"[22]، وما ينبغي أن يعرفه دعاة الفكر الديني المعاصر أن الاجتهادات تختلف من عصر إلى عصر، ومن ثقافة لأخرى، ومن مفكر لآخر، ولا ينبغي اعتبار دعاة هذا النوع من الاجتهاد والتجديد داخل الفكر الديني بأنهم "مرتدين" كما وقع مع نصر حامد أبو زيد الذي لم يجد ما يفسر به التهم الملفقة له إلا من خلال اعتبار هذه القضية هي قضية صراع بين نمطين من التفكير أديا إلى صراع فكري يعبر من خلاله كل موقف لهما عن الواقع السياسي والاجتماعي من جهة، وآخر يعبر موقف من التراث الديني الإسلامي بصفة خاصة[23]؛ فهذان الموقفان في الحقيقة هما سلطتان متصارعتان من وجهة نظرنا داخل منظومة الفكر الإسلامي مند القديم، فما غاية كل موقف أو بالأحرى كل سلطة من هاتين السلطتين؟[24]

- الموقف الأول: هذا الموقف في الحقيقة يعرف حضور نمط من التفكير غايته الحفاظ عن "الثبات" و"التثبيت" من خلال الدفاع عن الماضي والتشبث بقيمه وأعرافه مهما كانت النتائج التي يفضي إليها ذلك، حتى ولو على حساب الحاضر وسد الطريق نحو المستقبل؛ ففي هذا النمط من التفكير محاربة كل قيمة تنشد التغيير والنفور من كل تطور، ولا يجد ما يفسره به نصر حامد أبو زيد هذا التشبث بالدفاع على محاربة التغيير إلا بدفاع دعاة هذا النمط من التفكير عن مصالحهم الذاتية القائمة في الحاضر، هي مصالح في الحقيقة يهددها التغيير، ويقضي عليها التطور، مما أدى بهم إلى استخدام التراث استخداماً نفعياً ذا طابع سياسي براغماتي، فهذا النمط من وجهة نظرنا من أخطر أنماط التفكير البشري، لماذا؟ لأن أية محاولة الخروج عنه أو نقده أو تفكيكه سيؤدي بصاحبه حتماً إلى مجموعة من التهم الملفقة والجاهزة، والتي تعد أبرزها تهمة "التكفير" كما حدث مع نصر حامد أبوزيد الذي وضع الأصبع عن جرح الفكر الديني الإسلامي بمنهجه النقدي التجديدي.

- الموقف الثاني: يرتكز هذا الموقف الثاني بشكل كبير على نمط من التفكير تعد أبرز ركائزه الفهم والاستنباط الجوهري والدفاع عن التطور لمعانقة المستقبل. وما ينبغي فهمه في هذا السياق، هو أن دعاة هذا النمط من التفكير لا يعادون الدين كما لا يستبعدونه. كما اتهمهم أصحاب الموقف الأول، بل كل غايتهم هي "الفهم"؛ أي فهم "التراث والدين معاً" فهماً بعيداً كل البعد عن الاستغلال البراغماتي للدين، ولهذا فلا غرابة أن نجد دعاة هذا الاتجاه متسلحين بمنهج نقدي لا يخشون من خلاله من التراث كما لا يقدسونه ما دام فكراً بشرياً حول الدين، لهذا يدرسون التاريخ دراسة نقدية لا تراثية، ويدرسون تاريخ الفرق الإسلامية والكلامية والفقهية والفلسفية من منظور نقدي، وسلاح النقد هذا هو ما يجعل رواد الاتجاه الأول يصفونهم ب"المرتدين" كما هو بالنسبة إلى نصر حامد أبو زيد، وقد تصل إلى الكراهية والتحريض على القتل؛ لأن النقد كما يقول هو ما يسحب البساط من تحت أقدامهم ويجعلهم مكشوفين في العراء.

على سبيل الختم:

سيبقى نصر حامد أبو زيد، وبالرغم من كل المضايقات ومن كل معاناته من السلطة الدينية والسياسية، أحد أهم دعاة الاتجاه النقدي العقلاني في الإسلام، الذي تمسك بكل جرأة بالمنهج النقدي الذي يخشاه دعاة الفكر الديني الإسلامي، والذي أعاد به قراءة وتجديد التراث بمختلف قيمه المعرفية والدينية والسياسية، فلم تكن له من غاية سوى غاية "التجديد" الفكر الديني الإسلامي، ومحاولة تحريره من كل استعمال براغماتي هذا من جهة، ومن جهة ثانية تحريره من كل استعمال سياسي متواطئ، مما جعل نصر حامد أبو زيد واحداً من أجرأ المفكرين المسلمين المعاصرين الذين استطاعوا أن يضعوا الأصبع على الجرح من خلال مناقشته لـ"جدلية الديني والسياسي" في منظومة الفكر الديني الإسلامي.

 

المراجع المعتمدة:

- إستر نيلسون، نصر حامد أبو زيد، صوت في المنفى، تأملات في الإسلام، ترجمة: نهى هندي، الهيئة العامة لدار الكتاب والوثائق القومية المصرية، الطبعة الأولى.

- فوزية ضيف الله، نصر حامد أبو زيد قارئا للقرآن "الأسس التأويلية وآليات القراءة"، بحث محكم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 12 مايو/أيار 2017.

- نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة 2008، الدار البيضاء.

- نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل: بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2010، الدار البيضاء المغرب.

- نصر حامد أبو زيد، التفكير في زمن التكفير، ضد الجهل والزيف والخرافة، مكتبة مدبولي، الطبعة الثانية 1995.

- نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل "دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي"، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1983، بيروت، لبنان.

- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2014، المغرب.

- نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، دار سينا للنشر، الطبعة الثانية 1994، القاهرة، مصر.

[1]- مجلة ذوات العدد 59

[2] نصر حامد أبوزيد، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة 2008، الدار البيضاء، ص: 129

[3] استر نيلسون، نصر حامد أبوزيد، صوت في المنفى، تأملات في الإسلام، ترجمة: نهى هندي، الهيئة العامة لدار الكتاب والوثائق القومية المصرية، الطبعة الأولى 2015، ص: 17 (بتصرف)

[4] استر نيلسون، نصر حامد أبوزيد، صوت في المنفى، تأملات في الإسلام، ترجمة: نهى هندي، الهيئة العامة لدار الكتاب والوثائق القومية المصرية، الطبعة الأولى 2015، ص: 20

[5] إستر نيلسون، نصر حامد أبوزيد، صوت في المنفى، تأملات في الإسلام، ترجمة: نهى هندي، الهيئة العامة لدار الكتاب والوثائق القومية المصرية، الطبعة الأولى 2015، ص: 19 (بتصرف)

[6] إستر نيلسون، نصر حامد أبوزيد، صوت في المنفى، تأملات في الإسلام، ترجمة: نهى هندي، الهيئة العامة لدار الكتاب والوثائق القومية المصرية، الطبعة الأولى 2015، ص: 19

[7] إستر نيلسون، نصر حامد أبوزيد، صوت في المنفى، تأملات في الإسلام، ترجمة: نهى هندي، الهيئة العامة لدار الكتاب والوثائق القومية المصرية، الطبعة الأولى 2015، ص: 20

[8] إستر نيلسون، نصر حامد أبوزيد، صوت في المنفى، تأملات في الإسلام، ترجمة: نهى هندي، الهيئة العامة لدار الكتاب والوثائق القومية المصرية، الطبعة الأولى 2015، ص، ص: 24/25

[9] نصر حامد أبوزيد، فلسفة التأويل "دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي"، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1983، بيروت، لبنان، ص: 11

[10] نصر حامد أبوزيد، فلسفة التأويل "دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي"، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1983، بيروت، لبنان، ص: 11

[11] نصر حامد أبوزيد، فلسفة التأويل "دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي"، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1983، بيروت، لبنان، ص: 12

[12] فوزية ضيف الله، نصر حامد أبوزيد قارئا للقرآن "الأسس التأويلية وآليات القراءة"، بحث محكم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 12 مايو 2017، ص: 8

[13] نصر حامد أبوزيد، فلسفة التأويل "دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي"، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1983، بيروت، لبنان، ص: 12

[14] نصر حامد أبوزيد، فلسفة التأويل "دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي"، دار الوحدة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1983، بيروت، لبنان، ص: 12/13

[15] نصر حامد أبوزيد، التجديد والتحريم والتأويل "بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير"، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2010، الدار البيضاء المغرب، ص: 35

[16] نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2014، المغرب، ص: 9

[17] نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2014، المغرب، ص: 9

[18] نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2014، المغرب، ص: 9

[19] نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2014، المغرب، ص: 10

[20] نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2014، المغرب، ص: 11

[21] نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2014، المغرب، ص: 16

[22] نصر حامد أبوزيد، نقد الخطاب الديني، دار سينا للنشر، الطبعة الثانية 1994، القاهرة، مصر، ص: 19

[23] نصر حامد أبوزيد، التفكير في زمن التكفير، ضد الجهل والزيف والخرافة، مكتبة مدبولي، الطبعة الثانية 1995، ص: 20

[24] نصر حامد أبوزيد، التفكير في زمن التكفير، ضد الجهل والزيف والخرافة، مكتبة مدبولي، الطبعة الثانية 1995، ص: 21/22/23