المنصف بن عبد الجليل: الإصلاح التّربوي: التّجربة وقضايا الرّاهن (الجزء الأول)


فئة :  حوارات

المنصف بن عبد الجليل: الإصلاح التّربوي: التّجربة وقضايا الرّاهن (الجزء الأول)

د. نادر الحمّامي: أقف اليوم في مقام المتعلّم من معلّمه، كما وقفتُ دائماً، لأنّ ضيفنا هو الأستاذ المنصف بن عبد الجليل، أستاذ الحضارة بالجامعة التّونسيّة المتخرّج في دار المعلّمين العليا والمبرّز في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة، وهو معنا اليوم لنحاوره ولنفيد من تجربته المهمّة أستاذاً ومؤطّراً، وممّا نشره من أبحاث ودراسات، ونستفيد أيضاً من تجربته في مسائل الإصلاح التّربوي والتّعليمي وما اشتغل عليه في هذه المجالات، وكذلك من تجربته الإداريّة حين كان عميداً لكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة بين سنتي 2011 و2017، لذلك أعبّر عن سعادتي العميقة بالجلوس إليك أستاذ المنصف، والحديث معك، كما أشكرك على قبول الدّعوة. ونودّ في المحور الأوّل من حوارنا، أن ننطلق من مسألة الإصلاح التّربوي الذي ساهمتَ فيه في مرحلة التّسعينيات، والذي تعلّق ببرامج التّعليم الابتدائي والثّانوي، وبإصلاح التّعليم الزّيتوني والإشراف على برامجه وتوجهّاته. ولعلّ ما عرفته تجربة الإصلاح التّربوي في تونس من تذبذب يجعلنا لا نبلغ مداه، رغم قناعتنا بالحاجة إليه، فما مدى ضرورة هذا الإصلاح اليوم، خاصة في ظلّ الرّهانات الكبرى التي يعيشها مجتمعنا؟ وما هي العراقيل التي تحول دون إصلاح تربويّ حقيقيّ في كافّة المستويات التّعليميّة؟

د. المنصف بن عبد الجليل: إنّ مسألة الإصلاح التّربوي ذات راهنيّة، فهي لا تهمّ ما سبق من السّنوات فحسب، وإنّما تتعّلق بالرّاهن أيضاً؛ بمعنى أن ننظر في ما يمكن أن يكون مناسباً اليوم لما يطالب به النّاس وما تقتضيه أوضاع المؤسّسة التّعليمية العموميّة. لقد شغلت خطّة مستشار وزير التّربية والعلوم تحت إشراف المرحوم الأستاذ محمّد الشّرفي، ثم مستشار لدى وزير التّعليم العالي والبحث العلمي تحت إشراف الأستاذ أحمد فريعة، الذي تولّى الوزارة لفترة وجيزة، وتلاه الأستاذ الدّالي الجازي ثم الأستاذ الصّادق شعبان، ولم تكن مدّة الاستشارة أيام الوزير الرّابع طويلة، لأنّني فضّلت الانقطاع إلى التّدريس والبحث، وكانت تجربتي الدّوليّة عندما درّست بلندن. وقد كان الإصلاح التّربوي الذي دُعيت إلى المساهمة فيه ذا مرحلتين؛ الأولى في آخر وزارة الشّرفي، حين دُعيت إلى إتمام ما كان قد بدأه زميلي الأستاذ حميدة النّيفر، وتمّ تكليفي بجزئيّة دقيقة هي متابعة إصلاح التّربية الإسلاميّة في المدارس الابتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة، وقد سبق أن شاركت في ما قدّمه النّيفر، حين كنت عضواً ضمن لجنة تّأليف الكتب المدرسيّة وعلى صلة بما كان يحدث، وكنت أدري تمام الدّراية ما هو التّصوّر الذّهنيّ الذي يكون في أفقه الإصلاح الذي شخّصه وضبطه وحدّده الأستاذ محمّد الشّرفي، وهو يعدّ ثاني إصلاح بعد الإصلاح التّأسيسي الأوّل الذي أنجزه المرحوم محمود المسعدي، وقد مثّلت مشاركتي فرصة بالنّسبة إليّ للنّظر في مقوّمات الإصلاح التّربوي الذي أُنجز سنة 1989، ثم نشر تماماً بدقّة كاملة سنة 1991، وساهم فيه ثلّة من المستشارين من ذوي الكفاءة العالية، أذكر من بينهم الأستاذ حمّادي بن جاء بالله في الفلسفة والمؤرّخ الأستاذ توفيق العيّادي وأستاذ الدّراسات العربيّة هشام الرّيفي، ومن بينهم أيضاً المرحوم عبد القادر المهيري وكان رجلاً فذّاً، إلى جانب عدد آخر من المستشارين المتخصّصين في العلوم التّقنيّة والعلوم الفيزيائيّة وغيرها. وأظنّ أن أهمّ ما في هذا الإصلاح التّربوي هو الفصل الأوّل الذي يحتوي على فصول متتابعة تبيّن فلسفة التّعليم والتّربية والغائيّات الكونيّة التي نطمح إلى تحقيقها من خلال العمليّة التّربويّة، في إطار الحرص على ترسيخ القيم الإنسانيّة الكونيّة ضمن البرامج التّعليميّة المختلفة، ولعلّ أقوى مبدأ من هذه المبادئ التي ضبطها هذا الإصلاح التّربوي هو أن نصل بالنّاشئة إلى مرحلة التّرشّد الذّاتي الذي لا يمكن أن يكون إلاّ بعد أن تُدرّب على حرّية التّفكير وعلى التّفكير النّقدي، وتكون قادرة على تمثّل الأحداث التي تنشأ، وقادرة على فهم الماضي بأحداثه المعقّدة وبتخومه المركّبة، وقادرة أيضاً على استثمار المعارف العلميّة الجديدة في علوم الإنسان وغيرها، حيث يمكن أن تقدّم معرفة صالحة مشتقّة من رهانات العصر ومن التّطوّر الفعليّ للمعارف من حولنا. عندما يتحقّق هذا كلّه يشعر التّلميذ بأنّه مجذّر في ما يخصّه، وبأنّه جزء في ما يحدث حوله، وبهذا نزاوج بين التّرسّخ في ما يسمّى الهويّة العربيّة والإسلاميّة التي ننتسب إليها، والتّجذّر في حقب تاريخيّة تتالت على البلاد التّونسيّة، لا تقلّ أهمّية عن الحقبة الإسلاميّة، حتّى يشعر النّشأ أنّه جزء من الألفيّة الثّالثة، ولا يمكن أن ينفصل عنها ليعيش بفكره داخل ما سلف، وإنّما عليه أن يعيش بفكره داخل ما يحدث وما سيحدث، وأن يشتقّ روحانيّته، وكلّ ما يتعلّق به من تخوم هذا التّاريخ الذي ميّز هذه البلاد.

تلك مقوّمات مهمّة في الإصلاح التّربوي، وقد راعيتها شخصيّاً عندما نظرت وناقشت وتصوّرت، مع فريق كبير بالاعتماد على ما أنجز الأستاذ حميدة النّيفر، هذه المسائل في التّربية الإسلامية وبرامجها. وهي تنقسم إلى ثلاث مسائل أساسيّة، وهذه فرصة لشرحها، حتى لا يُردَّدَ بمثابة التّكرار أنّ محمد الشّرفي قد جفّف المنابع عند تعليم الإسلام والإسلاميّات؛ المسألة الأولى تتمثّل في تقديم ما يخصّ الأساسيّات في ما يسمى الإسلام السنّي، من عبادات وحفظ قرآن ومسائل أخلاقيّة، مراعين في ذلك أنّ الأخلاق قد ترتبط بالدّين وقد لا ترتبط به أيضاً، لأنّ الإنسانيّة متقدّمة على التّديّن، وإنّما التّديّن يدعمها ويكرّسها ويفتح آفاقها من باب أنّه يردّ الأخلاقيّات إلى روحانيّة تزيدها قوّة. وأشير في هذا الجانب إلى أنّنا، إلى اليوم، في مدارسنا لا نعلّم الإسلام المتعدّد ولا المسائل المتعلّقة بالإسلام في تنوّعه، فمازلنا قاصرين نظرنا على ما يخصّ الإسلام السّنّي، وربّما المالكي، بحثاً عن تجذير النّاشئة في محيطها، ولكن عندما ينظر الباحث بشيء من الابتعاد عمّا يجري لا يجد معنى في أن نكرّس هذه السّنّيّة المفرطة وأن ننغلق داخلها، ولعلّنا لو درّسنا هذا التّنوّع الذي شمله الإسلام، لكانت النّاشئة أكثر تقبّلاً للاختلاف، والذي اختزله أبو الحسن الأشعري في جملة مفيدة في "مقالات الإسلاميّين" بعد أن عدّد الفرق وقال: "والإسلام يشتمل عليها جميعاً"، وهنا نرى رجاحة فكر الأشعري وقتها، وهو ينظر إلى الفرق جميعها على أنّها في حظيرة الإسلام لا خارجة عنه. أمّا المسألة الثّانية التي نظرنا فيها، فكانت مسألة المعاملات في ما يتعلّق ببرامج المدرسة الإعداديّة، وكانت الغاية أن نأخذ النّاشئة من البعد الفرديّ إلى البعد الجماعيّ، حتّى يظهر لديها شيء من السّيرة والسّلوك السويّين، حيث لا يكون التّطبيق آليّا حرفيّا، وإنّما يكون من وحي المحيط والمحضن والقيم الأخلاقيّة التي ينتظم بها المجتمع دائماً، مع الانتباه إلى أنّ هذا المحضن لا يشتمل فقط على مسلمين، وإنّما يضمّ غير المسلمين، ولا يشتمل على سنّيين فقط، وإنّما قد يشتمل على أناس هم أطراف في الانتظام الاجتماعي الذي بدوره لا يكون إلاّ بسلم اجتماعيّة كونيّة تحقّق هذا الاستمرار والانضباط والوئام الذي يحدث داخل المجتمع. أمّا المسألة الثالثة، فهي تهمّ المرحلة الثّانوية، وتمّ الانتقال فيها من مستوى التّربية الإسلاميّة إلى مستوى التّفكير الإسلامي، من منطلق التّرقّي بالتّلميذ الذي تلقّى بوصوله إلى هذه المرحلة من التّعليم، ما يمكّنه من إعادة النّظر والتّفكير. وقد شغلناه بكلّ النّصوص التّراثيّة والأصليّة لا من باب تقويضها، وإنّما من باب محاكاة آرائها النّقديّة والاستماع إلى جميع أصواتها وردّها إلى سياقاتها التّاريخيّة، حتى يفهم المغزى من كلّ اتّجاه وكلّ مصدر، ويتبيّن أنّ الخلف كان متحرّرًا عن السّلف، فلم يكن الفقهاء يقلّدون بعضهم البعض، والذين كانوا يقلّدون، إنّما هم التّلاميذ المعجبون بشيوخهم، فلم يزعم أيّ من أئمّة المذاهب أنّه صاحب مدرسة أو صاحب إمامة أو أنّه أسّس مذهباً ولابدّ من اتّباعه، فجميع مذاهب الفقهاء تأسّست بعديّاً، بعد أن استقرّت أفكارهم وهذّبت ودقّقت على أيدي تابعيهم، ومن بين أولئك التّابعين من ناقش أفكار إمامه وابتعد عنه وفارقه، وتأسّست بذلك مدارس فقهية فرعيّة أخرى.

لقد كانت هذه المسائل الثّلاث ضمن تصوّر عامّ، غايته الأولى هي تحقيق الانتساب إلى هويّة عربيّة وإسلاميّة، وغايته الثّانية هي تمثّل هذا التّراث تمثلاً حيّاً في محضنه التّاريخي الرّاهن، والغاية الثّالثة هي النّظر في ما كان إنتاجاً بشريّاً مختلفاً عمّا هو نصّ تأسيسيّ مقدّس، وذاك الإنتاج البشريّ، إنّما هو قابل للنّقد والتّفكير والمراجعة بغرض تهذيبه واستصلاحه وإنشاء جديد؛ فكما أنشأ السّابقون ما يخصّهم، لا بد علينا أن ننشأ ما يخصّنا نحن أيضاً، لأن أولئك رجال ونساء ونحن رجال ونساء أيضاً. إنّ تلك الطّاقة التّجديديّة التّحريريّة التي ذهبت إليها البرامج كانت من أجل إنتاج عقل مفكّر ومستقل، وذلك ما أكّدت عليه مبادئ الفصل الأوّل من الإصلاح التّربوي، وهو ينسحب على برنامج التّربية الإسلاميّة، كما ينسحب على برنامج الفلسفة والعربيّة والتّاريخ والتّربية المدنيّة، فهذه الاختصاصات كلّها تندرج ضمن العلوم الإنسانيّة والآداب والعلوم الاجتماعيّة، وهي تتعاظل وتتّفق لأن تصنع عقلاً مفكّراً وناشئة ذات مسؤوليّة ووعي بحريّتها، تنتسب إلى الدّاخل وتنتسب أيضاً إلى الكونيّة التي لا يمكن لتونس أن تُقتطع منها، لأنّ الحياة جزء من الرّاهن بقدر ما يمكن أن تكون في بعض منها جزءاً من السّالف.

د. نادر الحمّامي: هذا الاكتناز الذي عرفته تجربة الإصلاح التّربوي ومبادئها وفلسفتها مفهوم، وقد وضّحته تماماً، خاصّة في المسائل المتعلّقة بالهويّة والتّجذّر في السّياق الحضاري الذي ننتمي إليه، وقد مرّت على هذه التّجربة ثلاثة عقود شهد فيها العالم تحوّلات كبرى وجذريّة، كان لها تأثيرها في تونس، وفرضت مسائل أخرى لم يكن حيّز النّقاش حولها كبيراً في برامج الإصلاح التّربوي؛ مثل قيم المواطنة والحرّية والمساواة والفرد، إلى جانب ما أشرت إليه من نقائص بخصوص تعليم الإسلام المتعدّد، وما يمكن أن نلاحظه من ضعف المتابعة والتّكوين للإطار التّربوي الذي يضطلع بتطبيق ما رسمه الإصلاح من غايات، من هنا يبدو التّساؤل ملحّا؛ ألم يحن الوقت بعد لإعادة مراجعة هذا الإصلاح التّربوي، وفق تلك المستجدّات والضّرورات والنّقائص؟ وأن نهتم في هذا الإصلاح أكثر بأسس المواطنة من اهتمامنا بقيم التّجذّر في الهويّة العربيّة الإسلاميّة؟

د. المنصف بن عبد الجليل: هذه التّساؤلات حول جدوى المدرسة وصِلة المسألة التّعليميّة بالتّغيّرات التي تحدث في المجتمع التّونسي وفي غيره من المجتمعات، كانت مطروحة وقتئذ، وقد واجه برنامج الإصلاح التّربوي من يختلفون معه، شأنه في ذلك شأن بقية برامج الإصلاح. وقد نُعت بأنّه فوقي، بمعنى أنّه رُتّب في مدارج الوزارة واضطلع به جامعيّون، في حين أنّ المعنييّن بتطبيقه هم المعلّمون والأساتذة، وهذا ليس صحيحاً، لأنّ المخابر التي أذن الوزير وقتها بفتحها كانت مخابر جهويّة، وفي كلّ مكان، وكانت جميع الأصناف ممثّلة فيها، ولكن لمسائل عمليّة وتطبيقيّة لا يمكن أن يُسأل جميع المدرّسين والمعلّمين والمتفقّدين؛ ولذلك فقد ساهموا في وضع الاختيارات الأساسيّة لبرامج الإصلاح من خلال الهياكل التي تمثّلهم، ثمّ إن الإصلاح لا معنى له إن بقي مخبّأً في الرّفوف، ولا جدوى منه إن رُسم بمرسوم رئاسيّ أو وزاريّ دون أن يبلغ إلى ضمائر النّاس وإلى الثّقافة العامّة خارج المدرسة. وقد كنت من المستشارين الذين يزورون بكثافة قاعات الدّراسة في كامل الجمهوريّة، وكنت أعجب كيف أن بعض المدارس في مدن "راقية" كانت غير مستوعبة لهذا الإصلاح، في حين أن معظم المدارس في مدن أخرى "بسيطة" كانت متحمّسة له، وهنا أسجّل إعجابي بمدينة المتلوي (في الجنوب التونسي) حيث زرت مدارسها، ولاحظت تطبيقاً على غاية من الذّكاء لبرامج الإصلاح في الكثير من الدّروس التي كانت تُقدّم. لذلك أعتبر أنّ الصّعوبة في التّطبيق وفي المكوّنين وفي الآلة التي تبلّغ النّظري على أساس بيداغوجيّ وتطبيقيّ إلى النّاشئة بما يناسب فهمهم، وذاك يحتاج إلى عناية خاصّة بالمدرّسين وبالجهاز البيداغوجيّ، كما يحتاج إلى تكوين موازٍ للتّكوين النّظري الذي قامت عليه تلك البرامج. وإذا لم يحدث ذلك، فلن يكون هناك انسجام بين الغايات النّظريّة والتّطبيق العملي، وهذا جهد كبير لا يمكن تحقيقه في زمن وجيز، وإنّما هو يحتاج إلى عقود حتّى تترتّب مسألة الفاعلين فيه، وحتى تقبله الضّمائر، عندها تكون المدرسة قائمة بكل ما هو منوط بعهدتها تجاه النّاشئة، وتجاه المدرّس، وهو العمدة في التّعليم الابتدائي والثّانوي، ويحتاج إلى رعاية كبيرة حتّى يتحفّز للدّفاع عن مسألة وجوديّة تسمّى في هيكلها العظمي الإصلاح التّربوي.

د. نادر الحمّامي: لقد أخذت مسألة الإصلاح التّربوي هذا الجزء كلّه من حوارنا، ولعلّها تتطلّب مساحات أكبر من الحديث والنّقاش، بالنّظر إلى اعتبارها لبنة من لبنات إصلاح شامل للمجتمع ينطلق من النّاشئة والتّربية الأولى وصولاً إلى إنجاز الإصلاح بمفاهيمه الكبرى الدّينية والاجتماعيّة والفكريّة والثقافية، إلى غير ذلك من هذه العناوين الكبرى. ولعلّنا بهذا ننفتح على المحور الثّاني من حوارنا، لنحاول النّظر في مسألة الإصلاح الدّيني، وما يرتبط بها من قيم، في إطار ما يسمى تجديد وتحديث وحداثة.