الهوية الُمضلّلةٌ بيوتٌ الله الشائكةٌ


فئة :  مقالات

الهوية الُمضلّلةٌ بيوتٌ الله الشائكةٌ

 الهوية الُمضلّلةٌ

بيوتٌ الله الشائكةٌ([1])


هُنا في بلاد الكفّار، على حدِّ تعبير المهاجرين المسلمين، لا نستغرب، أنّ تَستوقفك سيدة أو رجل حسب نوع جنسك، لتسألك سؤالها الأول: هل أنت مسلمةٌ؟ على اعتبار، أن كل من يحمل ملامح شرق أوسطية وبكل الاحتمالات، هو، أخ لهم في الإسلام! وأحيانا تخدعهم، الملامح والصفات الخارجية، ما يؤدي إلى الحيرة والارتباك في تحديد الانتماء الديني، عندما يكون الجواب بالنفي! ليشعر المتسائل بالحرج ويعتذر بقوله لك: لا يهم، نحن جميعاً إخوة في الإنسانية!

في بداية وصولنا إلى نيوزلندا عن طريق هيئة الأمم المتحدة، تبادر إلى مركز إقامتنا العشرات من الإخوة في الإسلام المتطوعين لاستقبال المهاجرين الجدد، والاهتمام بهم على أساس طائفي ومذهبي، حيث يتبرع كل شخص من هؤلاء باستضافة أسرة وضيافتها لمدة يوم، على شرط أن تكون من انتمائه الطائفي والديني والمذهبي.

إنها دعوة القتل الحقيقي بالنسبة إلى الوطن والهوية الوطنية، التي تتآكل وتتعرى تحت أنياب الهوية المذهبية والطائفية، والتي تبدو على أشدّها خارج حدود الوطن.

تستقبل نيوزلندا العشرات من اللاجئين إليها، يحملون في عقولهم خرابهم التاريخي والإنساني والروحي من خلال حروب طائفية عاشوها، وأدت إلى هجرتهم خارج أوطانهم، فهل من المعقول أن يحمل الإنسان بين كتفيه سيفا قاطعا لحياته وإنسانيته ويورثه لأولاده في بلادٍ، منحتهُ حق الحياة والحرية والتعلم، منحته حق الجنسية والهوية والانتخاب وحق الاعتراض؟

على الرغم من كل المزايا التي يحصل عليها بعض المهاجرين المسلمين، تبقى عندهم عقدة، ألا وهي الانتماء إلى الجذور، لا أحد ضد هذه الفكرة إذ جميعنا، ننتمي إلى ثقافة وتاريخ ومجتمع، لا يمكن أن ننسلخ عنه مهما كانت الظروف، حتى الانسلاخ لا يعبر، عن ثقافة جديدة!

ولكّن الصراع الحقيقي لا يقتصر على اللغة والتاريخ والثقافة والحضارة التي يحملها المهاجر، والتي يحق له الانتماء إليها، وعدم نكرانها أو التملص منها كونها تشكل هوية وجوده الحقيقي، بلا منازع. ويبقى مهما حصّل على حقوق ٍ وامتيازاتٍ في البلاد الثانية، تبقى اللغة الأم والثقافة الأم، هما، عنصر وجوده والمعبر الحقيقي عنه!

مسألة الهوية، مسألة معقدة، جذورها تاريخية، وتحقيق الانسجام بين هويتين وثقافتين، تحدث عن صعوبتها كبار المثقفين، أمثال إدوارد سعيد وأمين المعلوف، وبدورهما خاضا صراعاً طويلا ً في فهم وتعريف الهوية وتعددها، ومناقشة فكرة الانتماء، ولكن هذا الصراع كان ضمن جذور معرفية وثقافة أثمرت حضورها بعيد ا عن المذهبية والطائفية، كون كلٍ منهما تشغلهُ القضايا الإنسانية الكبرى. ومن هنا كان ويكون مبدأ الحوار الخلاق في فهم الهوية وتعدّدها ومشاكلها.

توجد شريحة كبيرة من البشر المهاجرة، لا يتمتعون بالثقافة ولا يؤمنون بالتنوع الثقافي، هذه الشريحة، تمثلُ مفهوم أمة ومفهوم وطن، ومن هنا تكمن ُالخطورة في التعامل معها على أساس فكري، هي، التي تعيش أزمة ثقافة وهوية ودين وطائفية ومذهبية وتعصب وشعور بالأنا، من خلال تراكمات مذهبية طائفية، من هنا تبدو خطورة التعامل مع مثل هؤلاء! أجيال وأجيال من هؤلاء تربوا على المذهبية والعنصرية ومن شعورهم، بأنهم ليسوا على أرض الإسلام التي لم يتمكنوا منها، عبر الفتوحات التاريخية، لذلك نجد التطرف اليوم أتى ثماره على جميع المجتمعات بدون استثناء!

المهاجر العادي البسيط لا يحمل رسالة فكرية وثقافية، وإنما يحمل هوية دينية طائفية تربى عليها، ولا يمكن له أن يثبت وجوده إلا بهذه الهوية التي تقود إلى المزيد من التطرف والتعصب ليس عليه فقط، وإنما يورثها لأولاده، مع معاناتهم وتبريراتهم لفشلهم، الذي يعزونه لكونهم مقيدين، وليسوا على أرض مسلمة، وهذا ما يدفعهم إلى المزيد من التطرف والانزواء!

ملامح وصفات هذا التطرف

لم تعد الهوية، البطاقة الشخصية التي يحملها الفرد، والتي تحمل صورته واسمه وتاريخ ولادته أو أية علامة فارقة له تميزه عن غيره، وإنما أصبحت له هوية أخرى صنعها لنفسه، هي الزيُّ الذي يرتديه، ليؤكد انتماءه الديني. هذه الظاهرة ليست موجودة فقط عند المسلمين، وإنما عند الهنود والبوذيين وغيرهم من باقي شعوب العالم، ولكن الزي الإسلامي أخذ منظوراً آخر في تشكيل شخصية المسلم، إذ بات ينظر إليه على أنه مشتبه ٌبه، وفي كل الظروف والحالات بدون استثناء سواء رجلا أو امرأة!

المسألة في غاية التعقيد، البشر يهاجرون بسبب ضغوط نفسية واجتماعية وسياسية وعرقية ودينية، نتيجة المعاناة والاضطهاد، من حروب طائفية أو إقليمية، يتعرضون لها في بلدانهم ومجتمعاتهم، ويبحثون عن خلاصهم في دول الغرب، التي تقدم لهم الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية أو تمنحهم حقوقهم الكاملة ويمارسون حياتهم الطبيعة، دون أن يتعرضوا لسؤال عن الهوية أو الانتماء أو العرق، لهم حقهم في التعليم والتعلم مع أولادهم وتأمين المسكن والراتب والعمل بدون استثناء بين المواطن الأصلي واللاجئ الجديد، ومع ذلك نجد القادم الجديد يحاول أن يعيش في ضلال معاناته وقمعه، ويعلم أولاده التعصب الذي كان يخشى منه في بلاده، باعتبار أنه يحافظ على تراثه وتاريخه وحضارته الإسلامية التي تتمثلُ في الحجاب والنقاب وتأسيس بيوت العبادة لإقامة الصلاة فيها كونهُ مسلماً.

الشباب ُ المهاجر، ضُيق الخناق عليه من قبل الأهل، يعيش صراع الانتماء إلى الأهل بعاداتهم وتقاليدهم وصراعهم مع الحياة الجديدة، وعند أية محاولة للتغيير يقمعون عن طريق الأهل بحجة أن هذا التغيير هو تقليد للغرب، وإذا قلدّنا الغرب، يعني هذا أننا نتخلى عن الدين والهوية.

يشعر الجيل الجديد من الشباب المهاجر، في المدارس، والجامعات، ومجالات العمل، بانتمائه إلى أمة واحدة، سواء الأمة الإسلامية أو العربية، ولكن في حياتهم الخاصة، يأتي الأهل بقوانين وضغوط تُحرمُ على كلّ طائفةٍ المشاركة في الشعائر الدينية الخاصة بها، وإقامة الصلاة في صف واحد، لأن كلا منهما منقسم إلى طائفة مذهبية تختلف عن الأخرى، إذ يجمعهم كل شيء إنساني كالمشاركة في الأفراح وتبادل الزيارات بحدود الواجب وتفرقهم الصلاة، إذ إن أهل السنة يمنع على أهل الشيعة المشاركة في الصلاة في مساجدهم، وإذا دخلوها، عليهم أن يتوبوا ويتقبلوا الصلاة على مذهب أهل السنة، بمعنى أن يعلنوا ارتدادهم عن مذهبهم الشيعي، ولا يتورعون عن تكفير بعضهم البعض في الصلاة والصيام والقعود والترتيل، وبالمقابل تراهم يتحدون في مباراة كرة القدم أو الاحتفالات الرسمية التي تؤكد انتماءهم الوطني، وهنا تبدأ المفارقة القاسية في نقل صورة مُتخلفة متوارثة لأجيال هاجرت نتيجة معاناتها، ولكنها تُورثُ أبناءها جهلاً قاتلا ًيؤدي إلى زعزعة أمة بكاملها. هذا بدوره يفسر أسباب تعدد المساجد واختلافها حسب روادها!

إنّ موجة َ التطرف التي يشهدها العالم اليوم، تجعلنا نقف أمام مسألة محيرة تماماً في شخصية المسلم، وهنا لا أقصد جميع المسلمين، وإنما أقصد الذين اتخذوا زيَّهم الإسلامي هوية للتعبير عن إسلامهم في المجتمع الذي يعيشون فيه، وهم في الحقيقة لا يُنظر إليهم كطائفة أو أقلية مسلمة، بل ينظر إليهم، كونهم يمثلون شريحة حقيقية من هذا المجتمع الذي منحهم حق الحياة بكل أبعادها الإنسانية، ونراهم في الجامعات والمستشفيات، ودور التعليم، والبلديات، والبرلمان وفي كل عصب مهم في الدولة، حتى المرأة المحجبة، تتمتع بصلاحيات مطلقة استنادا إلى تأهيلها العلمي واختصاصاتها.

الزي الإسلامي..

يلعب الزي الإسلامي دورا في تحديد صورة وهوية المرأة المسلمة، إذ كل امرأة منقبة، محجبة أو ترتدي الجلباب، هي امرأة مسلمة، إذ إن إدراكهم لفهم الإسلام لا يمكن أن يكون إلا من خلال الزي الذي يحدد الهوية، وهذا ينطبق على الرجال؛ فكل رجل ذو لحية ٍطويلة وثياب فضاضة، هو رجل دين مسلم. ومن هنا، لا يمكن للغربي أن يفهم صورة المسلم إلا بهذا الشكل المثير، والذي بات يلفت نظر العالم إليه، ليضيف إليه صفة العنف والتطرف والإرهاب، خاصة بعد الأزمات العديدة التي شهدها العالم، وما وقع من عنف على يد متطرفين، أصبحت هذه الظواهر محل شك ومراقبة والتباس في أن تكون حاضنة لبؤر الإرهاب وحاميةً له.

وبالمقابل، كل امرأة بدون حجاب أو نقاب، فهي امرأة ٌغير مسلمة، كون الفكرة المكونة عن الإسلام والمسلمين، خاصة النساء، هي شكل الزي الذي ترتديه، إذ نجد العديد من النساء اللواتي تعرضن لضغوط من أزواجهن لارتداء البرقع والحجاب، كونهن يقمن في بلاد الكفار، اعتقادا منهن، بأن هذا الزي، يحفظ لهن هويتهن وانتماءهن الديني للإسلام، ولإعطاء، بالمقابل، صورة خاطئة عن شكل ومضمون الإسلام الذي لا يُعبُر عنه بالحجاب والنقاب!

لقد تعقدت المسألة وتوسعت، حتى دخلت دور الحضانة، بفرض الحجاب على طفلات صغيرات بعمر السنتين والثلاث سنوات، ولكن للمفارقة بين القوانين الفرنسية التي أعلنت منع الحجاب في المدارس، فما الذي يمكن أن تفعله قوانين نيوزلندا التي تقوم على مبدأ حرية احترام الإنسان وممارسة شعائره الدينية، ومنها تحجيب طفلات صغيرات السن في رياض الأطفال، لأن الصورة حقيقة مرعبة بحق الطفولة، وبحق جميع القيم الإنسانية في العالم؟ وهل من المعقول فهم أن ظاهرة تحجيب طفلة بعمر سنتين أو ثلاث سنوات يحافظ على هويتنا ومرجعيتنا الإسلامية؟

إن مثل هذه الهوية لا تمثل أي إنسان أو مخلوق بشري عاقل!

لقد أخطأ المسلمون وما زالوا يخطئون في نقل رسالة الإسلام للتعبير عن هويتهم الدينية بوجهها الصحيح، تجاه أطفالهم، وتجاه حقوق الطفولة في الحياة والحرية والتعبير عن الذات.

المسلم يقوم بجلد ذاته في بلاد لا تفكر به، ولا تتعامل معه من مرجع طائفي أو انتماءات دينية أو عرقية، حتى أنها لا تهتم ببناء الكنائس، ولا تدق الأجراس في أيام الآحاد ولا في أيام الأعياد، حتى أن كنائسهم مفتوحة وبلا عنوانين أو تسميات تنتمي إليها، ويمكن الدخول إليها في جميع الأوقات ولجميع البشر بدون المساءلة عن الهوية أو الانتماء المذهبي المسيحي الكنسي، باختلاف أنواعه.

من هنا نلاحظ الفرق والاختلاف في جوامع المسلمين المقامة في نيوزلندا، حتى كنائس المسيحيين القادمين من الدول العربية، تحمل كنائسهم انتماءاتهم الدينية كالكنيسة الأشورية، والكنيسة الكلدانية، كما تحمل الجوامع أسماء: عمر بن الخطاب، وأبو بكر، ومحمد، وفاطمة، وذلك حسب التقسيم الطائفي.

لماذا تتعدد بيوت الله في الغرب؟

في نيوزلندا، في مدينة أوكلاند فقط، من دون باقي المدن الأخرى، نرى عشرات الجوامع التي يشرف عليها المسلمون من كل جهات الأرض، حسب درجات تسلسل التعصب لديهم، سواء مسلما معتدلا أو متعصبا أو متطرفا، وتتعدد المساجد وتختلفُ أسماؤها، وهي مجاورة وقريبة لبعضها البعض، كنوع من التحدي والتباهي في إثبات الذات، لتأكيد نكران الآخر، ويظهر بالتباهي في قيمة المبلغ المخصص لبناء الجوامع أو الكنائس، والتي تحصل على تراخيص الشراء والبناء والملكية من قبل الدولة تحت شعار التسامح والتعايش الديني، بينما داخل هذه الجوامع يُدعى فيها إلى تكفير الدولة التي منحتهم هذه الحقوق، على أرضها، ضمن مفهوم التعايش الذي تؤمن به وتركز عليه قوانينها.

ما يلفت النظر، قيام هذه الجوامع في مناطق قريبة من بعضها البعض، ولا تتجاوز المسافة بين جامع وآخر بعض الأمتار، إذ نرى جامع عائشة، وجامع عثمان، وجامع أبي بكر في ذات المنطقة الإدارية، فما الذي يمنع هؤلاء، تحت مسميات جوامعهم، بالانضمام إلى بيت عبادة واحد؟

من الصعب إيجاد الأجوبة العقلية والمنطيقة، لتفسير هذه الظاهرة سوى الانتماء المذهبي الطائفي، لماذا لا يصلي المسلم السني في مسجد أبي بكر أو في جامع عمر بين الخطاب، التي لا تفصل بينهما عشرات الأمتار!؟

إن هذه الجوامع بتعددها، تحصل على منح مالية من الدولة، المضيفة لهؤلاء، فتكون الغاية والهدف من تعدّدها وكثرتها، هو جمع المال وجمع التبرعات المتدفقة، من جهات العالم، تحت شعار الحفاظ على هوية المسلمين في بلاد الغرب!

تروي الأحاديث أن الرسول وبعض من تشبه به من أصحابه كانوا يذهبون مشياً ويرجعون مشيا ًعلى أقدامهم للصلاة في المسجد الحرام، كي يزيد الله من أجرهم، ولكن الفرق كبير هنا بين من كان يمشي على قدميه للصلاة، وبين من يركب أفخر السيارات للوصول للجامع المجاور لبيته!

التعدد في بناء بيوت العبادة، ليس مقتصرا ًعلى المسلمين وحدهم، وإنما تعاني منه الطوائف المسيحية القادمة من سورية والعراق وغيرهم، الذين لا يختلفون عن المسلمين من حيث تعصبهم للكنيسة، ونرى انقسامات المسيحيين على أنفسهم كما نراها بين المسلمين أيضاً. هم يشيدون الكنائس التي تعبر عن اتجاهاتهم المسيحية، كالكنيسة الكلدانية والكنيسة الأشورية، ومن الصعب أن ترى طائفة تذهب وتصلي في الكنسية الأخرى، تماماً كما يحدث بين رواد جامع أبي بكر الصديق، أو جامع المحمدية، أو في جامع الإمام علي، الجميع ينشدُ الله أكبر، ولكن على منابر مختلفة لا تحمل في أنفاسها إلا التحريض على عداوة الآخر وتهميش الآخر وإلغائه بسبب ديني مذهبي طائفي، ولكنه لا يظهر في الكنيسة علنا، وإنما عن طريق معاملات وعقود الزواج، والذهاب إلى الكنيسة التي ينتمي إليها.

مفارقات الشخصية المزدوجة

كما أشرت في هذا المقال أعلاه، فإن المرأة المسلمة لها هوية مميزة لها، وهي الزي الإسلامي الخاص بها من حجاب ونقاب وجلباب. هذا الزي الذي أصبح مثار جدل في العالم كله من فرنسا إلى أستراليا، التي تزداد فيها العداوة تجاه المسلمين بشكل عام، وهذا ما لم نلحظه في نيوزلندا.

يعاني الرجل المسلم من انفصام شخصيته، عندما يعيش خارج بيئته ومجتمعه الإسلامي؛ فعندما ينتقل إلى بلاد أخرى يجعل من زوجته وبناته فداء له، كما كان إسماعيل كبش أبيه!

هنا ليس الفداء بالدم، وإنّما الفداء يكون من خلال إجبار الزوجة والبنات على ارتداء الزي الإسلامي من حجاب ونقاب وجلباب، يأخذها إلى شاطئ البحر بينما هو يرتدي المايوه أو الشورت، ويتقلد بالزي الغربي من خلال شكله الخارجي، ليظهر أمامنا نقيضان: رجل حداثي، يواكب العصر والموضة، بينما امرأته تسير بجانبه لا يظهر منها إلا عينان، هما كل حواسها التي تعيش بها، إذ جسدها لا يعرف الشمس ويداها لا تعرف الفصول، امرأة وضعت في أكياس سوداء تمضي حياتها بمراقبة الحياة بعيدا وبصمت وحقد، وإذا خرجت لمطعم أو منتزه تأكل من تحت نقابها، حتى أننا نجد حالات الطلاق على نطاق واسع في العائلات، بسبب القوة التي منحتها الدولة للنساء في حق التعليم والمعاش والمساعدة، إذ نجد الكثير من العائلات قد تمزقت بسبب تعنت الأزواج وتعصبهم.

فكرة إلغاء الآخر وهو في أرضه، وصاحب الحق في التشريع وتطبيق القانون: الشعائر والطقوس، يمارسها المهاجرون حسب طوائفهم وأديانهم، فهنا نرى الكنيسة والمعبد الهندي والبوذي والجامع والحسينية، ومهما كانت طريقة ممارسة هذه الطقوس، فلا أحد يتدخل بها من قبل الدولة وتعتبر من حقوق المواطنة على هذه الأرض؛ فمن الطبيعي جدا أن نجد الجامع يجاور الكنيسة، وكنيسة تجاور المعبد الهندي أو البوذي أو الحسينية؛ فاحترام الآخر يمثل ظاهرة حضارية تعبر عن التقارب والتعايش وإدماج المهاجرين في المجتمعات، وحتى المشاركة من قبل السكان الأصليين، باعتبارهم يتعرفون إلى ثقافات جديدة تعمق صلاتهم مع الآخر الذي يكفرهم على أرضهم!

والسؤال المهم جدّاً طرحه هنا: هل يستطيع المسيحي الغربي أن يبني كنيسة بجانب الجامع أو في أرض الإسلام؟ إذ نلاحظ هنا بناء جامع السيدة عائشة يجاور الكنيسة التي لا تحمل اسماً لها غير علامة الصليب.

يُروى عن الإمام الشافعي قوله: "ولا يُحدِثوا في أمصار المسلمين كنيسةً، ولا مجتمعًا لصلواتهم".

وعن الإمامُ أحمد قوله: "ليس لليهود ولا للنصارى أن يُحدِثوا في بلاد المسلمين، بيعةً ولا كنيسةً، ولا يضربوا فيها بناقوس".

إن جميع المساجد تمول من قبل دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، ويُمنع على أي مسيحي إقامة كنيسة في جزيرة العرب استنادا إلى حديث الرسول: "لا دينان في جزيرة العرب".

المفارقة الغريبة أن معظم الجوامع التي تقام في أوروبا وكل دول الغرب، معظمها ترفع علم المملكة العربية السعودية!

أتساءل، وعلى مبدأ المعاملة بالمثل، وهو شعار إسلامي: "العين بالعين والسن بالسن"، على اختلاف التفسير مع أنه يجوز القياس في التشريع الإسلامي، ماذا لو أصدر بابا الفاتيكان قراراً بمنع إقامة المساجد في البلاد المسيحية جميعها؟ وما هو رد فعل المسلمين على هذا المنع؟

إذ ُيعتبر حق من حقوق الدولة، الموافقة أو عدم الموافقة على قبول هذا التعايش، الذي لا يقر به أئمة المساجد أنفسهم، الذين يعيشون في ذات الوقت في بلاد الغرب!

بيوت الله المفتوحة..

الله محبة وعبادة في جميع الأديان، فلماذا هذا الخلاف حول التكفير والتحريم من دخول بيوت العبادة الأخرى والصلاة فيها؟

في المسيحية الله محبة، في الإسلام الله محبة، وبيوت العبادة مسيّجة ومسّورة بالأسلاك الشائكة.

بيتٌ يُرفعُ فيه اسم الله يجب أن يكون مفتوحاً على القلوب والعيون، كما بناء الكنيسة الغريبة، مفتوحة لا تقيد بأسوار ولا أسلاك شائكة، كما هي في المساجد والكنائس التي يبنيها المهاجرون.

ما يلفت النظر في طريقة بناء بيوت العبادة هذه، إذ تجمع لها الأموال الطائلة من الناس البسطاء بحجة أن التبرع للكنيسة كما هو التبرع للجامع نوع من أنواع العبادة، وتكفير عن الذنوب، إذ يقوم رجال الدين باستغلال البسطاء، بدفع أقساط أسبوعية أو شهرية للتبرع لبناء كنيسة أو جامع تحت حجة التأكيد على الدين والهوية الدينية، ليجد البعض أنه وقع تحت عملية نصب واحتيال.

أحد رجال الكنيسة كان قد استغل العشرات من العائلات البسيطة بالتبرع بالأموال على مدى سنوات، ليكتشفوا فيما يعد أنه تملك العديد من البيوت التي اشتراها في أستراليا ونيوزلندا، ولا يزال يُقنع البسطاء بأن مشروع الكنيسة ما زال قائماً، ولكنه بانتظار الترخيص المخصص لها. هذه الظاهرة نجدها عند الجميع بدون استثناء، إذ ظهرت حملة واسعة في نيوزلندا لتحجيب النساء المسلمات ودفع رواتب شهرية لتشجيع غيرهن من النساء على ارتداء الحجاب والنقاب.

إله ٌواحدٌ، مزقته الأديان وقسمته ُقطعاً قطعاً، وأعطى كل واحد لنفسه الحق في أن هذه القطعة هي إلهه الكامل الذي لا إله إلا هو.

الدين شجرة جذعها في الأرض وفروعها الإنسان الذي تنوعت أشكاله وألوانه وخطاباته. كان موحداً إلى جميع البشر، في عبادة الرب الأعلى الذي نوره السموات والأرض، ولكن لماذا نجد بيوته على الأرض محاطة ومسورة بالأسلاك الشائكة؟

يجب أن تكون بيوت الله مفتوحة واسعة مضاءة بنوره. البشر لهم أيضا بيوت في السماء كما وعدهم الله بدون تمييز طوائفهم ومذاهبهم، ولكنهم جعلوا بيوت الله على الأرض متفرقة وشائكة ويمنع الدخول إليها للصلاة، إلا من كان ينتمي إلى طائفة مؤسس الجامع، ولو كان من نفس الجنسية والبلد، ولكنه ليس من ذات المذهب! القضية عميقة وحساسة في مسألة التعايش الذي تسعى إليه المجتمعات، حيث نزعة التشكيك والتحريم والاعتداء السافر على روحانية هذه البلاد، بأن تسمح لنا بممارسة شعائرنا الدينية، وإقامة دور العبادة التي نرغب فيها، وهي تعلم تماما أن الإسلام كمبدأ ونظرية يكفّرها.

إن حق الإنسان حقُ محترم، حسب كافة القوانين والتشريعات في العالم، إلا عند المسلم الذي يرى، رغم تعصبه وجهله، أن دينه هو الدين الصحيح، الدين الذي يقتلُ باسمه ويكفر باسمه. هذا ما نشهده اليوم في عصر الدم والوحشية التي اتخذت الأبرياء في كل الأرض هدفا لها!


[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 35