الوجه الآخر للاستشراق : الانفلات من قبضة المركزية الغربية


فئة :  مقالات

الوجه الآخر للاستشراق : الانفلات من قبضة المركزية الغربية

كشفت الكتابات والدراسات النقدية للاستشراق ومناهجه، على أن علاقة الغرب بالشرق، أو الشمال بالجنوب بتعبير، علاقة سيطرة وهيمنة من لدن الغرب على الشرق بكل مكوناته، أكثر ما هي علاقة تواصل وحوار وتبادل ثقافي، ولقد ذهبت جل الدراسات الاستشراقية ضحية هذه النظرة التسلطية، بخضوع ما هو علمي ومعرفي لما هو سياسي واقتصادي.

ومن المسلم به أن علاقة الغرب بالشرق، علاقة منفعة مادية استعمارية، أكثر ما هي علاقة علم ومعرفة وتواصل، وخير دليل على ذلك هو التقسيم الجغرافي للدراسات الاستشراقية، حيث كان نصيب الاستشراق الفرنسي هو شمال إفريقيا، ونصيب الاستشراق البريطاني الدول التي خضعت للانتدابه وما جاورها، وانفرد الاستشراق الروسي بأوروبا الشرقية.

لقد دخلت الدراسات الاستشراقية في أزمة معرفية ومنهجية بعد سنة (1945)؛ أي بعد بسط النفوذ والهيمنة على العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، إذ أن المطلب السياسي الغربي في صلته بالشرق، اقتضى متطلبات أخرى، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وباتساع حركات المد التحرري في العالم الاسلامي، وعجز المستعمر من وتجريد وفصل الذات المسلمة من مقوماتها الاسلامية، عكس ما كان يتوقع؛ أي أن جزءا كبيرا من جهد الدراسات الاستشراقية ذهب سدى، وهذا يعني موت الاستشراق القديم الذي من غاياته الأساسية التشكيك في أسس المرجعية الإسلامية وعلى رأسها القرآن الكريم استجابة لمطلب سياسي استعماري محض أكثر مما هو علمي، ومن بين المستشرقين البارزين في هذا الاتجاه، نجد المستشرق (كولد زيهر1921/1850) ورينان، وغيرهم كثير.

نتيجة لهذه الأزمة التي من ورائها تغير النظرة السياسية لعلاقة الغرب بالشرق، ونتيجة للكثير من الأحداث والتغيرات، أهمها حصول الكثير من الدول الإسلامية على الاستقلال؛ ففي هذه الآونة ظهرت أهم الدراسات النقدية للاستشراق- على رأسها كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق"[1]، كما أن التطور العلمي والمعرفي في الغرب أفرز وجهات نظر من لدن كتاب غربيين انفلتت من قبضة المركزية الغربية في نظرتها إلى الشرق.

وهذا ما سنحاول أن نلقي عليه الضوء، ومن بين تلك الكتابات كتابات المفكر الفرنسي روجي كارودي، والمفكر الألماني مراد هوفمان والمستشرق ماكسيم رودنسون،ومويس بوكاي، وغيرهم كثير.

1- الاستشراق استجابة للمركزية الغربية:

لم يتجه الغرب لدراسة الشرق إلا استجابة لنزعة ذاتية؛ "فأبرز ما قررته المركزية الغربية هو قولها بالخصوصية المطلقة لتاريخ الغرب الذي أنضجته عوامل خاصة داخلية،وأثمر عن حضارة غنية ومتنوعة، ثم التأكيد على أن المجتمعات التي تريد أن تبلغ درجة التقدم، ليس أمامها إلا الأخذ بالأسباب ذاتها التي أخذ بها الغربيون، وليس أمام تلك المجتمعات إلا التخلص من خصوصياتها الثقافية".[2]

ولهذا كرس المستشرقون الأوائل، أمثال رينان وكولد زيهر جهودهم لضرب الخصوصية الإسلامية، بدءا بالتشكيك في أسس المرجعية الإسلامية؛ أي مصادر الوحي لأن الغرب منذ القرن 15 وما تلاه حتى القرن 19 "تقدم بمشروع سياسي على صعيد العالم، وهو: مشروع تجانس الإنسانية المستقبلي من خلال تعميم النموذج الغربي"[3] وخطورة هذا المشروع تتجلى في تسويغ وتبرير الاحتلال الغربي للعالم، كما تتجلى في تبرير جرائم الحرب والرأسمالية الاستعمارية حالا وفي القرن الماضي وما قبله، إذ من الصعب أن نعثر على دراسات وكتابات لمستشرقين تستنكر فظاعة الغرب الاستعماري في صلته بالشرق، وحتى إن حصل ذلك؛ فقد انفلت أصحابها من قبضة المركزية الغربية، والسؤال المطروح هنا ما هي الرؤى الفلسفية والمعرفية التي من وراء هذا التمركز حول الذات بإقصاء الآخر؟

إن علاقة السيطرة التي حكمت الغرب في صلته بالطبيعة هي نفسها التي انعكست على علاقته بالإنسان والثقافة، ونظرة السيطرة هذه تشكلت لدى الغرب بعد انهيار سلم التصور اللاهوتي لديه " إذا اقترنت الولادة الرمزية للغرب الحديث بشيوع التفكير العقلي ـ العلمي، داخل إطار منهجي مغاير للإطار الذي أشاعه النموذج اللاهوتي"،[4] وهذا يعني أن نظم المعرفة والفلسفة في الغرب منذ فرانسيس بيكون (القرن 17) ومن تلاه، قد تشكلت في معزل عن الدين بشكل عام، ولقد فصل الدكتور عبد الله إبراهيم في هذا الموضوع من خلال كتابه "المركزية الغربية"، إذ بين البعد المركزي للفلسفة والعقلية الغربية منذ "فرانسيس بيكون (1561م ـ 1626م)" إلى "هيجل (1770م ـ 1831م)" الذي اعتبره من المساهمين بشكل أكبر "مما فعل أي فيلسوف غربي حديث في تعميق صورة التمركز الغربي، القائم على أساس التفاوت بين الغرب الأسمى والأرفع عقليا وثقافيا ودينيا وعرقيا، والعالم الأدنى والأحط من كل ذلك، فصاغ بذلك غربا يتربع على هرم البشرية، ويدفع باتجاه تثبيتها في وضع يمكنه إلى الأبد أن يظل في القمة".[5] ولقد خلص إدوارد سعيد إلى أن الدراسات الاستشراقية هيمن عليها هاجس التفوق "الذي يضع الغرب في سلسلة كاملة من العلاقات المحتملة مع الشرق دون أن يفقده للحظة واحدة كونه صاحب اليد العليا".[6] و نذكر هنا بأهمية ما كتبه عبد الوهاب المسيري تحت عنوان فقه التحيز، وإبرازه لتحيز الغرب لذاته في جميع المجالات، السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية.[7]فالبعد المنهجي للتحيز للغرب لذاته من خلال الدراسات الاستشراقية بين وواضح.

2- الدراسات الاستشراقية والانفلات من قبضة المركزية الغربية:

سنورد في هذه الفقرة بعض النماذج لمفكرين ومستشرقين غربيين، تميزوا بالموضوعية في نظرتهم للإسلام والي الغرب في الوقت ذاته.

أ- روجي كارودي:

"تتميز كتابات كارودي بخصب غير اعتيادي، وبقدر كبير من العمق والشمولية...إنها بلا ريب انعكاس لقراءاته المكثفة، ولتنوع هذه القراءات، وهي كذلك وليدة تجربته الحياتية المتنوعة بالخبرات ومعايشته للمذاهب والأديان الكبرى في العصر الحديث".[8]

يرى كارودي بكون" طريقة الغربيين في النظر للفرد على أنه المركز والمقياس لكل شيء، في إنقاص واقع الشيء إلى المفهوم؛ أي رفع العلم والتقنيات إلى قيم مثلى كوسيلة لمعالجة الأمور والناس هي استثناء صغير جدا في الملحمة البشرية التي يبلغ مداها ثلاثة ملايين سنة"[9]؛ "فهذا الوجه المشؤوم للدور الذي يلعبه الرجل الأبيض في التاريخ هو ما أدعوه بالشر الأبيض".[10]

ويقيم كارودي النهضة الأوروبية بقوله: "إن النهضة التي ليست حركة ثقافية فحسب، وإنما ميلاد الرأسمالية، والاستعمار المتلازمين، وأبعد من أن تكون ذروة المذهب الإنساني، قد هدمت حضارات أرقى من حضارة الغرب في علاقتها بالإنسان والطبيعة بالمجتمع وبالإلهيات"[11]ولم يكتف كارودي بهذا، بل يرى أن"الرؤية الغربية تحد العالم بحدود أفقها الخاص".[12]

من خلال النصوص السالفة الذكر، يتضح أن كارودي يفكر خارج الأنساق المرجعية للفكر الأوروبي، وهذا ما جعله ينفرد بمواقف خاصة حول نظرته للإسلام ولحضارته، وكذلك نضاله ضد الامبريالية والصهيونية معا، ونجده يعرف الإسلام بعيدا عن تعريفات المستشرقين، بقوله: "الإسلام هو تلك الرؤية لله، وللعالم وللإنسان التي تنيط بالعلوم وبالفنون، وبكل إنسان وبكل مجتمع. مشروع بناء عالم إلهي وإنساني لا انفصام فيه"[13]، فهو ينظر إلى الإسلام نظرة تكاملية، يحصل فيها التكامل بين العلم والإيمان، بين الدنيا والآخرة، بين الناس أجمعين رغم اختلاف أجناسهم؛ فالإسلام في نظره هو التآلف بدل الصراع والتناقض، وهذا يتجسد في مبدإ التوحيد في الإسلام "ففي المنظور القرآني ليس الإنسان هو خليفة الله على الأرض فحسب ومسؤول عن الطبيعة وتوازناتها على المستوى العالمي، ولكن عقيدته هي مبدأ عمله وقوانين مجتمعه فلا الاقتصاد ولا السياسة ولا العلم ولا الفنون تستطيع الانفصال عن العقيدة التي تعين لها غاياتها الإلهية والإنسانية؛ فالحياة بجميع أبعادها تجد في الله وحدتها".[14]

ولكن ما هو الحل في نظر كارودي لخروج العالم من قبضة المركزية الغربية ومن إحالاتها الفلسفية.

طرح كارودي في هذا الصدد مشروعا تحت عنوان من أجل حوار بين الحضارات؛ فالحوار في نظره كفيل بإعادة الاعتبار للتراث الإنساني ككل، وهذا يعني أن الغرب والمركزية الغربية في حاجة إلى إعادة اكتشاف الآخر "و عليه، كل شيء في ميدان العلاقات الاجتماعية والسياسية في الغرب يجب إعادة بنائه على أسس جديدة، وهكذا يتطلب هذا المشروع أن يستنطق ألوان الحكمة ومختلف الثورات في القارات الثلاث"[15]وهذا فيه دعوة إلى إعادة فهم وقراءة موروث الشرق قراءة موضوعية، "فبحوار الحضارات هذا فحسب، يمكن أن ينشأ مشروع على مستوى الكوكب الأرضي كله، من أجل إبداع المستقبل، من أجل ابتكار مستقبل الجميع، بمشاركة الجميع".[16] وبهذا فكارودي يدعو إلى إعادة صياغة العالم وفق وعود الإسلام، الذي خلص إلى أن الحقيقة والحق يكمن فيه فقط، ووجب التذكير هنا بالمضايقات التي تعرض لها كارودي من طرف اللوبيات الصهيونية، خاصة بعد إصداره لكتاب، الأساطير المؤسسة للدولة الاسرائيلية، ومع الأسف أن الشرق لم يتقبل أفكار كارودي بالشكل المنهجي المطلوب، ففي الأعم يتم التعاطي مع طروحات كارودي وغيره بمنطق عاطفي أكثر ما هو عقلي ومعرفي؛ فالرجل عندما يتحدث عن الإسلام فهو لا يعني بذلك إسلام القرن الهجري الأول أو الإسلام كما تبلور في التاريخ عند الفقهاء وعلماء الشريعة، أو الإسلام كما يفهمه الإسلام السياسي اليوم، وإنما يعني الإسلام المنفتح والمنسجم مع مقتضيات العصر والزمن الذي نحن فيه.

ب- موريس بوكاي:

في الوقت الذي لم تكف فيه الدراسات الاستشراقية عن التشكيك في مصداقية وصحة القرآن الكريم، أصدر بوكاي في أواخر عقد 70 ومطلع 80 كتابا تحت عنوان : "القرآن والثوراة والإنجيل والعلم"، خلص من خلاله باعتماد منهج المقارنة بين المعطيات العلمية وما ورد في هذه الكتب الدينية، إلى أن جانب الصحة والعلمية متوفر في القرآن، وغائب في غيره من الكتب الدينية؛ أي أن القرآن يتضمن كثيرا من الحقائق التي يقول بها العلم اليوم، فهو يرى : "أن صحة القرآن التي لا تقبل الجدل تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل، ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد...لسبب بسيط هو أن القرآن ثبت في عصر النبي وأنه لم يتعرض لأي تحريف من يوم أن نزل على الرسول حتى يومنا هذا".[17]

إن بوكاي يقصد الفرق البين والواقع بين نصوص المسيحية واليهودية والإسلام المتجسد في نص القرآن، إن الحق واليقين في نظره مع القرآن، عكس ما ادعته الدراسات الاستشراقية، فهذا الموقف لبوكاي يشكل وجها آخر للغرب، الغرب الذي يبحث عن الحقيقة خارج الأنساق الثقافية المسيحية، يقول بوكاي: " فإذا وجدنا في القرآن إشارات لوقائع علمية فذلك هبة من الله، تلك الهبة التي تبرز قيمتها في عصر تحاول فيه المادية... ذات القاعدة العلمية - أن تفرض نفسها على حساب الإيمان بالله".[18]

ج- موراد هوفمان:

مراد هوفمان مفكر ألماني، من مؤلفاته: طريق فلسفي إلى الإسلام، ودور الفلسفة الإسلامية، والإسلام كبديل، ويوميات مسلم ألماني...، لقد عمل المؤلف على البحث في ماهية الصورة الحقيقية للإسلام والحضارة الإسلامية، وعلى تجاوز النظرة الاستشراقية التي صورت الإسلام كعدو للغرب، وهو يلح على فهم حقيقة الإسلام، ويرى في الإسلام المبادئ البديلة عن ما تتبعه البشرية اليوم.

د- دور منغم:

دور منغم، مستشرق فرنسي أصدر كتاب "حياة محمد" 1929، وهو كتاب في السيرة النبوية، امتاز بالعلمية والموضوعية، فهو يبدأ رسم ملامح الرسول المبعوث بقوله: "إذا كانت كل نفس بشرية تنطوي على عبرة، وإذا كان كل موجود يشتمل على عظة فما أعظم ما تثيره فينا من الأثر الخاص العميق المحرك الخصيب حياة رجل يؤمن برسالته فريق كبير من بني الإنسان".[19]

ويعلق على اعتزال الرسول الأكرم في غار حراء، بقوله: "التأمل الطويل يطهر النفس وينبه روح المعاينة، ويؤدي إلى كشف ما وراء الحجب، ويحث على العمل عند الضرورة،والتأمل الصحيح يعمل بذور الحركة والتحرر من الهوى الطارئ"،[20]وهو يرى أن محمد بن عبد الله بتعبده في غار حراء قد حقق هدفين: الأول هو الاقتراب من الحق، والثاني الانفصال عن الباطل، وهذا الحق يتجلى في النفس الصادقة: "إذ أن نفس محمد (ص) النقية الصادقة التي اتصلت بما وجدته في قراراتها من الحقائق".[21]

يعلق عماد الدين خليل على كتاب دور منغم"حياة محمد" بقوله: "إن الكاتب يرحل طويلا في حياة محمد (ص) فتشده بين لحظة وأخرى هذه المفردة، أو تلك من سلوكيات الرسول (ص)؛ فيقف عندها قليلا لكي يقدمها للبشرية، وكأنه يقول لقرائه أن رجلا كهذا لا يمكن إلا أن يكون مبعوثا من الله سبحانه مرتبطا بأسباب السماء".[22]

هذه النماذج وغيرها كثير، تعكس الوجه الآخر للغرب في نظرته للشرق؛ فالضرورة العلمية تقتضي اكتشاف هذه النماذج وإعطائها ما تستحق من الدراسة والتحليل والنقد.


[1]- أصدرت ط.1 منه سنة 1981

[2]-المركزية الغربية، عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط.1،1997، ص 33

[3]-نفسه، ص 33

[4]-نفسه، ص 57

[5]-المركزية الغربية،م.س، ص146

[6]-الاستشراق، إدوار سعيد، مؤسس الألحان العربية، بيروت، ط.7، 2005، ص 42

[7]-انظرفقه التحيز، إعداد عبد الوهاب المسيري، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991

[8]-الوجه الآخر للغرب،عماد الدين خليل،ط.1، 1997، الرسالة، بيروت، ص 11

[9]-من أجل حوار الحضارات، روجي كارودي، دارالنفائس، ط.1، 1990، بيروت، ترجمة: زقاق قرقوط، ص 11

[10]-نفسه، ص 11

[11]-من أجل حوار الحضارات مرجع سابق، ص 11

[12]-نفسه، ص 31

[13]-روجي كارودي، وعود الإسلام، ترجمة زقاق قرقوط، الوطن العربي، القاهرة-بيروت، 1974، ص22

[14]-نفسه، ص59

[15]-من أجل حوار بين الحضارات مرجع سابق، ص12

[16]-نفسه، ص12

[17]-القرآن و الثوراة و الإنجيل موريس بوكاي، نقلا عن الوجه الآخر، لعماد الدين خليل، ص95

[18]-نفسه، ص107

[19]- دور منغم حياة محمد، ترجمة عادل زعيتر،ط.2، دار الإحياء الكتب العربية، القاهرة، 1949، ص8

[20]-نفسه، ص 73

[21]-نفسه، ص139

[22]-الوجه الآخر للغرب، مرجع سابق، ص138